يمكن القول بادئ ذي بدء إن ما أفرزته انتخابات 25 نوفمبر تجلى في إنتاج خريطة سياسية مبلقنة وإن كانت من دون تزوير، إلا أنها وضعت كل أطراف القوى السياسية في حيص بيص، أي في حرج شديد، وبعيداً عن تحليل نسب الممانعة والامتناع عن التصويت أو المشاركة، فضلاً عن الأصوات الملغاة، وعلى الرغم من أن كل حالة من الحالات المذكورة تخضع للتأويلات المتباينة وحسب مواقعها، وفوق هذا وذاك لا قيمة لما يطرح من استنتاجات وخلاصات في غياب أبحاث ميدانية إثنية وإنثروبولوجية وسوسيولوجية وجغرافية عن الهيئة الناخبة، سواء المسجلة أو غير المسجلة في اللوائح الانتخابية حضرياً وقروياً: أصنافها وطبائعها، رغباتها وطموحاتها، دون الحديث عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي، إذ من دون كل هذا يصعب تحديد ما يتحكم في اختياراتها لعدة عوامل، منها استهلاك المال بوفرة، لارتباطه بالفقر والجهل والأمية، وهناك الانتماء القبلي والإثني والعائلي، والخضوع لسلطة الأعيان، وتوجيهات أعوان السلطة المختفية عن الأنظار، في انتظار الامتيازات التي تمنح قبل عملية الاقتراع، وما بعدها، ولو في حدود ضيقة، بينما يظل الانتماء الحزبي بمفهومه التنظيمي المحض هو الحلقة الضعيفة لعوامل تاريخية متوالية، وانتكاسات مشبعة بالإحباط، منها ما هو ذاتي، وما هو موضوعي، بالإضافة إلى العامل الجغرافي وارتباطاته، ولا ننسى الإشارة إلى وجود طائفة كبيرة جداً يخضع اختيارها في لحظة الاقتراع إلى نزوات عاطفية، وليست حتى مجرد عقاب، وقد تكون رغبتها مسايرة للتيار العام داخلياً أو خارجياً. كل ما ذكرناه لا يؤدي حتماً إلا إلى معرفة مؤقتة لطبيعة الخريطة السياسية المنبثقة عن صناديق الاقتراع في ارتباطها باللحظة الآنية للرغبات المعبر عنها. ما يميز انتخابات 25 نوفمبر أنها جاءت في غير أوانها، أي استجابة لاحتجاجات الشارع، وفي سياقها الإقليمي والعربي، وفي ضوء دستور جديد استباقي يراد منه امتصاص الغضب، وكان هذا عامل من عوامل فرض نزاهتها وشفافيتها. يقتضي الحديث عن النزاهة بحث كل أنواع الخروقات والشكايات لكي تشكل بدورها مادة للتحليل في أفق إمكانية التغلب عليها مستقبلاً، حيث تم الوعي بأن المجتمع لم يعد قادراً على تحمل المزيد من التزوير والتدليس، واللعب بالإرادة الشعبية في ظل الفساد، والتحكم كما كان في الماضي في صنع الخريطة السياسية حسب أهواء سلطة الإدارة المتحكمة في إنتاجها، وما تريد إفرازه من معطيات لإحكام الطوق على مقاليد البلاد حفاظاً على المصالح القائمة. لقد سمحت انتخاب 25 نوفمبر في حدود نزاهتها المرئية بوضوح نسبي لحجم القوى المتنافسة، وعندما أقول "وضوح نسبي" نظراً لكونها خضعت لعوامل داخلية وخارجية مترابطة يكمل كل عنصر من عناصرها الآخر، مما يفرض قراءة متأنية لنتائجها، وحتى فيما يتعلق بنسبة المشاركة ستظل بكل المقاييس نسبية، إذ لا يمكن اعتبارها نجاحاً ولا إخفاقاً ما دامت خاضعة لملابسات الظرفية، ولما سبق ذكره في البداية، إذ يصعب الاستناد إلى معيار سياسي. هل هذا يدعو إلى التخندق الإيديولوجي، بعيداً عن السياسة وملابساتها ؟ هل التحالف مع التيار الإسلامي، قد يساعد على الاستقرار والطمأنينة ؟ وهل بإمكانه أن يحقق نقلة نوعية ؟ وإن كان يصعب من سيكون المستفيد منها. ما هو مدى وعي التيار الإسلامي بمسايرة من سيتحالف معه في ظل الخلاف القائم في الرؤية الإيديولوجية ؟ ليست هناك إجابات جاهزة عن كل الأسئلة المطروحة، لكن ما هو واضح للعيان أنه ليس من السهل تدبير أي نوع من التحالف السياسي المطروح سواء كان مرتقباً أم مفاجئاً، ولكونه جاء بعدياً، كما أنه ليس من السهل اعتبار أن وجاهته تنبثق من اللحظة التاريخية الآنية والعوامل الفاعلة فيها، فضلاً عن إمكانيات الاشتغال المشترك فيما يتعلق بطبيعة البرنامج المرحلي، حتى ولو كان يغيب فيه البعد الإيديولوجي لحل مشاكل النمو والبطالة والتشغيل والسكن والتعليم والصحة والبنية التحتية للبادية المغربية بكل مرافقها الضرورية. هل يكفي وجود برنامج وطني تتحكم فيه الإرادة الفعلية في أفق ترسيخ معطيات المرحلة ونتائجها من أجل إقامة مجتمع ديمقراطي، ومن دون التخلي عن ثوابت العصر: حقوق الإنسان والديمقراطية والحداثة بمفاهيم التطور الإيجابي ؟ لا شك أن نتائج الانتخابات قد وضعت كافة الأحزاب في موازين اللاتكافؤ بما فيها الإسلامية والتقدمية والليبرالية والإدارية، والقوى الصغيرة بكل توجهاتها، مما يجعلها في موقف حرج [وإن كان هذا يعود لنمط الاقتراع الحالي والتقطيع الانتخابي الذي لا يتيح لحزب ما أن يحقق فوزاً ساحقاً يؤهله لتولي مسؤولية الوزارة الأولى، حيث يكون التحالف قبلياً لا بعدياً. وإذا بقي نمط الاقتراع كما هو سيعاد تكرار النتائج نفسها] وهذا ما يجعل أي نوع من المعارضة أكانت شكلية أم جذرية مجرد واجهة لا غير، إذا لم تتمكن من توسيع قاعدتها الجماهيرية فيما بعد، فإنها ستعيش المعضلة نفسها بما هو أسوأ ما لم تتغير ملامح الخريطة السياسية في اتجاه القطبية. يمكن أن نضيف في هذا الصدد أن أي حديث عن أشكال المعارضة وفوائدها، وأدوارها الافتراضية أو المحتملة سيظل مجرد شعارات ما لم يتسم بالفعالية لإعادة بناء أداتها الحزبية واستعادة وهجها وقوتها دون إلغاء التفكير ملياً في احتمالات التطورات المرتقبة خلال خمس السنوات القادمة. وهنا لابد من استحضار تجارب المعارضة التقدمية، والتمييز بين مرحلة كان صوتها مدوياً في ظل القمع والاعتقالات والمنافي، ومرحلة الانفتاح الديمقراطي، وتأسيس دولة الحق والقانون، أي وضع الركائز النهائية لمشروع الانتقال الديمقراطي بكل توجهاته ومضامينه السياسية. تطرح في هذا السياق قضايا محورية، من المفروض من وجهة نظر الفعل السياسي أن تشكل نضالاً مشتركاً بين القوى التي تريد فعلاً تقدم البلاد، من بين هذه القضايا : - الحرص على التطبيق العملي للنص الدستوري. - المشاركة الفعلية في إنجاز القوانين التنظيمية المرتبطة ببنود الدستور. - محاربة الفساد والمفسدين والتصدي لداء الرشوة واقتصاد الريع. - الارتباط بهموم الناس وقضاياهم من أي موقع كان. تعد هذه المحاور من حيث المبدإ القاسم المشترك بين أغلب القوى السياسية، لا تحتمل أي نوع من المعارضة، إلا أن الإشكال يكمن في التوجهات الإيديولوجية، وفيما ينتظر من حكومة حزب العدالة والتنمية الذي سيتولى تدبير الشأن العام . طبيعي أن يكون الجواب هو ما ينتظر من أي حكومة ديمقراطية أفرزتها صناديق الاقتراع، أي تطبيق برنامجها السياسي بما فيه الوعود الاقتصادية أساساً، مما يضع تحت المجهر مدى الوفاء بكل التعهدات المعبر عنها أيام الحملة الانتخابية، وفي ضوء ما كان يصرح به أثناء الوجود في المعارضة، ومن دون نسيان مدى القدرة على بلورة المرجعية الدينية في إطار واقع المجتمع وتركيباته. إنها أول تجربة لتيار إسلامي أتيحت له الفرصة لتولي سلطة الحكومة المدعمة بسلطة تشريعية بتحالفاتها المرتقبة إذا ما تحكمت في مكوناتها، إلا أن الإشكال الذي سيواجهه حزب العدالة والتنمية ينحصر في مدى تطابق برنامجه وبرامج الحلفاء المرتقبين الذين سيشكلون معاً أعضاء الحكومة، وإلى أي حد سيتم التناغم والانسجام ؟ لا يمكن التنبؤ في مجال الممارسة السياسية، لأنها قابلة لكل الاحتمالات والمفاجآت التي تحملها الأحداث المرتقبة أو المحبوكة أو المختلقة، آنذاك لكل مقام له مقامه. إن ما ينبغي نسجله عرضاً تجلى في الرغبة التي عبر عنها رئيس الحكومة المعين للتحالف مع أحزاب الكتلة الديمقراطية، لكونها الأكثر تمثيلاً للطموحات الشعبية، ولما لها من تجربة في مجال تسيير الشأن العام، وفي دواليب الدولة والأجهزة الحكومية، فضلاً عن كفاءات أطرها. لا شك أن هذه الرغبة يجب أن توضح في المقام الأول على الرغم من اختلاف التوجهات والمرجعيات، وسواء تمت الاستجابة لها كلياً أو جزئياً ففي الحالتين معاً سيتم تحديد أفق المرحلة القادمة وما ستفرزه من معطيات لاحقة. كيف يجب إذاً معاملة الإشكالات المطروحة على مجمل القوى من دون استثناء في ضوء مستلزمات طبيعة المرحلة التي خضعت في نهاية المطاف لتطورات ميدانية عربياً وإقليمياً ودولياً سمحت لتيار إسلامي أن يبرز باعتباره قوة استجابت لرغبات داخلية، من دون إبعاد المواقف الغربية المتحولة أوروبية وأمريكية، وقد أضحت مؤثرة في الشأن الداخلي دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي ضوء أزماتها البنيوية. لقد أدت عوامل شتى إلى القبول بالمنهجية الديمقراطية على مضض، مع العلم أن القوى السياسية الحزبية وعلى صعيد الأقطار العربية لم تكن فاعلة في سياق كل التطورات الجارية خلال هذه السنة، بما فيها التيارات الإسلامية التي بدأت تقطف ثمار احتجاجات الشارع وثوارته الربيعية. لقد صار القبول بالمنهجية الديمقراطية أمراً واقعاً، لا محيد عنه، سواء في تحمل المسؤولية الحكومية أو التموقع في صف المعارضة، بغض النظر عن الخلل التنظيمي الذي قد يعتري أي حزب من الأحزاب في مسيرته النضالية، وهذا ما سيجعل التعبير إزاء التحالف مع التيار الإسلامي عسيراً، لما يكتنفه من تناقضات ذاتية وموضوعية، قد يطغى على ما هو ذاتي الجانب الأيديولوجي، وما هو موضوعي قد يرتبط بما له علاقة بالسياسي وإشكالاته، ولا مخرج في الحالتين إلا بتقديم البديل المنتظر، ووضع مسار الانتقال الديمقراطي في سكة النجاة، وفي ضوء استحضار التجارب الماضية منذ العقد الأخير من القرن الماضي إلى الآن، أي منذ حكومة التناوب التوافقي وملابسات إجهاضه، ومروراً بحكومة التكنوقراط وتصريف الأعمال وحكومة التناوب المؤقت، يمكن بشكل من الأشكال اتخاذ موقف سياسي يستجيب لما تفرضه اللحظة الآنية التي ليست نهاية المطاف. إذا كانت الانتخابات التشريعية قد أفرزت بداية تناوب ديمقراطي تطبيقاً لروح الدستور الجديد الذي أيدته أغلب القوى السياسية، فإن هذا وحده معطى أساسي لطبيعة المرحلة الجديدة، مما يدعو ويتطلب تطبيق مواد بنوده، والاشتغال الجماعي فيما يتعلق بقوانين تنظيماته سواء داخل الجهاز الحكومة أوفي صف المعارضة الواعية بمهام اللحظة التاريخية لإبراز مدى مسايرة ثقافته الدستورية بجانب التحولات الجارية، والرغبات المعبر عنها. وخلاصة القول إن التحدي الأكبر الذي ستواجهه الحكومة القادمة وبأي مكون من مكوناتها هو مدى قدرتها على تطبيق برنامجها السياسي، فهي لن تواجه فقط جيوب المقاومة التي ليست في مصلحتها تطور العملية الديمقراطية في المسار المرغوب فيه، بل ستكون أمام امتحان عسير فيما تدعو إليه في مجال تخليق الحياة السياسية والاجتماعية بما فيها أساساً العامل الاقتصادي، وهنا تختلف الرؤى، إما أن تخضع لرؤية يمينية متخلفة أو رؤية تقدمية وحداثية مشبعة بروح العصر، وهذا ما سيعطي زخما واندفاعاً للمعارضة الحداثية والتقدمية، هذا بالإضافة إلى ما له علاقة بالسياسة الخارجية، أي عدم الخضوع للقوى الأجنبية وإملاءاتها الاقتصادية أو السياسية، ورفض كل تدخل مهما كانت حيثياته ومسبباته في المسيرة الحالية. تتحدد في هذا الإطار الخطوط الحمراء، وكلها مؤشرات قد تتحكم في استمرارية تجربة حكومة التناوب الديمقراطي أو فشلها، إذ لا وجود لشيء ثابت في السياسة، مع العلم أن توجهات المعارضة القادمة، لن تجرؤ على المغامرة، لأن الواقع التطوري للحياة السياسية المغربية يتطلب تغليب المرجعية الدستورية والقانونية للدولة على المرجعية الإيديولوجية والحزبية، وعدم الانزواء المدمر، أي البقاء في دائرة تحليل عابر لنتائج الانتخابات مهما كانت بالنسبة للبعض مخيبة للآمال، لأن الرهان الحقيقي هو إنجاح الانتقال الديمقراطي للتمكن من بناء حقيقي للحياة الحزبية بكل تياراتها، وهنا يبرز الدور الطلائعي للمعارضة السياسية في حالة انسجام أطروحاتها، لا لكي تستعيد أنفاسها فقط، بل للإسهام في بناء واقع سياسي جديد مختلف عن الممارسات السابقة.