التناص في " أوراق من تودغى ( نصوص حكائية ) : حكاية " أنا الرايس حدو " نموذجا .
تنغير: عزيز لمرابطي. تغزوت نايت عطا
مدخل إن حكاية " أنا الرايس حدو " تمثل تجربة إبداعية قمينة بالتأمل والدراسة لما تتضمنه من ثراء وتنوع على مستوى المضمون و تحكم على مستوى الأداة ، فهي تعري ملامح كئيبة لشخصية معقدة التكوين ، متمركزة حول ذاتها ، لتنفتح على قضية وجودية : إنها عبثية الوجود وزواله و تأكيد مسلمة مفادها أن التبدل و التغير هو سنة الكون ، فدوام الحال من المحال و كل شيء باطل ، والتناص هو ما تم التركيز عليه في هذه الورقة ، و عليه سأحاول أن أطرح نماذج لبعض مواطن التناص الواردة في حكاية " أنا الرايس حدو " ، مع الإشارة أن المسألة ليست بالسهولة كما يتصورها البعض فأنا متأكد أن ما سأذكره من تناصات هو جزء يسير من التناصات الثاوية في النص قيد الدراسة.
1 مضمون حكاية : " أنا الرايس حدو " " أنا الرايس حدو" هي الحكاية الثالثة من مؤلف " أوراق من تودغى " لصاحبه المؤلف زايد جرو . تتخذ هذه الحكاية من سي حدو بطلا لها الذي اختار صديقنا زيد للحديث عنه ، و هكذا تمارس الحكاية رحلتها الاستكشافية الجريئة لترصد رحلة الذات ( الرايس حدو ) لتتجاوزها إلى مجال الواقع , إنه سي حدو الرجل المنحذر من أسرة بسيطة كثيرة العدد ، متشبعة بالأخلاق ، تأثر سي حدو بمعلمه الذي رباه على الفضيلة ، ارتقى في السلم الدراسي بتفوق لكنه كان حقودا نرجسيا ، ولج الوظيفة العمومية ، كان مخلصا في عمله ، لكنه كان متمركزا حول ذاته مما خلق جفوة بينه وبين زملائه في العمل . حضي سي حدو بإعجاب قبيلته ، فقررت أن يكون مرشحها المدافع عنها وهم يعتقدون أنه المخلص الأمين لكنهم كانوا واهمين ، فخلف هذا الشخص الناجح مارد طماع جشع ، و فعلا كان ما كان وعند الاستفتاء فاز فوزا ساحقا . تغيرت حياته رأسا على عقب ، كان سعيدا بالدور الذي أسند إليه ، ظهرت عليه أمارات النعمة ، و تملكه جنون العظمة ، حقق بعض المكاسب لعشيرته ، كبر في أعينهم ، نمت أرصدته و أملاكه بشكل صاروخي و في المقابل ضعف رصيده الأخلاقي فلقد جمع كل الرذائل ، بدأت أيام الرئاسة تنفذ ، تبلد إحساسه و عاش انشطارا و شرخا ذاتيا بين ماهو كائن و بين ماينبغي أن يكون ، وفشل في استعادته هويته المفقودة و لم يعد هو هو وجانب دلالة اسمه " حدو " الذي يستطيع أن يضع حدا فاصلا بين ما بجب و ما لا يجب . 2 مفهوم التناص : Intertextualité يرى رولان بارت أن كل نصّ هو تناصّ، فكل نص نسيجٌ من استشهادات سابقة ، والتناصية هي قَدَرُ كل نص مهما كان جنسه. إن التناص هو صوت لنصوص سابقة ، فهو علاقة تفاعل بين نصوص سالفة أو معاصرة ونصّ ماثل . يقول تودوروف: إن كلّ نص هو امتصاص وتحويل لكثير من النصوص، والنصّ الجديد إعادة إنتاج لنصوص وأشلاء نصوص معروفة ، سابقة أو معاصرة قابعة في الوعي واللاوعي الفردي والجماعي . و تقول جوليا كريستيفا " كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى " ( 1 ) 3 التناص ودلالاته في حكاية " أنا الرايس حدو " يحضر التناص الأدبي إذن في الحكاية من خلال تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة و حديثة مع نص " أنا الرايس حدو " لكنها موظفة بشكل منسجم مع الفكرة التي يطرحها المؤلف زايد جرو , و من أمثلة ذلك في النص : 3 _ 1 : الإنجيل العهد القديم " سفر الجامعة " انطلاقا من تجربة الرايس حدو يخرج المؤلف بيقين مفاده أن كل شيء زائل و فان و هكذا يقول على لسان الرايس حدو : " إن ما أفعله باطل الأباطيل , لكن سرعان ما يعود ل اللا هو " ( 2) و يقول في موضع آخر : " فالدوام لله و دوام الحال من المحال فكل شيء باطل و زائل أو زائل و باطل " ( 3 ) . فهو يقرر بأن كل شيء باطل و زائل , و هي دعوة مضمرة لتداول السلطة ، من خلال تضمين كلامه تجربة الحكماء الذين خبروا الدنيا و فهموها كنهها فأهدونا عصارة تجاربهم يمثلهم لبيد بن ربيعة في بيته الشهير الذي يقول فيه : ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل والذي استفاد منه محمود درويش مشيرا إلى حتمية الموت و التناهي في جداريته : " باطلٌ باطلُ الأباطيل....باطلْ كل شيء على البسيطة زائلْ" ( 4 ) . و يقول في موضع آخر من الجدارية : " كل شيء إذا زاد عن حده صار يوما إلى ضده و الحياة على الأرض ظل لما لا نرى ... باطل ، باطل الأباطيل ... باطل كل شيء على البسيطة زائل . " ( 5 ) أما النص الأصلي كما و رد في سفر الجامعة هو : " بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ. مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟ دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ " (6) . و ورد في موضع آخر من الأصحاح الأول : " رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ . " ( 7) . جاء في تفسير الأصحاح الأول من شعر الحامعة : باطل الأباطيل, باطل معناها بخار أو شيء فان . كأنه يشبه العالم ببخار يظهر قليلًا ثم يضمحل. وقوله باطل الأباطيل هو للتشديد أي أعظم الأباطيل. وكلمة باطل تشير إلى أن العالم زمنى عابر وبلا جدوى على المدى الأبدي. والعالم هو باطل إذا كان الإنسان في استخدامه للعالم بعيدًا عن الله ، و هو ما ذهب إليه المؤلف في قوله : " لقد تجاوز حدود الله ... و لم يقل شكرا لله بل زاد خوفه من افتضاح أمره " . فحين يذكر زايد الحكمة في مقطع ما من حكايته و يختمها بالحكمة ذاتها , فهذا ذو صلة وطيدة بالنص حيث يصب هو الآخر في فكرة الزوال ، وحين يورد هذه الحكمة يعلو الإيمان واليقين المطلق بأن الدنيا فانية مباهجها زائلة وأن كل ما عليها فانٍ بما في ذلك أصحاب الكراسي . هي دعوة لتداول السلطة . و في إشارة لتلك المفارقة بين العلم و العمل و الاستقامة ، و بين العلم و السعادة نجد المؤلف يقول : " و كلما ازداد علمه ازدادت تعاسته " ( 8) . و هو ما ورد في سفر الجامعة : " وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا. " ( 9) و هكذا في زيادة المعرفة زيادة في الغمً , ومن المؤكد أنها ليست دعوة للجهل. ولكن سليمان هنا - و كما ورد عند نهاية تفسير الأصحاح الأول - يعلن كما يعلن صديقنا زايد أن الإنسان الذي يعلم أكثر يتألم أكثر، فكلما عرفنا عن الناس أكثر وعن آلامهم سنتألم وكلما عرفنا حقيقة قلوبنا سنحتقر أنفسنا، وكلما عرف الإنسان جهله السابق سيخجل من نفسه . وكلما ازداد علم الإنسان ازداد احتياجه للمعرفة وتعطشه بالأكثر للمعرفة وبأن كل ما يعرفه ما هو إلا قشور. وكلما ازداد الإنسان علمًا ازداد إحساسًا بالعجز وقلة الحيلة أمام هذا الكم الهائل من المشكلات والآلام التي يعجز عن حلها بإمكانياته مهما ازدادت حكمته. ولعل ما أراد أن يؤكده المؤلف هو أن الرايس حدو لم يستفد من تعلمه و الدليل على ذلك فساد أخلاقه . 3 _ 2 : القرآن الكريم : يقول المؤلف في جنوح الرايس حدو عندما تملكه جنون العظمة و حب الرياسة : " لقد تجاوز حدود الله و نسي و ظيفة عقله و قلبه .... " ( 10 ) و هنا إشارة إلى غياب الوازع الديني و ما يجنيه صاحبه من تبلد في الاحساس و تماد في الضلالة , و رد في سورة النساء : ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ندْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ندْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) ﴾ و جاء في سورة البقرة : ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (227) ﴾ 3 3 : _ الشعر: جدارية محمود درويش : بما أن النص يحكي كما ذكر عن مسار شخصية نرجسية تشعر بالعظمة وحب الذات وبأنها شخصية نادرة الوجود وأنها نوع فريد لم يخلق مثله في العالم ، شخص استغلالي، انتهازي . وصولي يستفيد من مزايا الآخرين ليرتفع على أكتافهم، غيور، معتزاً بشكله وجماله وأناقته مريض بجنون العظمة في كل ما يفعل، متمركز حول ذاته، يستميت للحصول على المنافع لتحقيق أهدافه الشخصية " ، ولأن مؤلفنا صاحب مخيلة خصبة فقد كان لابد من إغواء الشعر من خلال تشبيه الرايس حدو بالميت الفاقد للحس الإنساني , يقول : " يرغب في أمجاد الملوك الفاتحين الذين مروا فوق هذه الأرض , و كتبوا التاريخ بدم القتل و الاقتتال ، و لا شيء يوجعه لا الزمان و لا العواطف , و كأنه قد مات قبل الآن , تكونت لديه مناعة قوية و عجيبة ضد المصائب ... " ( 11 ) ، جاء في الجدارية : لا شيء يوجعني على باب القيامة لا الزمان ولا العواطف . لا أحس بخفة الأشياء أو ثقل الهواجس . لم أجد أحدا لأسأل : أين أيني الآن ؟ أين مدينة الموتى , و أين أنا ؟ فلا عدم هنا في اللا هنا ... في اللا مكان , ولا وجود و كأنني قد مت قبل الآن ... " ( 12 ) مخرج : وهكذا حاولنا تطبيق مفهوم التناص على نص " أنا الريس حدو " من مؤلف " أوراق من تودغى ( نصوص حكائية ) و الذي برزت فيه ظاهرة التناص بشكل جلي , و نشيد بقدرة المؤلف على أن يجعل من مؤلفه فضاء متعدد الأبعاد و الدلالات تقيم فيه شتى النصوص ، و الاقتباسات المأخوذة من عدد لا يحصى من الحقول المعرفية و الثقافية . إن النص الأدبي كما يقول رولان بارت هو "المكان حيث تلتقي أنظمة العلامات المتولدة من المتعدد ومن المجتمع . " وقد كان مؤلفنا مؤمنا بهذا الطرح متبنيا له , لأختتم مداخلتي بما ورد في مقدمة المؤلف : " النصوص أرادت لنفسها أن تكون إبداعية , و ليست معطى جاهزا , بل كل شيء فيها يبنى و يعاد تشكيله , و هي في أمس الحاجة إلى ناقد متأمل , حتى لا ينشغل بتصيد الأخطاء , ناقد متشبع بالرؤى النقدية التي تسعفه على مباشرة التداخل الأدبي و الأنتربولوجي و السيكولوجي و السوسيولوجي فيها , حتى لا تكون كتاباته شطحات نقدية " .( 13 ) و أملي أن تكون مداخلتي بعيدة عن الشطحات النقدية . الهوامش : 1- شربل داغر : التناص سبيلاً إلى دراسة النص الشعري مجلة فصول الهيئة المصرية العامة للكتاب المجلد 16، العدد الأول القاهرة 1997 ص 128 2- زايد جرو : أوراق من تدودغى ( نصوص حكائية ) ط 1 مارس 2012 مطبعة بلفقيه الراشيدية ص : 52 3- زايد جرو : أوراق من تدودغى ( نصوص حكائية ) ط 1 مارس 2012 مطبعة بلفقيه الراشيدية ص 53 4- جدارية محمود درويش ط 1 حزيران 2000 رياض الريس للكتب و النشر ص : 91 5- جدارية محمود درويش ص : 88 6- سفر الجامعة الأصحاح الأول 7- سفر الجامعة الأصحاح الأول 8- أوراق من تدودغى ص : 48 9- سفر الجامعة الأصحاح الأول 10- أوراق من تدودغى ص : 53 11- أوراق من تدودغى ص : 51 12- جدارية محمود درويش ص 10 11