كثيرة هي الصور الجميلة التي تراكمت في مخيلتنا ونحن صغارا نلهو ونلعب، نجري ونتعارك بين دروب مزكيدة، وأمام بوابتها، وبين نخيل العريسة، و جنان السبوعا، (الاسود ) في قن البرج، ورك اهرا... صور لم نكن نفهم مكوناتها، ولا نستطيع فك رموزها، كانت حينها القرية دائمة الحركة صيفا وشتاء، أما ربيعها فلم يأتي بعد. صور أحاول إعادة ترميمها من خلال الكتابة، والغوص من أجل استنطاق مكنونها، شخوصا كانت أو فضاءات، وبالمناسبة فإنني أجدد التحية إلى الكاتب زايد جرو، وليد هذه القرية على التفاتته اتجاه ذاكرة احساين بوشقيفة، ويعذرني أن أزاحمه في إعادة الحياة إلى الذاكرة الفردية والجماعية لبلدتنا، ومساءلة الفضاءات التي أثثت قريتنا الجميلة. في هذه الحلقة سأحاول النبش في ذاكرة فضاء ظل لقرون طويلة راسخا في الذاكرة الجماعية لأهلنا هناك، فضاء رسم ملامح العلاقة بين جميع مكونات القرية إن على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، بل تعداه إلى بلورة صكوك تواصل بين القرية وجيرانها. السقيفة، هذا الفضاء الذي يتواجد على أعتاب البوابة الأولى للقرية قبل الترميم الأخير الذي أجهز على السور المتقدم، ورمى بجزء من تاريخ البلدة تحت التراب. السقيفة، التي نفتقد اليوم إلى رؤية تاريخية واضحة حولها بحكم أن تاريخ البلدة برمته ظل رهين الرواية الشفوية، رحم الله حماتها من أمثال الحاج بن الجيلالي، والحو اعمو، والطالب علي وغيرهم، وكم كانت الحاجة ماسة إلى تدوين هذا التاريخ من أجل مثل هذه اللحظة وغيرها. لقد شكلت السقيفة برلمان القرية، يجتمع فيها رجالها يتداولون في الصغيرة والكبيرة، متكئين على جدرانها، كان الشيخ والمقدم والباقون يبرمون الصكوك العرفية التي تؤطر الحياة الجماعية على طول العام، وقد تدوم المداولات أياما قبل البث في القضايا المطروحة وعرضها على العامة من خلال البراح أو مكبر الصوت. أتذكر جيدا أن السقيفة هاته ضمت بين جنباتها رجالا عرفوا بحنكتهم في تدبير الخلافات، بصرامتهم في رد الحق لأهله، وكم من مرة عرضت قضايا الجيران فوجدت حلا، وكم من مرة تفاوض المجتمعون حول قضايا الري فوجدت طريقا الى التوافق، وكم من مرة شكل تنظيم الغابة موضوع مشاورات فحصل الاتفاق، وفي هذا الشأن أتذكر ظاهرة النزول أو ما اصطلح عليه ب (ربعة:04 )، وهي عبارة عن وليمة يجبر المدعى عليه أن ينظمها على شرف أربعة أشخاص من القرية، علما أن اختيار هؤلاء الأربعة يتم بالتناوب، وتأتي هذه العقوبة ضد من ضبط في أوقات معينة في الغابة يجمع البلح أو الحطب أو غيرهما، وكم كانت فرحة الأهالي كبيرة بهبوب الرياح، إذ لحظتها يقع الاستثناء فينتهي العرف مؤقتا من أجل الحق في جمع البلح، وكم كنا نتسابق من أجل الفوز بأكبر حصة، وكانت للبعض معرفة كبيرة بالنخيل الذي يجود في مثل هاته اللحظات. بين جدران السقيفة، والرجال يتداولون، تسكن الحركة أمام القرية، فلا نرى امرأة تلج البوابة، ولا طفلا يلهو، والواقع أن نساء القرية يجدن حرجا كبيرا في الدخول عبر باب القصر على طول اليوم، وغالبا ما كن يخترن الخراجيات (أبواب المنازل المفتوحة على جنبات البلدة )، حتى إذا سألت الواحدة عن السبب يكون الحياء مسوغها، ولا أخفي أن بعض رجالاتنا كانت لهم أعين يبصرون بها من تحت، يستتبعون خطوات النساء على اعتاب البوابة، بل وأشتهر منهم من كانت له دراية في معرفة كل سيدة تمر على جمع الرجال رغم تواجدها خلف حايك أسود لايبقي منها الا عينا واحدة. لقد كانت سقيفة مزكيدة بمثابة دار الندوة في مكة حيث كان رجالات قريش يتداولون، أو سقيفة بني ساعدة في المدينة حيث التوافق والتواصل في أجل صوره. تلك بعض الاسترجاعات التي حضرتني وأنا أتأمل صورة بلدتي الغالية، صورة لم تكتمل، وسأعود إلى إتمامها في القادم من الحلقات بحول الله تعالى