قد تسرقنا الأيام والليالي وقد تنتهي لحظات عشقنا لأنفسنا ومحيطنا ، لكن هويتنا تبقى محفورة في الذاكرة ،كالوشم دون نسخ أو مسخ أو بخس ، فكلما نبش الإنسان فيها ، يجد ذاتا من نوع خاص ، في زمن غير منفرد في ، وغير منفصل عن تحولات المكان المستمرة التي تطل علينا وتحتوينا وتخدعنا، فحينما ننظر في وجوهنا، أو وجوه من حولنا، أو حينما نشاهد تحولات الأمكنة، فإننا نعلم إلى أي مدى قد شملنا الزمان بتحولاته، ولأي مدى قد تغيرنا كثيرا وتحولنا ، وفارقنا مراحل عمرية ماضية طويلة وكبيرة ... وحين ندون الماضي أيضا بالفن أوالتشكيل أو النحت أوالكتابة، فإننا نرتبط بلحظات مبهمة تتكثف فيها المشاعر والخبرات والأفكار والأماني المشعة بالتوتر والأسئلة والقلق ..... والمناطق الجنوبية الشرقية الحالية تعيش أوضاعا عبثية وحالات نفسية عصيبة ، بين هجران التراث والارتماء ،بين نواجد الحداثة ، وقد يعني هذا الوضع الشيء الكثير للعقلاء الذين يتحسرون ، ويئنون صامتين على مُثل وقيم صارت من الماضي القريب، لأسباب عفوية أواختلاقية في أمكنة ملكت الجمال والمحاسن أحوالا ودهورا ، فيها التين والزيتون ،والأعناب والنخيل وأودية بها الفضل يزيد ، واحات نزعت الإعجاب بعادات متأصلة ومتجدرة: بَشَاشة الوجه وحلاوة اللسان ترحيبا .... التمر واللبن والشاي، وبعض الحلويات على بساطة صنعها هي طعام النزيل قبل الوجبات ... الناس على شفاههم ابتسامة ود ، وعلى مُحياهم القبول ،يوزعون السلام يمينا ويسارا....يجتمعون في الأعراس والمناسبات دون دعوة ودون تحديد زمن الإقامة ولا مدتها ، والتي قد تدوم لمدة أسبوع أو تزيد ...وقس على ذلك ما يعجز عن ذكره الذاكرون والواصفون .. إنها الأوجه والأخلاق التي سادت بها أمم وبقيت ، والتي يجب استحضارها في زمن يعشق ويهوى مسح حضارة النبع بالقوة. ومن القيم التي بدأت تندثر، إن لم أقل انتهت في بعض الأماكن، بحكم فيه مجازفة ومخاطرة ولم تعد حاضرة إلا كرمز، في المخيلة الجماعية ،الوجه الامتدادي للقبيلة، هي قيمة الحفاظ والاشتراك والتعاون في شراء وإطعام ثور القبيلة، "أعَجلِي نْ تقبلت" ، الذي يتسم عادة بالجينات النقية المِعطاء ، ويُخصِّب الأبقار من صلبه ليستمر النسل القوي الصالح، وكأن القبيلة تستحضر دون علم نظرية داروين في البقاء للأقوى والحق للأصلح ،يتم شراؤه عادة من مال القبلية، ومكان الشراء قد لا تكون الأسواق طبعا، بل يمكن أن يكون المصدر من قبيلة أخرى طارت شهرتها وذاعت في تربية الأبقار وحين يصل، تهل البلدة بحضور الضيف ،الفحل، ويتسلل الأطفال والنساء خلسة لمشاهدة الوافد العجيب ،الغريب ، ،القوي، ويتم إكرامه بالعشب والشعير ، و"الفصة الخضراء""والكُرطْ" "الفصَّة اليابسة " والحليب و التمر أيضا " نعم وإيهْ الحليب والتمر " للذي في تصديقه شك ... وفي بعض الأماكن تُخضب ناصيته بالحناء ، وتُكحل العينان بالمِرود تمجيدا ونزولا للنزيل ....
وطريقة استمرار الحفاظ عليه سليما مُعافى، فيها أمر عجب ، يأخذه الواحد لبيته ليلة، يكرم وفادته ،ويصبر الصبر الجميل في التعب ويستأنس بمعاشرته ولو للحظات ، ويأخذه الثاني تبعا في باقي الليالي وسائر الأيام، وفي الصباح يُرجَع لمكان محدد بمدخل القصر "إمي نيغرم "عادة ليأخذه الآخر، وهكذا على مر الزمن، حيث يستفيد العجل في كل وقت من عطاء كل حِمل فيه عشب أو زرع ، ويستحيي الرجال والنساء أن يمروا وهم محملون من عائدات الواحة دون إطعامه... لكن هذه الطريقة ربما خلقت بعض التهاون في أداء المهمة ،ليتم فيما بعد أداء واجب شهري، دريهمات معدودة ، أو مقابل بسيط، لشخص معين نقد يكون من التمر أو الزرع أو بعض منتوجات الواحة ، أو دريهمات معدودة ،ويتكفل المعني بمسؤولية الإطعام و السهر على سلامة الصحة والعافية ليستمر النسل الرفيع ، وتُنقل الجينات النقية الصالحة للجيل اللاحق من الأبقار حيث لا قيمة إلا لصفاء النوع ..... ويكتسب المُروض شهرة بدوره فيتباهى ، وينتشي ، ويهتز إعجابا ، ويمشي في الأرض مرحا كأنه هو العجل، وله بعض الحق في فعله ، لأنه هو الراعي للإرث الجماعي رغم المتاعب والمتاعب ،وقد يُخلق التوتر، وتُسقط الحشمة أحيانا ،ويتأفف الرجل حين يغيب عن البيت ولا يبقى إلا العيال، ويأتي أحدهم طالبا العجل ...والأخْيَرُ عند الناس، ألا ينتقل العجل من مكانه لأنه العمود الثابت الذي يجب أن تدور من حوله المتحركات، فالأبقار الراغبة هي التي يجب أن تقوم بالفعل ،على أعين الأطفال والمراهقين ذكورا وإناثا ،والذين يتغامزون و يلكز بعضهم البعض ،ويضحكون خلسة، ويخطفون الخطف، ويفرون خوفا من شهاب ألسنة الكبار، وحتى إن نسي الأب أو الأبناء أن البقرة راغبة في التزاوج فقد تلمح الأم للأب أو الأبناء بعبارة " سكْسَوْ تفوناسْت ْ هاتْ تْرا بَرَّا " ولا حياء في ذلك لأن المنفعة أقوى، والمتعة الكبرى للأطفال في أحداث العجل في عيد الأضحى حين ينشغل الكبار بالصلاة يختلسهم الصغار ويطلقون العجل للريح ويحررونه ويلهثون وراءه عدوا حيث المتعة والمتعة وقد يخرج العجل من دلالته الطبيعية الإيجابية المتفق عليها عند كل الناس، التي هي الخصوبة إلى دلالة رمزية أوسع ،وهي في الغالب قدحية ، فيها تأويلات عديدة حسب سياق ومرجع التداول .....فقد يُنعت الرجل ب "أعجلي ن تقبيلت"، إما لكونه فحلا حقا ،يلهث وراء كل الإناث سافرا دون احتشام أو وقار أو....، ويُنعت المرء بالوصف نفسه لأنه دخيل ،أو،آكول ،أوكل شخص لا يُشَمر عن ساعديه ويحبذ العيش تحت جلباب الأب متسترا ينتظر العطاء كالعجل ....وغير ذلك من الدلالات ...لكن العجل الحقيقي المسكين دون الاستعاري حين يشيخ وتنتهي مدة صلاحية فحولته، وتفترعزائمه ، يُذبح ويقسم دمقسه ولحمه على القبيلة، ;وحتى الأرامل من النساء لهن حظهن منه ، فيتأفف منه الآكلون ، إما ألفة به وبعشرته الطويلة ، أوبمذاق طعمه الغريب ، لتضطر القبيلة في كثير من الحالات لبيعه في السوق ويشتريه الجزارون بثمن قليل ،ليبيعوا لحمه بثمن أرخص أيضا والعهدة على الراوي طبعا.
هي علاقات حميمية ، نشعر بها عندما نكون مجبرين على أن لا نكون في المكان رغبة، أو اضطرارا ،ونحن نعشقه ويعنينا ،حيث ينشأ بيننا وبينه نوع من الحنين الأبدي المفتقد إلى الأزمنة التي وُشمت في ذاكرتنا ، هو حنين وشوق للفترة الزمنية التي كان فيها هذا المكان شاخصا يُمثل شيئاً مختلفاً، فنعود لنفس المكان، فنجده أكبر وأوسع ونجد الزمان للأسف قد رحل..