هذا مقال لا يتحدث عن حركة 20 فبراير، الانجازات والإخفاقات، الإمكانات والتحديات، بل يتحدث هذا المقال عن النظام السياسي بالمغرب وعن حصيلته في مواجهة الحركة. اخترت لهذا التقييم أن ينظر إلى حصيلة المخزن من زاوية مكانية جغرافية وليس من زاوية زمانية كرونولوجية. لن اقسم حصيلة المخزن في مواجهته للحركة حسب المراحل، بل سأوزعها حسب مجالات قطاعية لن اهتم إلا بواحد منها. حاول النظام أن يجعل هذه المجالات هي ساحات حربه على الحركة. تتوزع هذه المجالات على المجال السياسي، والمجال الأمني، والمجال الحقوقي، والمجال الاقتصادي، والمجال الدبلوماسي، والمجال الديني، والمجال الإعلامي. لن أتحدث عن المجال الأمني، وما رافقه من اعتداء على الحق في التظاهر وضرب المتظاهرين السلميين وصولا إلى قتل بعضهم، هذا بالإضافة إلى تكريم الجلادين والثناء عليهم تشجيعا لهم على أفعالهم التي يجرمها القانون الدولي والمحلي، بل وجعل بعضهم على رأس الوفد الرسمي لحجيجنا في خطوة متناقضة كليا مع الاعتداء على الأئمة . لن أتحدث عن المجال الحقوقي المتمثل في إجراء عملية جراحية تجميلية لمجلس حرزني وتعويضه بمجلس الصبار. لن أتحدث عن المجال الاقتصادي والرشوة النقابية المتمثلة في إضافة مبلغ 600 درهم، وضخ بعض السيولة في صندوق الدعم. لن أتحدث عن المجال الدبلوماسي والاستنجاد بماما فرنسا من جهة ومغازلة الأشقاء الأشقياء العرب والشروع في تطبيع العلاقات مع الجزائر،خصوصا بعد سقوط بوشفشوفة (القذافي)، وذلك خوفا من شمال إفريقي ثار وانتفض ليصبح ديمقراطيا بشكل سيظهر المغرب والجزائر فيه، بمثابة نوطة استبدادية شاذة في المنطقة. لن أتحدث عن المجال الديني و سحب المجاذيب من برودة الزوايا و التكايا من أجل إخراجهم إلى سخونة الساحات، ومن الحياد الصوفي إلى الانحياز المخزني. لن أتحدث عن المجال الإعلامي وإخراس البعض ورشوة البعض الآخر، مع تشويه الحركة في الإعلام الرسمي. سأتحدث فقط عن المجال السياسي.سأعرض الوضعية أولا، ثم انتقل بعد ذلك إلى التقييم. أولا : عرض الحالة: دستور قتل السلط. في خطاب 09 مارس 2011، قدم النظام الملامح الكبرى لعرض دستوري قام بعرضه ملفوفا في ورق إهداء صقيل، وعليه ثلاث إجراءات إغرائية: 1-العرض الدستوري هو استجابة شاملة لمطالب الشعب المغربي (هكذا) وتكملة للتغيير الدستوري الذي اقتضته التعديلات الجهوية في ارتباطها مع مقترح الحكم الذاتي. 2- العرض الدستوري هو أول دستور يكتبه المغاربة. 3- العرض الدستوري هو أول دستور يقر مؤسسة رئيس الوزراء، أي يجعل الحكومة ذات صلاحيات ومسؤوليات في تدبير الشأن العام، من خلال فصل بين السلط. الحقيقة هي أن هذا العرض الدستوري لم يكن حلقة منتظمة في مسيرة ما للإصلاحات، بل كان نتيجة للضغط الذي مارسته حركة 20 فبراير، ولولاها لما رأى المغاربة أي شيء (بغض النظر عن مدى جدية العرض)، إذ مشروع الجهوية نفسه قد تجاوز الأجل الذي كان محددا له فيه أن يظهر، وكان ممكنا ألا يراه المغاربة أبدا. أما مسألة أن هذا هو أول دستور يكتبه المغاربة، فهي باطلة، لان المغربة ليست مسالة قانونية ترتبط بالجنسية، بل هي مسالة سياسية ترتبط بالخلفية السياسية لمن يكتب وماذا يكتب وفي أي شرط يكتب. الكتبة أو الكتاب أولا معينون من طرف الملك، وهم ثانيا من فئة واحدة هي الفئة التي تناصر الحكم الفردي. المغربة لها شكلان، إما هيئة تأسيسية منتخبة إذا كانت موازين القوى تسمح بذلك، أو حوار وطني واسع يضم القوى الحقيقة التي تنشد التغيير على قاعدة المطالب التاريخية للشعب المغربي والتي رفعت حركة 20 فبراير خطوطها العامة، حوار يرسي أسس الديمقراطية الآن الآن وليس غدا. فيما يخص مسالة إرساء مؤسسة رئيس الوزراء، فيكفي أن نقول أن المجلس الحكومي ليس إلا علبة رسائل للمجلس الوزاري، أي أن ما يسمى برئيس الوزراء "يحكم"، في حين أن الملك يتحكم، هذا دون أن نتحدث عن المجالس العليا التي هي سيوف تقطع عنق ودابر كل استقلالية قد يتوهم احد ما، أن ما يسمى برئيس الوزراء يمتلكها. مجمل القول أن الدستور الجديد لن يكون دستورا لفصل السلط بل هو دستور لقتل السلط ( السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية )، وبالتالي فلن يمثل فيه " رئيس الوزراء" إلا وزيرا أولا إن لم يكن كبير الموظفين. مع كل هذا ذهب المخزن إلى الاستفتاء الدستوري ومرره بالصوفية والبلطجية والدقايقية، والأحزاب ، لا فرق بين المعارض منها والموالي، التي أرعبتها حركة 20 فبراير مثلما أرعبت النظام. ثانيا : الانتخابات أو البارشوك السياسي: فور ما انتهى المخزن من تمرير دستور العبيد، وبعدما تلقى التهاني من الأشقاء الأشقياء، وأعداء الشعوب في العواصمالغربية، والأحزاب الإدارية، و تلك التي في طريقها إلى أن تكون كذلك، إن لم تكن قد تحولت ولم تتوصل بوثيقة الجراحة التجميلية بعد، أقول فور ذلك أعلن المخزن وبسرعة وفي تسابق مع الزمن النفير الانتخابي. إن الهدف من كل هذه العجلة والسرعة هو رغبة المخزن في التعجيل ببناء خط الدفاع الأول في وجه حركة 20 فبراير والقوى الداعمة لها والمنخرطة في نضالاتها. المخزن يريد أن يقيم هذه الانتخابات بسرعة لكي يفرز حكومة ستكون بمثابة بارشوك سياسي يتلقى الضربات بدلا عنه. سيقول النظام حينها للمغاربة (إن تمت العملية الانتخابية كما يريد) إن المشكل في المغرب مشكل سياسي يتعلق بطبيعة التدبير الذي يمارسه من عينتموهم في الحكومة. إذا ابتلع المغاربة هذا الطعم فإننا سننتقل من التشخيص الحقيقي الذي يقول إن الأزمة هي أزمة نظام يريد أن يحكم دون أن يخضع للحساب والمراقبة الديمقراطيين، إلى التشخيص الزائف والزيف الذي يقول إن البرلمان والحكومة هما سبب الأزمة، هذا مع علمنا جميعا كيف يتم تشكيل البرلمان وكيف أن الحكومة، وفق الدستور الجديد لن تكون مالكة للسلط التدبيرية والتقريرية والتوجيهية. الانتخابات إذن محطة جوهرية في إستراتيجية النظام، وهي الإستراتيجية التي تقوم على إرساء عدد من مصاصات الصعقات الكهربائية التي يضعها المخزن في السطح ظاهرة واضحة يسهل تحميلها مسؤولية كل أزمة وكل فشل، ويحرمها من جوائز الانجاز إن تحقق بحجة أن العمل الأساسي هو العمل الذي تقوم به المؤسسة الملكية في العمق. ثانيا : تقييم حصيلة المخزن لقد سعى المخزن منذ التاسع من مارس إلى جعل المغاربة يعتبرون أن الأزمة في المغرب هي أزمة سياسة ( أزمة التدبير الحكومي ، أو بتعبير مبسط الأحزاب هي اللي خايبة والشعب ما بغاش يهتم بالسياسة) وليست أزمة نظام يصر على أن يحكم دون محاسبة. لهذا فالمشاركة في الانتخابات تكرس هذا التزييف في التشخيص، لأنها ستجعل الحكومة المقبلة بارشوكا سياسيا يحمي النظام ويعفيه من الأسئلة الحقيقية التي طرحها الربيع العربي وطرحتها حركة 20 فبراير. إذا تحقق هذا الانزلاق في التشخيص، أصبح النظام في حل من إعطاء الحساب الذي تتطلبه مرحلة ما بعد البوعزيزي. هل نجح النظام في إقناع المغاربة بان الأزمة هي أزمة سياسة وليست أزمة نظام؟ هل نجح النظام في تدبيره لأخطر أزمة تواجه النظام السياسي منذ انقلابي غشت ويوليوز 71 و 72؟ يبدو أن حصيلة عمل المخزن هي الفشل. على المستوى الأمني لا يمكن للنظام أن يذهب بعيدا في هذا الخيار، ليس لأنه يمتلك جينات ديمقراطية ونوايا إصلاحية، بل لأنه شاهد أن صواريخ كراد لم تنفع بوشفشوفة (القذافي) وان الدبابات لم تنهي الثورة على الدكتور طبيب الأعين الذي فقد الرؤية( بشار). على المستوى الاقتصادي لا يمكن للنظام أن يقدم الكثير في هذا المجال وفي هذا الظرف العالمي الموسوم بالأزمة الاقتصادية، وستمائة درهم التي قدمها رشوة في بداية الحراك ليست إلا مناوشة باهتة مع الأزمة. على المستوى السياسي فخيارات النظام لا جديد فيها. فتشكيل تحالف" G8 " هو دلالة أزمة وليس دلالة عافية، لأنه ( التحالف ) ميتامورفوز سياسي اضطر إليه حزب الدولة أو الحزب الاغلبي الذي اطمأن شيئا ما لما أخطأ في التقدير واعتبر أن حركة 20 فبراير تراجع زخمها، فأطل بقرنيه وهو يتلصص بأعين الحمامة (مزوار) من فوق أركانه( الحزب الاشتراكي) يحمل مسبحة ( النهضة والفضيلة) خضراء ( اليسار الأخضر) فوق حصان (الدستوري) يعود لملكية أحد العمال الذين سقط أو اسقطوا كتاب رأس المال من أيديهم( بنعتيق) ففقدوا كل ارتباط بالعمال و بالجماهير الشعبية التي تعرف من يعبر عن تطلعاتها حقا ومن سرق منها اسم الشعبية (العنصر). إن اللجوء إلى هذا الخيار يؤكد أن النظام ليست له خيارات بشرية وسياسية، وأنه ليس في الجبة من قطع الغيار إلا ما تأكد انتهاء مدة صلاحيته. إن" البام" انتهى وهذه العودة من وراء سبعة حجب، بنيت على تقدير خاطئ مفاده تراجع حركة 20 فبراير. لا يمكن للنظام أن يراهن على الأحصنة الأخرى فكلها خاسرة. الاتحاد لم يعد هو الاتحاد منذ أن أصبحت الكراسي ذات أهمية. الاستقلال احترق بعود ثقاب قطاع النقل والصحة والسكن و"نجاة ". العدالة والتنمية أصبح وضعه مع بنكيران كوميديا سياسية، إذ منذ نزل بنكيران من سماء الدعوة والتربية إلى طاولة السياسة وهو لم يتوقف عن الذهاب نحو اليمين دون الانتباه إلى أن هذه الطاولة ليست لها حواجز حامية فسقط خارج الطاولة ( من هنا أهمية الفرامل ). قد يحصل على أصوات تعطيه مرنبة ما، لكنه لن يكون ذا فائدة وهو مستمر في السقوط خارج الطاولة، فاللعب يكون داخل الطاولة التي هي مجال سياسي حقيقي أو شارع حي. خيارت النظام إذن، لا أقول محدودة فقط، بل منعدمة وخاسرة في المدى القريب وفي أحسن الأحوال في المدى المتوسط الذي هو بقياس الزمن السياسي اليومي للمواطنين لا يتجاوز ثلاث سنوات وقد يصبح هو سنة إذا سقط بشار وعلي صالح قبل فصل الربيع. النظام إذن لم ينجح في تزييف تصور المغاربة لتشخيص الأزمة ولم يستطع نقل هذا التشخيص من اعتبار أزمة المغرب أزمة نظام إلى اعتبارها أزمة سياسة. ما هو الدليل على أن التزييف لم ينجح؟ الدليل هو مسيرات 20 فبراير في اليوم الوطني التاسع (20 نونبر 2011) الذي كان موضوعه الرئيسي " باي باي زمان الطاعة=== هذا زمان المقاطعة". ما هي دلالة هذه المسيرات؟ هناك وهم لدى البعض وهو أن الانتخابات لا تهم الملك، بل تعني الأحزاب، وبالتالي فمقاطعتها ستصب في طاحونة المخزن الذي سيتحكم في حكومة ضعيفة. لهذا حسب أصحاب هذا الرأي علينا أن نشارك كي نقوي الفائز انتخابيا فلا يصبح تحت رحمة التحالفات التي يكون طرفها أحزاب المخزن. يتحكم في هذا الرأي منطق داخلي عماده الاعتقاد بان الذي سينال الأغلبية سيحكم مثل زاباطيرو في اسبانيا. الدستور واضح : المجلس الوزاري يتحكم في المجلس الحكومي. قد يلجأ النظام مرحليا إلى عدم استعمال صلاحياته ليترك حرية الحركة كاملة لوزير أول ( قريب من البام) أو غيره لكي يعطي للرأي العام صورة ايجابية عن دستوره، بنفس الطريقة التي تلجأ إليها وزارة التربية الوطنية حينما تصدر مقررا جديدا فتعمد إلى أن تكون امتحانات الموسم الأول سهلة لرفع نسبة النجاح كي يعتبر الرأي العام أن الإصلاح التربوي سليم وقد أعطى أكله ونتائجه. إن الانتخابات تهم الملك بنفس درجة أهمية الدستور بل ربما أكثر. فالدستور يأخذ شرعيته على مرحلتين، الأولى في الاستفتاء الدستوري، والثانية في الانتخابات بنوعيها التشريعي والمحلي. إن المشاركة في الانتخابات تعني أن المشاركين يقبلون مقتضيات الدستور، وأنهم يقبلون بان يجمع الملك بين مائة في المائة مسؤولية وصفر محاسبة، وأنه لا مشكل لديهم في أن يكون للمجلس الوزاري وإخوانه أفضلية على المجلس الحكومي. أي أن المواطنات والمواطنين لا يرفضون أن يكون ممثلوهم في تدبير الشأن العام محدودي الصلاحيات ولا يرفضون أن يكون من صوتوا عليهم مجرد موظفين لا وزراء مسؤولين. إن المشاركة في الانتخابات تهم الملك أكثر، لأنه إذا كان الدستور دليل العمل فإن الانتخابات تنزيل لهذا الدليل وشرعنة له. بعد تبديد هذا الوهم ما هي دلالة مسيرات اليوم الوطني التاسع (20 نونبر 2011)؟ ما معنى أن تركز كل التظاهرات على شعار واحد " هي كلمة واحدة===الانتخابات فاسدة " الدلالة الأولى هي أن الشعب يرفض المشاركة في انتخابات تتم في ظل دستور سيجعل من فوز الفائز فوزا غير ذي مفعول. أي أن الشعب لا يفصل بين الدستور والانتخابات. الشعب يطالب بسلة سياسية متكاملة في الإصلاح. الدلالة الثانية هي أن الحركة لازالت قوية. وعلى المخزن أن يدخل في حسابه تخصيص ميزانية طارئة لاقتناء مظلات واقية من المطر ليوزعها على القلة التي ستذهب لمكاتب التصويت، ولا ينتظر تضحية كتلك التي أبانت عنها، بفضل الله، جماهير حركة 20 فبراير في كل المدن والقرى رغم أمطار الخير التي كانت قوية والجو الذي كان باردا. إن الأعداد من المواطنات والمواطنين الذي خرجوا يرفعون شعار المقاطعة، كاف لوحده لنقول إن انتخابات 25 نونبر ستكون كارثة سياسية على المخزن وعلى فريق عمله سواء من منهم في المعارضة (من العرض والاستعراض وليس من الاعتراض) أو من في الموالاة (وكلهم موال للمخزن بهذه الطريقة أو تلك ). الدلالة الثالثة، هي أن القمع لا ولن يوقف حركة شعب قرر أن يكسر قيود العبودية. ففي خطوة غير ديمقراطية اعتقلت الأجهزة الأمنية ما يقارب 130 مناضل من مناضلي العشرين والقوى الداعية للمقاطعة خلال ممارستهم لحقهم في الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات بأسلوب لا يمنع أنصار المشاركة بالقيام بحملتهم الانتخابية ولا يمنعهم من الدعوة إلى المشاركة. 130 معتقلا تحولت بروح التحدي ونداء الحرية إلى مئات الآلاف تصرخ بصوت واحد " ما مصوتينش...مامصوتينش". لا يمكن إيقاف حركة العشرين، لأنها حركة شعب أبي يرى بأنه ليس بدعا من الشعوب التي أسقطت الاستبداد والفساد. وهذا ما يجب ليس فقط على النظام، بل على فريق عمله المتمثل في أحزاب الإدارة والأحزاب التي حاربت حركة 20 فبراير وسارعت إلى تزكية الزيف وتقديم شهادة الزور، أن ينتبهوا له. على حركة العشرين والقوى الفاعلة والداعمة لها أن تكن على يقين وثقة بأن النصر قريب، وما بعد 25 نونبر سينكشف الغطاء على منهجية " الالتفاف السياسي"، وستعود معركة الدستور من جديد. فمن مهام المرحلة اللاحقة على 25 نونبر هي مهمة إسقاط دستور العبيد، وحينها سيكون أمام النظام خياران لا ثالث لها إما خيار الاستجابة تحقيقا للتغيير الهادئ، أو التعنت وفتح باب الأزمة على مصراعيه، وحينها لا أحد بإمكانه أن يتكهن بمآلات الامور. الاثنين 21 نونبر 2011