على امتداد أزيد من 6 سنوات تقريبا، تتوالى الأخبار معلنة اعتقال ومحاكمة عديدا من الخلايا المتطرفة ذات النوايا الإرهابية بالمغرب (فاس، خريبكة، طنجة، مكناس، تطوان، آسفي، القنيطرة،…). حيث بلغ عدد الخلايا التي تم تفكيكها بين 2015 و2017 من قبل المكتب المركزي للأبحاث القضائية، 49 خلية واعتقال 772 شخصا، يُعتقد أنها كانت تخطط لارتكاب أعمال تخريبية في المغرب. وفي الوقت الذي يعكس هذا الأمر يقظة السلطات الأمنية وكفاءتها العَملياتية، يستدعي الأمر إثارة مجموعة من القضايا التي ظلت مؤجَّلة في نقاشنا العمومي. فعقِب تفجيرات الدارالبيضاء في 16 ماي 2003 على سبيل المثال؛ والتي أودت بحياة 31 مدنيا (مغاربة وأجانب) وشرطيَيْن وإصابة ما يقارب مائة آخرين، بالإضافة إلى 12 قتيلا في صفوف المنفذين؛ امتلأت الجرائد بمقالات وحوارات لمتخصصين ومفكرين انْبَروا لمساءلة هذه الأحداث وخلفياتها وامتداداتها، وأدلى الساسة بدَلوهم في الملف لاعتبارات كثيرة، بعضها انتخابية وأخرى سياسية، كما نُشرت دراسات وكتب. كان النقاش على أشده، تتجاذبه المقاربات العلمية تارة، التناول السياسي تارة، والمرجعيات الأيديولوجية تارة أخرى. وكان النقاش صحيا رغم محاولات البعض الركوب على الحدث بما يخدم مصالحه الفئوية. لكن الملاحظ حاليا أنه بالرغم من العدد الكبير جدا للخلايا النائمة التي جرى تفكيكها ظل النقاش العمومي بعيدا عن مساءلة هذه التطورات الجديدة. لماذا؟ هل ينتظرون أن تُنَفَّذ – لا سمح الله – عمليات دموية فعليا حتى يرفعوا أصواتهم استنكارا وتضامنا وتحليلا وتصفية للحسابات السياسوية؟ أم أن موضوع الإرهاب أصبح مستَهَلكا بعد المنسوب الهائل من القتل والعنف والفرجة الدموية الذي غطى مشهد الشرق الأوسط والعالم منذ سنة 2012؟ كان من المفروض أن يدفع هذا العدد الكبير للخلايا المذكورة إلى فتح نقاش وطني، سواء داخل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أو المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية أو أكاديمية المملكة المغربية أو وزارة الأوقاف أو غيرها من مؤسسات التفكير والبحث الرسمية وغير الرسمية، حول علاقة الثقافة والواقع المغربيين والمناخ الدولي المحيط بهما بتفريخ الإرهابيين والإرهابيين المحتملين في صفوف شبابنا. هذا لم يحدث. كأن الإرهابيين المعتقلين بالجملة وفَدوا علينا من خارج البلاد وليسوا منتَجا محليا بدرجة أساسية. فالحال، وهو ما تنطق به مختلف المؤشرات المجمَّعة من داخل المغرب وخارجه (سوريا، ليبيا، إسبانيا، بلجيكا، فرنسا) تُوحي أن المغرب صار مَفرَخة للإرهابيين. لماذا وصلنا إلى هذه النتيجة؟ وإلى متى سيستمر المكتب المركزي للأبحاث القضائية في أداء دور السوبرمان الوقائي الذي يحمي المغاربة من متطرفين يتحينون الفرصة لإرهاق دماء المغاربة وغير المغاربة من دون أن يرف لهم جفن؟ ما أعتقده شخصيا هو أن هذا الكم الهائل من عدد الخلايا الموقوفة يعد أكبر مؤشر على فداحة المشكلة التي يعرفها المغرب على هذا الصعيد. ولا يجب أن تَحجب الكفاءة الاستخباراتية والأمنية الإخفاق التربوي والتثقيفي الكبير الذي يقف وراء الظاهرة؛ إذ السؤال الأساس هنا ليس: متى يتم القبض على الخلايا الأخرى؟ بل: لماذا هذا العدد الكبير من هذه الخلايا؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ ومن له المصلحة في جعل موضوع الإرهاب والإرهابيين موضوعا محصورا على المقاربة الأمنية وفي دَوائر الكبار بعيدا عن تداول الحكومة ونقاشات البرلمان والتلفزة ومؤسسات التفكير ومخططات التنمية؟ تُهرِّب القنوات التلفزية هذا النقاش عبر اختزال التفكير في الأسباب والنتائج في صور هيتشكوكية تثير إعجاب المواطن بقدرات اللقوى المنية، لكن دون أن تَنْفُذ إلى عمق المسألة. كان أجدى أن يستمر البحث المفتوح في ظاهرة الإرهاب والإرهابيين المغاربة، حتى يتلقح المجتمع ضد التدين المتطرف، ويتشبع بتدين يُعْلي من قيم التسامح والتعايش والاختلاف والتفكير النقدي. لقد جرى تسطيح و/أو اختزال و/أو تدجين أداء عديد من مؤسسات التربية والتثقيف والتأطير (التلفزة، المسجد، الزاوية،…) وإضعاف و/أو تجاهل و/أو التضييق على بعضها الآخر (أحزاب وطنية، جمعيات ثقافية جادة، مراكز بحثية مستقلة،…) وحصرُ وظيفتها في ممارسات طقوسية موقوتة خالية من الروحانيات العميقة والتدين الواعي والفكر النقدي والتربية الإنسانية والمنافسة الشريفة، وذلك بالموازاة مع المغامرة في تحالفات استراتيجية مع قوى دولية استثمرت قُربها السياسي من المغرب لتصدير نماذج ثقافية هشة وقابلة للتحول إلى تيارات متطرفة (السلفية الوهابية)، هذا فضلا عن اصطفاف الديبلوماسية المغربية في خيارات غير صحيحة (في سوريا واليمن مثلا) إلى جانب كل من المحور السعودي–الإماراتي الذي دأب نهج سياسات إقليمية هوجاء، غير معقولة ولا واقعية ولا حتى إنسانية على حساب التواصل والعمل مع قوى أكثر عقلانية وواقعية وحكمة كتركيا وإيران والعراق. داخلي، يبدو أن مساءلة مدى نجاح مشروع الإصلاح الديني أمسى أمرا مُلحا. فلا يجب أن نَعرض الصورة مقلوبة كحقيقةٍ للواقع، من خلال التسليم بفكرة أن عدم نجاح الإرهابيين في تنفيذ عمليات إرهابية على الأرض يعود إلى المشروع الاصلاحي الديني المغربي، وبالتالي القول، بصورة لا تخلو من سذاجة، أن نموذج التدين المغربي أنجز مشروع اعتداله! هذه صورة شوهاء للحقيقة، لأنها تخلط بشكل متعسف ودون تمييز معقول بين ما يرجع لأداء سلطات الأمن ولأداء مشروع الإصلاح الديني. يحتاج مشروع الإصلاح الديني الشامل وكذا مشروع إصلاح الدولة والمجتمع إلى أن يفهم نمط اشتغال عقل الإرهابي، إلى جانب فهم منظومة اشتغال المنظمات الإرهابية. فإذا كان هذا المعطى الثاني متوفرا لدى سلطات الأمن، فإن المعطى الأول في حاجة إلى طرح وإجابة من نوع خاص لمجموعة من الأسئلة: كيف يصير الإرهابي إرهابيا؟ ما هي الأوساط الثقافية والسوسيو–اقتصادية التي ينحدر منها الإرهابي؟ ما هي الأيديولوجية الدينية التي تساهم أكثر من غيرها في صناعة التطرف الديني؟ لماذا يصير العنف سبيلا للتعبير والفعل لدى المتطرف؟ كيف يبرر المتطرف عمله العنفي؟ ما هي مناهج المتطرف في فهم وتأويل النص الديني؟ كيف يُدرِكُ تاريخ فجر الإسلام [مرحلة التنزيل والخلفاء والسلف]؟ وما هي مصادره التاريخية في ذلك؟ من هم شيوخ التطرف اليوم؟ ما علاقة الإرهاب الداخلي بالإرهاب الدولي؟ هل من علاقة بين إرهاب المجموعات والجماعات وإرهاب الدول؟ ما علاقة الإرهاب بالصحة النفسية والعقلية للمجتمع؟ ما علاقة الإرهاب بالكبت الجنسي والحرمان الاجتماعي والظلم السياسي؟ ما هي الإصلاحات المطلوبة داخل النظام السياسي واللعبة السياسية حتى لا يصبح العنف "خيارا سياسيا" لأطراف تسعى للإصلاح أو لإيجاد موطئ قدم في الساحة السياسية؟ ما الفرق بين الإصلاحي و الثائر والإرهابي؟ كيف تتحول المؤسستين القضائية والسجنية إلى فضاء لضمان الحقوق والزجر وإعادة التربية في آن؟ هل حاورنا الإرهابي بصورة تليق به كإنسان قبل كل شيء؟ تحتاج مقاربة الإصلاح الديني إلى مقاربة أشمل من مجرد القناة السادسة والخطب المنبرية الأسبوعية وربط برامج محو الأمية في المساجد بالولاء لرموز الدولة وتعليم أواليات العقيدة والأخلاق والفقه. يحتاج الإصلاح الديني إلى مقاربة تجمع بين التربوي والديني والثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وتُحقق انخراط كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المدرسة والمسجد والقضاء والسجن والقنوات التلفزية والقطاعات التنموية وباقي هيئات المجتمع السياسي–المدني والتنظيمات الدعوية. لقد تحولنا إلى إرهابيين في أعين العالم، وما استشارتهم لنا في قضايا الأمن إلا عنوانا لإدانة ضمنية لنا. فهم يستشيروننا لاتقاء شرنا في مهده وليَقُوا أنفسهم منا. وسيستمرون في استشارتنا ليجمعوا ما يحتاجونه من إشارات ومعطيات باعتبارنا مصدر خطر يداهمهم، قبل اعتبارنا شركاء في ملاحقة الجريمة. إنهم يدينوننا من حيث نعتبرهم يُعلُون شأننا أو يعترفون بكفاءتنا في تعقب الإرهاب والإرهابيين. في الواقع، لسنا أكثر من أرشيف معلومات بالنسبة لهم وخطرا يتعين الاقتراب منه لإبطال فتيله. وفي الواقع، يتعين علينا كمغاربة أن نعمل على وقف تصدير المتطرفين إلى خارج المغرب بكل الأشكال لأنه يسيئ إلى سمعتنا كبلد ذي ثقافة وحضارة عريقتين وتَديُّن يوصف بالاعتدال. نعم، يجب أن نتحمل مسؤوليتنا في تفريخ الإرهابيين وتصديرهم، كما يجب أن نتحمل مسؤوليتنا ونستقبل الإرهابيين المغاربة الذي توجهوا إلى بلدان أخرى وعاثوا فيها فسادا ثم اعتقلوا أو أسروا هناك. وإلا لما جاز لنا أن نتهم دولا بدعم جماعات إرهابية لزعزعة استقرارنا نحن. أوَ لا يكون تصدير الإرهابيين – سواء كفعل إرادي أو لاإرادي – أكبر مصداق لزعزعة استقرار الدول (المقاتلون المغاربة في سوريا مثلا)؟ آن الأوان أن نكف عن النظر إلى العمليات الأمنية الاستباقية التي تقودها القوى الأمنية ضد الإرهابيين كعمليات مثيرة للفخر. فالأمر في جوهره مثير للقلق. والمطلوب أن نتأمل حجم التهديد الموجه لأمن البلد الذي ينطوي عليه وجود إرهابيين بالجملة لا ينقصهم التنظيم أو الخبرة أو الأيديولوجية أو السلاح وإنما الفرصة المناسبة لا أكثر. فليس كل مرة تسلَم الجَرَّة، كما يُقال. فإلى متى سنترك هذا الملف الثقيل والصعب والمفزع للقوى الأمنية حصرا؟ ماذا عساها تقدم القوى الأمنية لهذه الظاهرة عدا وضع الأصفاد في أيدي المعتقلين وزجهم في السجون؟ فأقصى ما تستطيعه إجراء تقاطع للمعلومات الميدانية، ثم تقديم تفسير مكرور: الجماعات الإرهابية تستغل فقر بعض الشباب وغضبهم وغيظهم لِتُعبِّأ عقولهم بالأفكار المتطرفة والنوايا الإجرامية! هل يكفي هذا الاستنتاج لمحاربة الظاهرة؟! حتما، لا! ولن ينقذنا غير إجراء حوار وطني في الموضوع ووضع خطة قابل للتنزيل بناء عليه.