بعيداً عن لغة المدح الخادع، وفاءً للوطن، للروح الوطنية ورداً على نداء الملك الموجه لأبناء الوطن للنقد البناء، رغم قساوته، أكتب هذا المقال. خطاب الملك بمناسبة مرور 20 سنة على العرش كان رداً على مجموعة من التطورات التي قد تهدد السلم الاجتماعي والاستقرار في البلاد إن استمر الوضع على ما هو عليه، ركز على استمرار المشاريع الكبرى، الانفتاح الاقتصادي، استثمار الكفاءات، ضخ دماء جديدة في الحقل السياسي، وصياغة نموذج تنموي جديد. لكن كيف ستنجح هذه الإجراءات في غياب الإنسان؟ هل المشاريع الكبرى، ابتداءً من سياسات التقويم الهيكلي، ستعالج شعباً نخرته مظاهر الفساد القيمي وأصبحت فيه كرامة المرء درهماً؟ كيف يمكننا صياغة نموذج تنموي جديد في ظل نخب الريع المطبلين والمهللين والخائفين من غضب وليّ النعمة؟ لمعالجة هذه الأسئلة لابد من الرجوع قليلاً إلى الوراء والوقوف عند مكامن الخلل عسى أن نجد مسارات للتفكير الصحيح. اعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية رافقته مجموعة من التطلعات الشعبية لإصلاح ما أفسده الملك الراحل الحسن الثاني بعد أن أوصل المغرب "للسكتة القلبية"، حسب تعبيره، على مجموعة من المستويات: اقتصاد مبني على الموسم الزراعي، مؤسسات سياسية مشلولة، وحدة ترابية غير مكتملة، فساد النخب السياسية، ضعف على المستوى الإقليمي…إلخ. أرسل الملك مجموعة من الإشارات لبدأ صفحة جديدة عبر منهجية جديدة للتواصل مبنية على العمل الميداني (التدشينات اليومية)، الظهور علانية بمعية زوجته، تنحية البصري، الإنصاف والمصالحة، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، المشاريع الكبرى وغير ذلك من الخطوات التي رآها المتتبع على أنها تبرز إرادة وروحا جديدة في تسيير البلاد. غير أننا عاينّا في نفس الوقت خرقً للمنهجية الديمقراطية عبر تجاوز نتائج انتخابات 2002 وتعيين رئيس حكومة تقنوقراطي، تحول المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى وسيلة للريع السياسي، خروج حزب إداري جديد بهدف إعادة تشكيل المشهد السياسي، المحاصرة السياسية لحزب العدالة والتنمية، حركة العدل والإحسان وباقي شوائب السلفيين العائدين من الشيشان وأفغانستان… عاش المغرب على وقع هذه التحولات بين هاتفٍ بحياة الملك و خائف من التموقع الذي قد يكلف صاحبه غالياً، إلى أن هبت رياح الانتفاضات في شمال إفريقيا والتي شملت المغرب، لتكون جرس إنذار لسياسات لم تُخرج المغرب من مستنقع الهشاشة والفقر ولتعطي نفساً جديداً للحركات المعارضة في المغرب. رد فعل الملك كان فيه كثير من الذكاء السياسي، حيث استوعب الحراك، شتت قدرته التعبوية واستعمل ورقة حزب العدالة والتنمية كإشارة على الرغبة في إعطاء نفس جديد للحقل السياسي، غير أن التراجعات كانت سريعة، حيث أُعيد التحكم من جديد في مختلف المؤسسات وتم إعادة إفراغ مؤسسة الحكومة والبرلمان من وظائفهما، وجعلهما كإدارة لتنفيذ القرارات وتمرير القوانين، فأصبحنا نسمع رئيس الحكومة يقول بأن الحكومة هي "حكومة صاحب الجلالة" وزعيم المعارضة يجيبه بأن المعارضة هي "معارضة صاحب الجلالة"، ليتم تكملة قتل المؤسسات المنتخبة في الانتخابات التشريعية الأخيرة عبر التدخل المباشر للدولة العميقة من خلال حزب الأصالة والمعاصرة للإطاحة بحزب العدالة والتنمية، عندما لم ينجح الأمر، تم جعل أمر تشكيل الحكومة مسألة مستحيلة ليتم تنحية بنكيران وتعويضه برئيس حكومة ضعيف. فقدان الثقة في المؤسسات ظهرت إبان احتجاجات الحسيمة، عندما رفض المحتجون أية وساطة بينهم وبين الملك لحل مشاكل المنطقة، ليسلك هذا الأخير المنهجية الأمنية لمحاولة إطفاء نار قد تنتشر في باقي مناطق المملكة، فتم سجن النشطاء وتحوير النقاش من البحث عن سبل إعادة بناء نظام جديد لتوزيع الثروة وخلقها إلى الحديث عن مشروع "منارة المتوسط" المتوقف وإطلاق سراح سجناء الحراك. نجحت المنهجية مرحليا وتم إخماد الديناميات الاحتجاجية في منطقة الريف وباقي المدن الهامشية كزاكورة (احتجاجات العطش) وجرادة (ساندريات الموت). تطور الفعل الاحتجاجي بعد ذلك في أشكال تعبوية جديدة يطبعها استعمال المجال الرقمي كفضاء للتعبير عن عدم الرضى، حدث ذلك إبان حملة المقاطعة، الغضب من "ساعة الملك"، الاحتجاج التلاميذي على الساعة الإضافية، بالإضافة إلى باقي مظاهر السخط على تدبير الشأن العام وتوزيع الثروات. عنوان هذه المرحلة كان المواجهة المباشرة مع المؤسسة الملكية، مع المستفيدين من الريع ومع الحكومة المنفذة للقرارات الفوقية. إضافة إلى مشكلة فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها، نجدنا اليوم أمام فقدان انسانية الإنسان داخل هذه الدولة، فمظاهر الفساد القيمي والأخلاقي أصبحا درهم التعامل بين أبناء الوطن الواحد، فالغش في العمل، الكذب في المعاملات، التطبيع مع الفساد، قبول العنف المجتمعي، تشجيع الفردانية ونبذ قيم التضامن تحت شعار "راسي يا راسي" وغير ذلك من الأمراض المجتمعية الخبيثة صاروا في مجال "العادي" و"المقبول". لم ينتج ذلك من فراغ، بل هي نتيجة لسياسات اقتصادية وتعليمية طبعت مغرب ما بعد الاستقلال واستمرت إلى اليوم، فمخطط التقويم الهيكلي مثلا كان له أثر مباشر على تركيبة المجتمع، حيث انتقلنا عبر سياسة تحديد النسل وتشجيع نموذج الأسرة النووية، اللتين اندرجتا ضمن هذا المخطط، من تركيبة الأسرة الممتدة الحاملة لقيم التضامن، الاحترام وتركيز/ بناء الثروة عبر العائلة/الجماعة، إلى تركيبة الأسرة النووية التي تركز على قيم الفردانية وتسهل صناعة مجتمع الاستهلاك، حيث أنه عوض بناء منزل عائلي واحد أو "رياض" أصبحنا أمام نظام الشقق، وعوض الاجتماعات اليومية حول مائدة الطعام (وكل ما يحمله ذلك من حمولة قيمية) أصبح الاجتماع في المناسبات العائلية والدينية فقط، وعوض روابط الاحترام بين أفراد العائلة الواحدة أصبحنا أمام روابط المصلحة إن وُجِدت أو انعدام الروابط في غالب الأحيان. قد يبدو ذلك بسيطاً وهامشياً، لكننا اليوم نشاهد تبعاته يومياً، فإن لم يكترث الفرد لعائلته فكيف له أن يكترث للوطن، إن لم يُسعف الأخ أخاه فكيف له أن يُسعف الغريب، أن يُفرق الإرث شمل العائلة فكيف يمكننا أن ننتظر من الفرد ألا يفترق عن أبناء وطنه من أجل المال والجاه. نعم لقد خلقت السياسات الليبرالية الثروة لكنها قتلت الإنسان وشجعت الجشع، مثل ذلك كمثل الذي بنى بيتا وأعده لأبنائه غير أنهم قتلوه وفرقوا ثمن ما بناه، لأنه بنى البيت ونسي بناء قيم الحب والتضامن بينه وبين أبنائه. السياسات الاقتصادية التي طبعت السنوات العشرين من حكم الملك كانت بنفس النفحة الليبرالية، وساهمت في ترسيخ قيم الفرد عوض الجماعة، انفتحت اقتصاديا ونسيت أن تُسلح المجتمع والاقتصاد أمام إعصار السوق والعولمة، فتاه المواطن والوطن، وأصبحت الوطنية والهوية تتلخصان في راية، نشيد، صورة لملك البلاد على الحائط والصراخ بأن الصحراء مغربية، فهل هذه هي الوطنية والهوية التي ستحصن المغاربة، لا أظن ذلك، فالوطنية هي في قول الحق ولو كان مؤلماً، قبول النقد و الاعتراف بالخطأ وإصلاحه، في تربية النشء الصالح، في حب الأرض ومن يقف عليها، في الدفاع عن الوطن أمام من يريد إقصاء أو تهميش أي جزء من تركيبته، في أن يعمل الرباطي بكل جهد لكي يكون للريفي نفس جودة العيش، في أن يجتهد المراكشي لكي تكون للداخلة نفس الحركية الاقتصادية وأن يساهم الوجدي في نهضة الزاگوري… والهوية هي في أن يختفي الانتماء ذي الطابع القبلي أمام الانتماء الأكبر أي الانتماء للوطن الذي لا يجعل من الانتماء السياسي، الاجتماعي، الديني، اللغوي، العرقي، الجنسي أداة للتفرقة بل هوية تجمع في وعائها كل هذه المكونات. ختاماً لهذا المقال، أذكر بقصة الملك العاري التي توارثناها من التراث الشفهي المغربي، وهي قصة ملك أوهمه ثلاث نصابين بأنهم سيصنعون له زيّاً من ثوب لا يراه إلا الأبناء الشرعيين من رعاياه الذين يستحقون العيش في بلاده، اقنعوه بذلك وابتدأوا في "النسج"، بعد أن انتهوا، لبس الملك زيه الجديد وامتطى فرسه ليجوب المدينة وليرى من هم أبناء الوطن الغير الشرعيين الذين لن يستطيعوا رؤية الزي والذين يستحقون النفي خارج البلاد، خوفا من العقوبة قام جميع المواطنين بإبداء إعجابهم بالزي الجديد، غير أن أحدهم لم يكن على علم بما يحدث وقال للملك بأنه عاري، فأمر هذا الأخير بعقابه وبنفيه، حينها تشجع باقي المواطنين وقالوا لملكهم بأنه لا يلبس شيئاً، عندها أيقن بأنه تعرض للخداع من النصابين الثلاثة. فالملك هنا هو الوطن، وفاضِحي النصابين هم الوطنيين الغيورين على مغربهم والذين لا يريدون له أن يكون عاريا أمام باقي الأمم، هم من قال لا في وجه الفساد والنهب الذي يتعرض له الوطن، هم من أحيوا حب الوطن في القلوب اليائسة، هم ذلك المواطن البسيط الذي يخرج للصراخ إن وجد أن هناك من يمس استقرار بلاده، هم أبناء الريف وجرادة وزاكورة و20 فبراير وغيرهم مِن مَن وصفهم الملك بأنهم لم يستفيدوا من الازدهار الاقتصادي للبلاد، هم من يستحقون الخروج من السجون ليحرسوا بلادهم من انزلاقات الفساد تحت شعار "الله، الوطن، الملك"، الله الذي يقبل ويحب المسلم واليهودي والمسيحي واللاديني، الوطن الذي يتسع لكل مواطنيه بمختلف إثنياتهم وتوجهاتهم السياسية، والملك الذي يقف سندًا وحكماً بين مؤسسات الوطن ويسهر على وحدته الترابية ويضمن كرامة إخوانه وأخواته.