محمد عيادي يبدو أن انفصال جنوب السودان عن شماله أسعد البعض وفتح شهيتهم ليروا مزيدا من التمزيق والتجزئة في الأمة العربية والإسلامية، وجعلهم يقيسون ما لا يقاس باعتقادهم أن ما حصل في السودان يمكن أن يتكرر في المملكة المغربية بانفصال الصحراويين، متجاهلين أنه لا قياس مع وجود فروق كبيرة, وكبيرة جدا, وليس فارقا واحدا، سواء من الناحية التاريخية أو الشرعية أو الثقافية والاجتماعية، ذلك أن المغرب مبني على التنوع منذ كان عبر القرون، واستمد قوته ووحدته وثراءه الإنساني الفكري والثقافي والعلمي والسياسي من تنوعه في إطار دولة لامركزية عجزت الإمبراطورية العثمانية عن لفها تحت جناحها كما حصل مع دولٍ جارة، كما فشل الاستعمار الفرنسي والإسباني في اللعب على هذا التنوع الثقافي والاجتماعي واستغلاله لبث التفرقة، والدارسون للتاريخ يعرفون جيدا كيف أفشل المغاربة جميعا الظهير البربري الذي حاول فصل العرب عن الأمازيغ، فانتفض الجميع وأحبطوا تلك المؤامرة في مهدها. إنه لمن الظلم, بل من الجهل بالتاريخ والجغرافيا, أن نقوم بمقارنة المغرب بما حصل -مع الأسف الكبير- في السودان, حيث لعبت الضغوط الخارجية والأيادي الأجنبية لعبتها، فضلا عن الأخطاء الكثيرة والكبيرة للحكومة السودانية، ذلك أن المغرب بذل مجهودات كبيرة وجبارة على المستوى العمراني والبنية التحتية والخدمات في أقاليمه الصحراوية، بشكل فاجأ كثيراً من المراقبين من الخارج لما زاروا مدن الصحراء المغربية وعلى رأسها العيون، لأنهم كانوا يعتقدون بناء على ما كانت تروجه الآلة الإعلامية الداعمة لجبهة البوليساريو سواء في إسبانيا أو في الجزائر، أنهم سيجدون مدناً من رمال وخياماً كما هي الحال في مخيمات تندوف, فإذا بهم يرون مدناً حقيقية، الأمر الذي دفع تلك الجبهة ومن يدعمها للعب على الملف الاجتماعي ومطالب ساكنة العيون على سبيل المثال التي لا تختلف عن مطالب ساكنة الدارالبيضاء وساكنة مدينة وجدة شرقا وغيرها (تشغيل، سكن... وانتقاد أخطاء في تدبير الشأن المحلي) مستغلة في ذلك هامش الحرية المتاح للتعبير عن الرأي، كما حصل في أحداث العيون ومخيم «اكديم إيزيك»، لكن المناورة أحبطت، بعد تفكيك المخيم الذي سعى انفصاليون بترهيب وتخويف الموجدين داخله لتحويل أهدافه من مطالب اجتماعية إلى مطالب انفصالية، راح ضحيتها عشرة من رجال الأمن ومدنين اثنين، فضلا عن تخريب مرافق عمومية وحرقها بشكل كشف حقيقة المشروع الانفصالي. أحداث تفكيك المخيم المذكور كشفت مدى البهتان والافتراء المعتمد في الترويج لأطروحة الانفصال، حيث لم يتورع الانفصاليون ومن يدعمهم من الإعلاميين الإسبان عن استعمال صور لأطفال قتلتهم الآلة الجهنمية الصهيونية في غزة، على أساس أنهم ضحايا تفكيك المخيم، واستعمال قناة إسبانية لصورة ضحايا جريمة حصلت بالدارالبيضاء على أنهم ضحايا أحداث العيون. واهم ومسكين من يعتقد أن ما حصل في جنوب السودان، يمكن أن يتكرر في جنوب المغرب لأن الشروط مختلفة تماما، ولا مجال للقياس كما سلفت الإشارة، والجاهل بالتاريخ وبالواقع والحالم بأن يكون له نصيب من هذا الوهم هو وحده من يقول بذلك، ولا ننسى هنا التذكير بما قاله المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة السابق بيتر فان فالسوم بأن استقلال الصحراء ليس خيارا واقعيا، معتبراً أن المقترح المغربي بمنح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا موسعا خطوة مهمة يمكن اعتماده كأساس للتفاوض من أجل حل سياسي متوافق حوله. كثيرون لا يعرفون أن قيادة جبهة البوليساريو، لا تعبر عن إرادة الصحراويين المغاربة، بل تعبر عن أحلام وأوهام قلة قليلة بدعم كامل من دولة جارة واليمين الإسباني، تحارب كل رأي مخالف داخل الجبهة بدليل ما حصل مع أحد قيادييها مصطفى ولد سلمى، الذي سجنته وعذبته لمجرد أنه عبر عن اقتناعه بمقترح الحكم الذاتي الموسع. لست أدري كيف يسمح البعض لأنفسهم بأن يتكلموا باسم الانفصاليين وباسم الصحراويين المغاربة, والقول إنهم مصممون على الاستقلال، فهل قاموا باستطلاع رأي داخل ساكنة الأقاليم الجنوبية الشاسعة وخلصوا لهذا الرأي, أم هي أضغاث أحلام وتعبير عن أمنيات شخصية؟ إنه لغريب ومؤسف أن نجد داخل هذه الأمة العربية والإسلامية من يطبل للتجزئة والشرذمة في وقت يتجه فيه العالم للتكتل والوحدة وتجميع القوى لمواجهة التحديات الكبيرة، وفي وقت تبذل فيه دول عربية وإسلامية جهوداً جبارة للحفاظ على وحدة دول عربية وإسلامية, كما تفعل دولة قطر مشكورة سواء في لبنان أو اليمن, والمجهودات المبذولة بخصوص إقليم دارفور. إنه لغريب أن نجد داخل هذه الأمة توجهاً يسير ضد المنطق يخدم من يريد أن يلعب على التناقضات والمشاكل الاجتماعية لكنه فشل، وسيفشل. أما الزعم أن الشعوب المغاربية ستتقبل «دولة جديدة» في المنطقة فافتراء وبهتان لا يسنده أي دليل، بل على العكس من ذلك، تلك الشعوب تتمنى وحدة الدول الخمس في إطار وتكتل إقليمي (اتحاد المغرب العربي) حقيقي وقوي، وجُلُّ الأحزاب السياسية والقوى الحية ومنظمات المجتمع المدني داخل هذه الشعوب تعارض سرطان التجزئة. وأكثر من ذلك، لو منح المحتجزون داخل مخيمات تندوف الحرية للتعبير عن رأيهم لرجع جلهم إلى المغرب على غرار ما فعل كثيرون، ومن الظلم وعدم الاحترام أن نتهم الصحراويين، ونقول إنهم لا يطالبون بالانفصال لأنهم مشترون بالأموال والامتيازات، ونشكك في وطنيتهم ونتكلم باسمهم، وهم الذين خرجوا في العيون في بداية الأمر ليطالبوا بتحسين وضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية في المخيم المذكور قبل أن تحاول قلة قليلة الركوب على ذلك وتحويل مساره. إن كل الصحراويين المغاربة –ما عدا قلة قليلة– وجدوا في مقترح الحكم الذاتي الموسع في إطار السيادة المغربية أو مشروع الجهوية الموسعة ما يلبي طموحهم ويحقق رغبتهم، وهو المشروع الذي لن يقتصر على الأقاليم الجنوبية بل سيشمل أقاليم مغربية أخرى في إطار إرساء اللامركزية، ودعم الديمقراطية المحلية، وهذا حل حضاري معمول به في إسبانيا وكندا وغيرها مع مراعاة خصوصيات كل بلد. أخيرا إن أحداث العيون الأخيرة وطريقة تعامل الشعب المغربي معها رسالة كبيرة للقلة القليلة الداعية للانفصال, بأنهم لن يتخلوا عن وحدتهم الترابية بطريقة ديمقراطية حضارية، وأن المغاربة الذين هبوا من كل جهات المملكة المغربية سنة 1975 وشاركوا في المسيرة الخضراء لتحرير صحرائهم، قادرون على تكرارها، وما مسيرة الدارالبيضاء بعد أحداث العيون الأخيرة إلا نموذج، وإلى ذلك الحين فالصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه، وأضغاث أحلام ستبقى أحلاما وأوهاما.