في أجواء الشتاء القارس، حيث درجات الحرارة منخفضة بالرشيدية، وغالبا ما تنزل إلى ما تحت الصفر ليلا، وحيث أغلب الناس يجدون صعوبة في تحمل البرد، داخل بيوتهم، فأحرى خارجها، يتساءل عديد من سكان مدينة الرشيدية وزوارها عن الذنب الذي اقترفته فئة من أبناء هذا المدينة حتى تتم معاقبتهم بهذا الشكل اللاإنساني المهين؟ الفئة المعنية هي فئة المشردين المنتشرين عبر المدينة، والمؤسف هو أن جل أفراد هذه الفئة مرضى نفسيون وعقليون، وهو ما يضاعف معاناتهم وألمهم، ويبعث على أسى وحزن واستنكار كل من له ذرة شعور بالمواطنة والكرامة الإنسانية. جولة قصيرة، وسط المدينة، تكشف أن أغلب هؤلاء المشردين مختلون وفي حالة لاإنسانية بئيسة، يرثى لها، يجوبون شوارع المدينة وأزقتها وأسواقها ومختلف فضاءاتها، بدون عدة أو عتاد، يفترشون الأرض وقطع الكارطون أو بقايا أفرشة مهترئة، ويلتحفون السماء، وجوههم شاحبة، وأسمالهم رثة بالية متسخة، تثير الشفقة، إذ لا تستر أجسادهم. وهؤلاء هم من يكون في استقبال ضيوف المدينة وزوارها، إذ يتخذون من المحطة الطرقية والأزقة المجاورة لها فضاء للمبيت وقضاء الليل، رغم البرد القارس، الذي يجعلهم شبه مشلولين عن الحركة، ويؤثر على صحتهم، ما يجعلهم ينتظرون بفارغ الصبر طلوع الشمس للاستدفاء بأشعتها، ويقدم صورة سلبية عن المدينة، وعن مسؤوليها الذين أوكلت إليهم مهمة تدبير شؤونها. والمثير، حسب أحد الحقوقيين، هو أن السلطات المحلية والمنتخبة تتعاطى سلبيا مع هذا الملف، حيث لم يسجل قط أنها بادرت لإيجاد الحل الملائم لوضعية هؤلاء الأشخاص الذين يعانون في صمت، بحمايتهم وتيسير حصولهم على العلاج والإيواء، وأيضا بالعمل على وقف الأخطار والتهديدات التي يشكلونها على أمن وسلامة المواطنين. من جهته، اعتبر أحد المسؤولين أن السلطة المحلية عاجزة عن التحرك بمفردها في هذا الملف، سيما أن المدينة لا تتوفر على مستشفى مختص ولا على خيرية أو مركز اجتماعي يمكنه استقبال هؤلاء المشردين والمختلين، وأن المسؤولية مشتركة، ينبغي أن تضطلع بها عدة أطراف، على رأسها المجلس البلدي ومندوبية الصحة والتعاون الوطني وفعاليات المجتمع المدني. وأفادت مصادر صحية أن المرضى وحدهم من اختصاص مندوبية الصحة، ومع ذلك، فعينها بصيرة، ويدها قصيرة، خصوصا أن مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، مازال في طور البناء، ما فرض استمرار العمل بقسم بمستشفى الاختصاصات (حمان الفطواكي) طاقته الاستيعابية لا تتجاوز 35 سريرا، هذا، فضلا عن قلة الموارد البشرية والدواء، وعدم توفر قسم للمستعجلات، ونقص التجهيزات واهترائها، وعدم تحفيز العاملين أو استفادتهم من دورات تكوينية... وحسب مصادر «الصباح»، فإن هذا ما جعل المندوبية عاجزة عن الاستجابة لمطالب الأعداد المتزايدة من المرضى النفسيين بالإقليم، مضيفة أن كل زيادة في عددهم، كما يحدث خلال الحملات الموسمية والزيارات الملكية، تتم على حساب نوعية الخدمات المقدمة لهم. وعن حسب المصدر نفسه، لا يستطيع المسؤولون عن القسم تسريح العديد من المرضى ممن تماثلوا للشفاء، سيما النساء اللواتي لا أهل لهن، أو اللواتي ترفض أسرهن استقبالهن، لأن المدينة لا تتوفر على خيرية تستقبل من تحسنت أحوالهم، واستقرت أوضاعهم، والعاجزين ممن لا مأوى لهم. وحسب فعاليات مدنية، فإن هذا القسم بمثابة نقطة سوداء إلى درجة أن البعض يقارنه بمعتقل، بسبب ما يلقاه المرضى من سوء استقبال ومعاملة وصلت، خلال السنوات القليلة الماضية، حد اغتصاب بعض المريضات!!! يشار إلى أن أغلب عناصر فئة المشردين هذه، يشكلون خطرا كبيرا على أمن المواطنين وسلامتهم، ينشرون الرعب بينهم، يبتزونهم حينا، ويعتدون على سلامتهم البدنية وممتلكاتهم أحيانا أخرى، علاوة على تعري بعضهم وقيامهم بحركات وأفعال مخلة بالحياء العام. ومازلنا جميعا نتذكر الاعتداءات التي تعرض لها بعض المواطنين، ومنهم واحد كان لقي حتفه بعد أن قذفته مختلة بحجر فأردته قتيلا، وهي ما تزال إلى الآن نزيلة بسجن توشكة بالرشيدية، علاوة على معتقل مختل آخر كان انتحر، السنة قبل الماضية، في السجن، وكان متابعا من أجل «القتل العمد باستعمال السلاح الأبيض» في حق سيدة عجوز بالشارع العام، ناهيك عن محاولة الذبح التي كان تعرض لها طفل على يد شخص مختل عقليا السنة الماضية في الشارع، وعن عشرات الأسر التي تكابد في صمت من أجل إيواء أبنائها المرضى في البيت للحيلولة دون تشردهم. لذلك، يتساءل بعض المواطنين عن سبب عدم تحرك الرأي العام المحلي للمطالبة بفتح هذا الملف، وعن سر عدم تحرك مشاعر المحسوبين على المجتمع المدني، وعدم عطفهم على هؤلاء الضحايا، وتبني ملفهم، للمساهمة في تخفيف معاناتهم. واعتبر أحد المنتخبين أن ظاهرة المرضى المشردين دليل آخر على فشل سياسات الحكومات المتعاقبة على البلاد، خصوصا منها السياسة الصحية والاجتماعية المتبعة منذ سنوات بل عقود، التي ضاعفت المشاكل عوض حلها، وفاقمت، حسبه، معاناة هذه الفئات الهشة في المجتمع التي ما فتئت تتسع بسبب ظروف الحياة الصعبة. وأفاد أحد المسؤولين أن الحد من هذه الظاهرة ممكن على المديين المتوسط والبعيد، شريطة اعتماد مقاربة صحية اجتماعية مندمجة ينخرط فيها كل المعنيين من سلطات محلية ومنتخبة ومصالح خارجية (الصحة والتعاون الوطني والتضامن والأسرة...) ومجتمع مدني، ما سيمكن من توفير مستشفى مختص بالأطر والتجهيزات اللازمة، يضمن العلاج الضروري، ومركز اجتماعي تتوفر فيه شروط الحياة الكريمة، يساهم في الحد من افتراش الطرقات، وتمكين هذه الفئات من العيش في ظروف حسنة. وفي انتظار هذا الحل الذي اعتبره صاحبه «جذريا» اقترح أحد الفاعلين حلا «مؤقتا» يتمثل في تجهيز دار الطالب المغلقة منذ سنوات، واستغلالها، بعيدا عن كل توظيف سياسوي كما هو الحال الآن، في إيواء المشردين والمرضى الذين هم في وضعية مستقرة، بعد مغادرتهم المستشفى، سيما أنه تم ترميمها وإصلاحها، أخيرا، في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، دون أن تفتح أبوابها أو تتم الاستفادة من خدماتها.