يبدو أننا بحاجة لأن ندق الأجراس مذكرين بأن الثورة المصرية قامت لتغير المنكر الأكبر المتمثل فى الطغيان الذى حل بالبلاد، وان المعروف الذى ننشده هو أن يتوافق الجميع على إقامة نظام ديمقراطى يتمتع فيه كل مواطن بحقه فى الحرية والكرامة. (1) أعذر كل من انتابه الخوف والقلق من استخدام مصطلح الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، الذى ابتذله بعض المتدينين الهواة، خصوصا انه تحول إلى عنوان لتجارب فاشلة لدى جيراننا، تحولت إلى عبء على المجتمع وعلى السلطة ذاتها. ذلك انه ما خطر ببال أحد من علماء الفقه والأصول أن يختزل «القطب الأعظم فى الدين» بتعبير الإمام أبوحامد الغزالى، الذى هو باب للنهوض بالأمة وصلاح أمرها، بحيث يصبح فى نهاية المطاف نوعا من الركض فى الشوارع لتتبع سلوكيات الناس وازيائهم، أودعوة لإغلاق المحال التجارية فى أوقات الصلاة. هذا التهوين من شأن القيم الدينية الذى يستخف بها ويفرغها من مضمونها، جزء من التدهور المشهود فى حياتنا الثقافية، التى بات الهزل فيها يختلط مع الجد والرعونة والحمق يتقدمان على الرصانة والمسئولية. الأمر الذى أوقعنا فى نهاية المطاف بين شرين، شر المتدينين الهواة، وشر المتربصين والمتصيدين لما يصدر عن الأولين من زلات وسقطات يتم تعميمها والتهويل من شأنها بهدف الإثارة أو التخويف وإشاعة الذعر. فى ظل ذلك التدهور صرنا نتابع حوارات غريبة حول جواز مصافحة الأقباط وتهنئتهم فى أعيادهم. وموقع المايوهات البكينى فى نظام ما بعد الثورة بعدما فاز الإسلاميون بالأغلبية فى الانتخابات. وما إذا كان التصويت لليبراليين حلالا أم حراما، وهل هؤلاء الليبراليون كفار أم لا، وقرأنا لمن قال ان التصويت فى الانتخابات هو فى جوهره تصويت للجنة أو النار. كما شهدنا جدلا حول الخلافة الإسلامية ومدى إمكانية قيامها فى زماننا.. بل قرأنا مرافعة حول مصطلح «ميرى كريسماس»، باعتباره من ضرورات الحداثة والعصرنة، وتحدث آخرون عن التماثيل الفرعونية وهل هى أصنام أم لا.. إلى غير ذلك من الحوارات العبثية التى تجسد الانفصال عن مشاكل المجتمع الحقيقية، وتعبر عن الخلل الفادح فى ترتيب الأولويات والانصراف عن الجد إلى العبث. الأمر الذى ينطبق عليه قول الجاحظ أنه: سقم فى العقل وسخف فى الرأى، لا يتأتيان إلا بخذلان من الله سبحانه وتعالى. (2) حين قال الشيخ محمد الغزالى رحمه الله أن الناس فى بلادنا ينتفضون ويثورون إذا هتك عرض أى فتاة، ولكنهم لا يبالون إذا هتك عرض الأمة، فإنه كان ينتقد الخلل الفادح فى العقلية التى لا ترى المنكرات العامة، وتنشغل بما هو خاص منها وحدها. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن عوام المتدينين، والسلفيين بوجه أخص، يستنفرون لقضية عرى النساء، لكنهم لا يحركون ساكنا إذا صارت الأمة عارية من كل ستر وفاقدة لأسباب المنعة والنهوض. ويستفزهم اختلاء شاب بفتاة لكنهم لا يرون غضاضة فى استفراد طاغية بشعبه وتنكيله بمعارضيه. والقياسات الأخرى كثيرة، وكلها تفضح المدى الذى بلغه قصر نظر بعض المتدينين الذين لا يرون حتى مواضع اقدامهم. ذلك انهم يتجاهلون المنكرات العامة التى تشكل التحديات الكبرى ويشغلون أنفسهم بالمنكرات الخاصة والصغرى، مع ان الأولى ليست أخطر فحسب ولكنها أيضا مقدمة على الثانية من وجهة النظر الأصولية والشرعية. فما يهم المجتمع بأسره مقدم على ما يخص بعض أفراده. ودفع الضرر الأكبر أولى من التصدى للضرر الأصغر. إننا لم نسمع من إخواننا هؤلاء كلاما عن مكافحة الفقر والظلم والبطالة والفساد ونهب ثروة البلد والطوارئ والتعذيب وغير ذلك من صور المعاناة التى تعذب الملايين وتثقل كاهلهم، فى حين ظلت جموعهم وتظاهراتهم محصورة فى دائرة التفلت السلوكى والأخلاقى والحديث الذى لم يتوقف عن المحظورات والمكروهات. وإذ أفهم أن يكون ذلك أسلوب آخرين فى مجتمعات تقمع فيها الحريات. ويحظر على الناس أن يتكلموا فى الشأن العام، فمن غير المفهوم أن يمضى سلفيونا فى مصر على ذات الدرب بعدما غيرت الثورة من الأجواء، ولم يعد هناك عذر لمنسحب أو صامت. ان التصدى للمنكرات العامة من ذلك القبيل الذى ذكرت هو من أوجب واجبات مرحلة التحول التى نحن بصددها. ليس فقط لأنها تمثل تحديات رئيسية. ولكن أيضا لأنها تحظى بإجماع لا يكاد يختلف عليه أحد، الأمر الذى يعنى أننا بذلك نحقق مكسبين فى آن واحد. فنعبئ المجتمع لصالح قضاياه الكبرى من ناحية، ونحقق الاجماع الوطنى الذى نفتقده من ناحية ثانية. هناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة هى أن المنكرات العامة التى سبقت الإشارة إليها من الأمور التى لا تحتمل الاجتهاد أو الخلاف الفقهى (الاختلاط والغناء والموسيقى مثلا)، فى حين أن المنكرات الخاصة والصغرى التى ينشغل بها السلفيون أكثرها محل خلاف. ومن الشروط التى تعارف عليها الأصوليون أنه لا ينبغى انكار ما هو مختلف عليه، لأن ما يراه البعض خطأ قد يراه آخرون صوابا مباحا. إن إخواننا هؤلاء مشغولون بالمحظورات وبالخصم من حياة الناس، لكنهم لا يحدثوننا عن المباحات أو أى إضافة تنفع الناس. علما بأن النص القرآنى والأحاديث النبوية كلها قدمت الأمر بالمعروف على النهى عن المنكر. لكنهم اسقطوا الشق الأول حين لم يدلوا الناس على أى معروف، وجعلوا النهى عن المنكر وحده قضيتهم ومحور حركتهم. (3) رغم أن الغموض والشك يحيطان بمن اطلقوا فى مصر فكرة تأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إلا اننى لم أفهم لماذا تختص هيئة بذاتها بهذه المهمة، فى مصر أو فى غيرها من الدول. بل أكاد أزعم أن تأسيس مثل تلك الهيئة هو جزء من ابتذال الفكرة واستهلاكها. ذلك أن تكوين الدولة الحديثة وفر العديد من الوسائل والهياكل التى تنهض بالمهمة أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكرات، العام منها والخاص. فالمؤسسات المتمثلة فى الأحزاب والنقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدنى المختصة بالدفاع عن حقوق الإنسان، والمجالس النيابية والمحلية المنتخبة، وكذلك الأجهزة الرقابية إذا كانت مستقلة، هذه كلها كيانات ومنابر تقوم من الناحية الموضوعية بمهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من زوايا مختلفة. إن هذا التكليف الشرعى الجليل أكبر من أن تنهض به جهة بذاتها فى داخل الدولة، وانما تتوزع مهامه على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها الأهلية، التى تتولى مسئولية النهوض بالمجتمع وتحقيق الإصلاح السياسى والعدل الاجتماعى، كما تتولى مكافحة كل فساد أو انحراف فيه، جنبا إلى جنب مع مؤسسات التربية والتعليم والإعلام والوعظ والإرشاد. لذلك فمن الأوفق أن تدعو تلك المؤسسات لأن تتحمل مسئوليتها إزاء تحقيق الإصلاح المنشود، بدلا من أن يترك الأمر لبعض الهواة الذين يتصورون أنهم يقومون بدور الوصاية على المجتمع فينفرون ويفسدون بأكثر مما يصلحون، كما حدث فى التجارب الأخرى المماثلة. (4) بقيت عندى كلمتان فى الموضوع، الأولى أن عملية تغيير المنكر ينبغى أن تمارس بعقل واع ويقظ تتوافر له أربعة شروط هى: 1 إدراك المقاصد العليا وتصويب النظر إليها طول الوقت. ويضرب المثل فى ذلك بقصة النبى موسى وأخيه هارون، التى وردت فى القرآن الكريم، حين غاب موسى عن قومه فأغراهم أحدهم السامرى بعبادة العجل فعبدوه. وهو ما فاجأ سيدنا موسى عند عودته، فنهر أخاه وأنَّبه جراء ذلك لكن الأخير رد عليه قائلا «يا ابن أم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى، إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى« (سورة طه: 94). وقد استشهد الدكتور يوسف القرضاوى بالقصة فى حديثه عن فقه الموازنات، حيث وجد أن هارون آثر أن يسكت على عبادة العجل رغم أنها من قبيل الشرك لكى يحافظ على وحدة قومه ويتجنب فتنتهم. وهى الحجة التى قبل بها النبى موسى ولم ينكرها. إذ وجد وجاهة فى الإبقاء على وحدة قومه، وذلك هدف جليل، رغم مروق بعضهم وعبادتهم للعجل من دون الله. 2 ملاحظة أن ثمة ضرورات تفرض نفسها على الواقع على نحو يبرر إباحة بعض المحظورات. إذ كما ان للفرد ضروراته، فكذلك المجتمع الذى قد تفرض عليه ضرورات اقتصادية أو عسكرية أو اجتماعية. وهذه وتلك ينبغى أن تكون لها أحكامها الاستثنائية التى تستمر باستمرار الضرورة. 3 إنه لا غضاضة فى السكوت على المنكر إذا ترتب على تغييره منكر أكبر منه، دفعا لأعظم المفسدتين وارتكابا لأخف الضررين، واستنادا إلى ذلك المبدأ قرر الفقهاء مثلا طاعة الإمام الفاسق إذا أدى خلعه إلى إثارة فتنة أكبر من فسقه. 4 ضرورة مراعاة سنة التدرج، وهو المبدأ الذى سار عليه الإسلام من البداية إذ تدرج بهم فى الفرائض كالصلاة والصيام والجهاد. كما تدرج بهم فى تحريم الخمر وحدوث التدرج فى التشريع يسوغ التدرج فى تنفيذ الأحكام. الكلمة الثانية تخص المكلفين بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ذلك ان التغيير له مراتبه الثلاث المعروفة، ولكل مرتبة أهلها. وحسبما يذكر الشيخ محمود شلتوت، الإمام الأكبر، فى كتابه «من توجيهات الإسلام»، فإن التغيير باليد منوط بالحكام القادرين على التغيير العملى العام وأرباب الأسر فى محيطهم والمربون وسائر الرؤساء الذين ملكهم القانون شيئا من صور التغيير العملى. أما الإنكار بالقول مرتبة التغيير الثانية فهو منوط بأهل الوعظ والتوجيه سواء كانوا من رجال الدين والتربية والقائمين على منابر الإعلام. أما من يعجز عن التغيير بالفعل أو بالقول فعليه أن يعبر عن موقفه بما نسميه الإنكار السلبى، الذى يدفع المرء إلى مقاطعة أهل المعصية ومظانها. ذلك ان المؤمن إذا لم يستطع أن يكون حربا على الباطل وأهله، فلا أقل من ألا يصبح عونا لهم. كما يقول الشيخ محمد الغزالى. إن الخفة التى يتعامل بها بعض المتدينين الهواة من التكاليف والأحكام الشرعية باتت تصد الناس عن سبيل الله، وتوفر للصائدين والكائدين زادا مستمرا للتخويف والترويع من الإسلام وأهله.