ونحن نقف على أعتاب مرحلة حاسمة من تاريخ إيمازيغن انتصبت فيها الكثير من الأسئلة حول تدبير الشأن الأمازيغي من قبيل: من هم المناضلون الحقيقيون؟ هل الذين أعطوا كل شيء للأمازيغية ولم تعطهم أي شيء وأصبحوا أبطالا بلا مجد، أم الذين ركبوا على ما أعْطِيَ للأمازيغية لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم وأصبحوا يوهمون أنفسهم أنهم أبطال أشاوس، لكن كبد الحقيقة هم أبطال من ورق من مجد –من ذهب– لم يصنعوه... يجدر بنا الرجوع إذن إلى ذاكرتنا الجماعية لنستدرجها رويدا، رويدا لتفصح عن صمت العقود الماضية ونكتشف أن صناعة الكذب صناعة واهمة خاسرة. درءا لأي افتراء على التاريخ وبدون لي لعنقه فالجنوب الشرقي أو أسامّر –كما يحلو لي أن أسميه– يعتبر رئة الحركة الأمازيغية بامتياز، فقد استطاع مناضلو هذه المنطقة أن يصنعوا وعيا بالقضية الأمازيغية ويغرسوا قيم الأمازيغي الحر بالمنطقة أولا وبكافة أنحاء المغرب عموما... ولعل أحداث 1994 وما تلاها من اعتقالات في صفوفهم لخير دليل على ما تطرقنا إليه آنفا، حيث رفعوا شعارات داعية إلى دسترة الأمازيغية وإدراجها في كافة القطاعات...
كما لعبوا دورا كبيرا في كسر أكبر طابوهات المغرب المعاصر باستعمال كلمة "أمازيغية" بدلا عن "الثقافة الشعبية"، وتبقى الدعوى القضائية الأولى التي رفعت ضد وزارة الإعلام ، من أحد الأبناء البررة لهذه المنطقة "زايد أوشنا"، لإجحافها في حق الأمازيغية بتمويل القنوات العمومية من المال العام دون أن نجد فيها ذواتنا وما يعكس هويتنا وحضارتنا، ذكرى خالدة تؤكد ريادة هذه المنطقة في قيادة النضال الأمازيغي.
لكننا للأسف نعاني دائما من نكران الجميل من طرف إخوتنا بالجنوب والأطلس المتوسط والريف متناسين أن التاريخ يخضع في سيرورته لقوانين صارمة يتجاوز بها رغبات وطموحات البشر ويصعب بالتالي حجب حقائقه...
كان مؤلما أشد الإيلام أن تنطبق علينا صورة الجمل الذي يشكل فيه الجنوب الشرقي الفم الذي يكتوي بأكل الشوك لينتفع به باقي أعضاء الجسد المتمثلة في سوس والأطلس المتوسط والريف، فغريب جدا أننا لحد الآن لا نملك تسمية تميزنا ولا زلنا ندرج في خانة أمازيغ الوسط في صورة كاريكاتورية عصية عن الفهم غير معقولة وغير مقبولة، فهل شخص من "خنيفلة"... عفوا "خنيفرة" هو شخص من "غريس"؟
"آيت غيغوش" يتنفسون الأمازيغية ويتحدثون بها بكل فخر واعتزاز على عكس شباب الأطلس المتوسط الذين ينفرون ويتهربون من هويتهم وثقافتهم ولغتهم كأنهم أتوا شيئا إثميا، ويتكلمون العربية معتقدين أنها لغة العز والشهامة وأن الأمازيغية ليست إلا مرادفا للدونية والعهر وأشياء أخرى...
فجريمة كبرا أن يضعنا مهندسو التمثيلية الأمازيغية التضليلية بالمغرب في سلة واحدة مع هؤلاء...
أبناء الجنوب الشرقي ضحوا بالغالي والنفيس من أجل أن تصل الأمازيغية إلى ما وصلت إليه اليوم رغم أنه في نظرهم يبقى ذلك صورة قزمية لواقع عملاق إسمه: المغرب أمازيغي بالجغرافيا والتاريخ...
ليس كل هذا ركاما من الكلام الملقى على عواهنه، فمناضلو أسامّر كابروا، وناضلوا، وصارعوا وخرجوا بندوب تشهد على ضراوة المعارك التي خاضوها من أجل أمازيغية في القمة بحماية دستورية وبتعاقدات واضحة... نعم ندوب غائرة بشكل فادح كأوسمة براقة بشكل لامع مع فراغ فادح في الحسابات البنكية...
إن مدى التضحيات الجسام التي قدموها لا يتصور ولو بقي الإنسان الموضوعي عمره كله يستبين فضائل أبناء أسامّر على الأمازيغية لانقضى أجله دون أن يتم تعدادها...
فالتاريخ يشهد لأبناء الجنوب الشرقي أنهم صوتوا ب: "لا" لأول دستور بعد (الاستقلال) سنة 1962 لعدم اعترافه بالأمازيغية كلغة رسمية وكان شعرهم في أرقى تجليات هذا الرفض، فمثلا ما قاله الشيخ "ساكو"، الذي كان يعتبر من القنوات التي لا محيد عنها لتمرير المثقفين للمستجدات السياسية في المغرب لعامة الناس باستغلال "أحيدوس" لهذا الغرض:
- Ghrigh awn a lmsakin mc i tgam rray - Han ca ittinin i gar azdugh n3am - ناديتكم يا بسطاء إن أطعتموني - احذروا من قول "نعم" لدستور لا يليق
- A ayd axmmuj ikkagh ulinw - N3am n ugllid a mi 3qqalgh - كم من إهانات على مر الزمان أصابت قلبي - لا أذكر منها إلا قول "نعم" للدستور
كم من مرة انزعجت أيما انزعاج قبل إحداث القناة الثامنة حين أتابع قنوات القطب المتجمد العمومي لأنني لا أجد ضالتي فيها وبانطلاق هذه القناة لاحت تباشير الأمل في الأفق، لأصاب بخيبة أمل أكبر وأنزعج من جديد بشكل أشد وطأة من ظلم ذوي القربى، وأجد نفسي أتحدث عن تهميش داخل التهميش وتهميش الإخوة.
علمتنا تجارب المجتمعات أن بعض الأخطاء الصغيرة يمكن أن تؤدي إلى كوارث عظمة يصعب التكهن بامتداداتها فكم من مرة يكون عليك يا ابن الجنوب الشرقي أن تنبه إخوانك في سوس والريف والأطلس المتوسط إلى الأخطاء التي يرتكبونها في حقك... فهيجان البركان الذي يغلي بداخلك قد يأتي في أي لحظة على الأخضر واليابس...
تمثيليتنا في "الإيركام" ضعيفة جدا وليست وازنة، فما يندى له الجبين أن يمثلنا اسم مغمور لا نعرف اسمه إلا بتفجير فضيحة البنك العقاري والسياحي. وما يحز في النفس ويذيب القلب من كمد أن نطلب تمويل حفلات تكريم شعرائنا وفنانينا ودعم شبابنا دون أن نلقى آذانا صاغية في المعهد رغم أنه قوانينه تلزمه بذلك، ونعاين في كل مرة صرفه للملايين تكريما لفنانين مغمورين يسمون أنفسهم ب "الروايس" في سوس، لسنا ضد ذلك، لكن أن يكون على قدم المساواة، فلا حياة للأمازيغية بدون عدل ولا مساواة بين مختلف مكوناتها، لا أن تتحول المبادئ إلى مغانم.
قال لي أحد مهندسي أحداث 1994 بلغة تغوص بك في حزن عميق: "أعطينا حياتنا، ومالنا، وصحتنا للقضية الأمازيغية، وهرمنا من أجل تلك اللحظة التاريخية، ولم يكن حظنا من كل هذا إلا الريح، فبدأت أحس بدبيب اليأس في نفسي دبيب الأعمار في الأرواح... ناضلنا وصارعنا ونسجنا أحلاما تزن الجبال رزانة، فماذا كان لنا من تلك المؤسسة سوى طبع بعض الكتب التي هي طموحات صغيرة أجبرنا على معانقتها فكم يجعل القهر المتع الصغيرة شامخة!!! أن يهمشك ويزدريك أحد فهذا أمر وارد وطبيعي، ولكن أن تلتفت وتجده أقرب الناس إليك استطاب العيش بمجد لم يصنعه، فهذه هي الكارثة..." نفث آهات ولعن الزمن الموبوء الرديء وأضاف: "نحن مثل عجوز تصر على الحياة وتنتظر عناية الأحفاد... قد تحتاج، يا صديقي، إلى وقت طويل لتستوعب ما يجري، فهم ركبوا على أكتافنا، واستفادوا، ولم يكن من نصيبنا غير الجحود والنكران، يظنون أنهم محاطون بالبلداء وهم الأذكى".
نعرف أن العادات القديمة تموت بصعوبة لكن أملنا أن نرى جهودا واضحة من طرف أشقائنا بزرع الثقة والمحبة ونقاء الطوية بيننا بدل الريبة والحذر وسوء النية.
بعد طول صبر واتساع صدر ها أنذا أصرخ دون أن أنوب عن أحد أو أمثلا أحدا، فصرختي من "أسامّر" المغيب، شخصية ترفض كل المنغصات الرامية إلى تجفيف آمالي المشروعة في الرقي بالأمازيغية بجميع أبنائها إلى مصاف الثقافات المهمة، وصرختي لم أطلقها لأذكي بها الشجارات والصراعات فإخواني إن جاروا علي أعزاء، لكن ما نخشاه جميعا، ويجدر بنا أن نخشاه، هو ألا تكون هناك إرادة واضحة لرتق أمشاجنا المبعثرة وأن تلوح في الأفق من جديد بوادر لإقصائنا وبالتالي سنخلف موعدا مهما مع التاريخ وننسى النضال الحقيقي الذي يجب أن يكون ومع من يجب أن يكون، وننشغل بالدسائس والصراعات بيننا.
إذا أدرك الأمازيغ اليوم أن المصلحة العليا تقتضي وضع اليد في اليد لتغيير كل شيء من أجل البداية الصحيحة فذلك سيكون إيذانا بوضع القطار الأمازيغي على السكة، فالاستمرار في لعب الكواليس ومعارك الظلام التي غنى عليها الدهر ورقص، سيكون نذيرا بنهاية كل شيء وتكون وحدتنا مجرد أضغاث أحلام.