تكريما للمهندس المغربي القصري السيد عبد السلام الديوري ، احتضنت إقامة سفير جمهورية مصرالعربية بالرباط يوم السبت 17 ديسمبر 2011 ندوة علمية تحت عنوان "المغرب ومصر امتداد ثقافي مستمر " ، أشرف على تنظيمها كل من جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، والجمعية المغربية لخريجي الجامعات والمعاهد المصرية بالرباط بدعم من سفارة جمهورية مصرالعربية ، ومساعدة المركز الثقافي المصري . وعلى هامش هذه المناسبة كان لنا هذا اللقاء مع الدكتور محمد يعلى ، أستاذ التعليم العالي للتاريخ الوسيط للغرب الإسلامي وتحقيق نصوصه المخطوطة، وهو عضو في الجمعيتين المذكورتين ، والمشرف على إعداد البرنامج العلمي للندوة ، وأحد المشاركين في أشغالها : • أقدمتم، أخيرا، في جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، بشراكة مع الجمعية المغربية لخريجي الجامعات والمعاهد المصرية بالرباط ، وبدعم سفارة جمهورية مصر العربية بالمغرب ، على تكريم أول مهندس مغربي تخرج من مصر هو الأستاذ عبد السلام الديوري.حدثنا عن ميلاد فكرة الاحتفاء بالأستاذ الديوري، وأهم دلالات هذا التكريم؟ •• يعود تاريخ ميلاد فكرة تكريم الأستاذ عبد السلام الديوري إلى سنة خلت . فقد شغلتني منذ بضعة سنين مسألة التعاون الثقافي بين جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بمدينة القصر الكبير مسقط رأسي ، والجمعية المغربية لخريجي الجامعات والمعاهد المصرية بالرباط مقر إقامتي . وكان بيت القصيد لدي هو البحث عن مجال ثقافي مشترك يمكن أن يُفعّل هذا التعاون باستمرار . وكنت كلما جمعني الاتصال بالأستاذ إدريس العمراني رئيس الجمعية المغربية المصرية في الرباط ، أو بالأستاذ محمد أخريف رئيس الجمعية القصرية طَرحتُ على كل واحد منهما مشروع التعاون الثقافي بين الجمعيتين ، الذي تجسد في قاسم ثقافي مشترك مباشر ، هو الاهتمام بالطلبة المغاربة من الشباب والشابات الذين درسوا في الجامعات والمعاهد المصرية . وقد شجعتني موافقتهما على تنظيم رحلة لأعضاء مكتب الجمعية المغربية لخريجي الجامعات والمعاهد المصرية إلى مدينة القصر الكبير ، يوم الأحد 22 نوفمبر 2011 ، للتعرف على جمعيتنا والاطلاع على أنشطتها ، وزيارة معالم المدينة التاريخية والحضارية . تُوجت هذه الخطوة بإبرام اتفاق شراكة للتعاون الثقافي بين الجمعيتين . وفي هذا الإطار ، أخذت مع الأستاذ الأديب السيد محمد العربي العسري في إعداد جرد للطلبة القصريين ، الذين تابعوا دراستهم في مصر ، لننتقي منهم من سيكون في البداية موضوع ندوة علمية مشتركة . وقد فاجأني الأخ العسري في يوم باسم أقدم طالب قصري وأول مهندس مغربي تخرج من مدرسة الهندسة التطبيقية العليا في القاهرة سنة 1944 . وإليه يرجع الفضل في العثور على هذا الرجل العالم الذي رحلنا معا إليه في مقر سكناه بطنجة خمس مرات ، رافقنا في إحداها أعضاء مكتب الجمعية المغربية لخريجي الجامعات والمعاهد المصرية والأستاذ أخريف ، وزرته منفردا ثلاث مرات ، لنكتشف في شخصه عالما رائدا وصحفيا عملاقا وجمعويا نشيطا في زمنه ، يستحق الاحتفاء به ، بتنظيم ندوة علمية تكريمية . إن المغرب كغيره غني بتاريخه العريق وحضارته المتنوعة وتطوره المتحرك والمستمر. كل ذلك نتاج مساهمة المبدعين الرواد من رجاله ونسائه . ولا خير في مستقبل مجتمع لا يعترف بفضلهم ولا يكافئ جهودهم . فالتكريم العلمي لأصحاب الكفاءت المنتجة الرائدة ، والقدرات النافعة المصلحة من الذكور والإناث ، يمثل الحد الأدنى الواجب على المجتمع أن يقوم به ، للتعبير عن الوفاء بحق هؤلاء وإنصافهم ومكافأتهم على مساهماتهم المؤثرة في إصلاح وتطوير واستقرار بلدهم من جهة ، وخدمة الإنسانية من جهة أخرى . وهو ، أي التكريم ، وقفة شكر ورد للاعتبار ، يجب أن تكون سنّة حضارية حميدة توجه إلى المتفوقين في جميع قطاعات الحياة ، مستمرة ومنتظمة ، لا تنتجها المناسبات ولا الحملات ، ولا المجاملات والتزلفات . تحتفي بأهل القدوة ، لتحفيز الكفاءات الناشئة الكامنة على الإقدام والنهوض والاحتذاء بغيرها لتضيف بدورها . ويضاف إلى كل ذلك في حالة الاحتفاء بالأستاذ عبد السلام الديوري ، بأنه مبادرة طيبة جاءت لتنشيط العلاقات الحسنة بين الشعبين المغربي والمصري . ونحن مغاربة ومصريين مقصرون في حقه تقصيرا طال أكثر من نصف قرن على حفل تكريمه في بيروت سنة 1947 . فالتكريم إذن هو الوفاء بالحق وإنصاف أصحابه ، والاعتراف بالمساهمة ورد الاعتبار لهم ، والشكر على التضحية والمجهود المبذول ، وتعظيم القدوة المحفزة . فقد بدّدت الندوة عتمة التهميش والإقصاء الذي غشي الرجل ، ونفضت عنه غبار النسيان الذي طاله أكثر من نصف قرن !.. تلك كانت رسالة هذه الندوة العلمية ، وبعض دلالات تكريم الديوري التي أرادت أن تبرزها. • عنونتم مداخلتكم ب " الأستاذ عبد السلام الديوري نموذج لعالم مغربي قصري رائد ". ما هي أبرز معالم الريادة في حياة ذ. عبد السلام الديوري العلمية والثقافية؟ •• لقد حاولت في تحضير مداخلتي الوقوف أكثر عند أسس وتجليات معالم الريادة في حياة الرجل النموذج ، الذي تحدى المصاعب الشخصية في مرحلة الدراسة ، وتجند لمحنة الوطن إبان فترة الاستعمار ، وتصدى لسدود التخلف بعد الاستقلال . وتبين لي أن مرتكزاتها كانت تكمن في غنى المؤهلات والكفاءات والطاقات والقيم التي تميز بها عن غيره من الأقران بشكل لافت . وأيضا في مساندة زوجة مخلصة قدوة ، مثقفة وصالحة ، نجحت بذكائها وحكمتها في التوفيق ما بين رعاية هذا النوع من الرجال ، وصيانة الأسرة وحمايتها قوية ومتماسكة ، لمدة تزيد بكثير عن نصف قرن ، انطلاقا من سنة 1954 إلى يومنا هذا . كان الديوري يحسن استخدام اللغات الإسبانية ، والإنجليزية ، والفرنسية ، فضلا عن العربية . وهو أول طالب مغربي ، والقصري الوحيد ، الحاصل سنة 1944 على شهادة عليا في الهندسة التطبيقية من مصر ، كما أتقن بمهارة نادرة في نشاطه الثقافي والمهني عملية المزج ما بين قطاع تخصصه العلمي الهندسي وتدبير التنظيمات الجمعوية من ناحية ، وممارسته للإعلام المكتوب والمسموع ، ومزاولة الأعمال الرسمية والحرة ، والمسؤوليات النقابية والسياسية من ناحية أخرى . زد على ذلك بنية جسمه القوية السليمة التي مكنته من تحمل مختلف الصعاب والضغوط ، وهو ، بعد ما رحل جميع أقرانه ، ما زال إلى اليوم وعمره أمده الله قد ناهز 92 سنة متمتعا بجسم متوسط سليم وأنيق ، وفكر متزن ، وذاكرة يقظة وحاضرة ، ومزاج تلطف من صرامته بسمته الهادئة وأخباره الطريفة وأحاديثه الممتعة . ويمكن حصر تجليات الريادة الديورية القصرية في عدة مسارات بارزة ومؤثرة ، كان الديوري دائما يتصدر تأسيسها وقيادتها وتوجيهها . أشيرهنا تلافيا للإطالة إلى عناوينها فقط ، دون ذكر التفاصيل ، التي حللتُها في مضمون مداخلتي المذكورة ، شملت المجالات العلمية ، والإعلامية ، والثقافية الجمعوية ، والتربوية ، والوطنية ، والنقابية ، والسياسية . ويكفي الديوري ريادة في زمنه شهادة الملك الراحل محمد الخامس طيب الله ثراه ، حينما كلفه سنة 1947 التي تخلد زيارة جلالته التاريخية إلى مدينة طنجة بمهمة تمثيل المغرب في المؤتمر الثالث للمهندسين العرب ، المنعقد بدمشق عاصمة سوريا . • ما هو تقييمكم العام لأشغال الندوة التكريمية والأجواء التي مرت فيها ؟ •• ينبغي أن أقر بأن أشغال الندوة ، من الناحية العلمية ، كانت قيمة ، استوعبت المحاور المطلوبة للإجابة عن السؤال الكبير الذي شكله عنوانها ، وهو " المغرب ومصر امتداد ثقافي مستمر " . فقد تناول الأستاذ الدكتور محمد يعلى السيرة العلمية الذاتية للمحتفى به حسب عنوانها المذكور كمدخل عام للندوة ، ومثال حي يرسخ ذلك الامتداد الثقافي المستمر بين البلدين . وعالج الأستاذ الدكتور أبو بكر حفني محمود سفير جمهورية مصر بالرباط ، موضوعا علميا طريفا ، حلل فيه ملامح الدبلوماسية الثقافية ، متخذا من مصر والمغرب مثالا ناجحا لها . كما قرّبنا الأستاذ محمد أخربف من جذور العلاقات الثقافية بين المغرب ومصر مجسدة في نموذج مدينة القصر الكبير . أما مداخلة الأستاذ محمد العربي العسري ، فقد انصبت على تتبع السيرة العلمية لطلاب قصريين رحلوا إلى أرض الكنانة خلال نهاية الثلاثينات من القرن العشرين . وكان مسك الختام قصيدة شعرية رائعة ورقيقة بالمناسبة ، ألقاها مبدعها شاعر مدينة القصر الكبير الأستاذ مصطفى الطريبق، أعقبها عرض شهادات مؤثرة في حق المحتفى به ، أروعها عمقا وسموا وروحانية ، تلك التي تلاها شخصيا التلميذ القصري الوفي لأستاذه الديوري ، السيد الأمين العام لحكومة جلالة الملك ، الأستاذ الدكتور إدريس الضحاك . وقدم بعده تلميذ آخر هو الأستاذ خالد السلمي شهادة طيبة لمناقب أستاذه . ومما أضفى على جو الندوة طابعا مميزا أن أشغالها ، التي تمت حسب البرنامج الذي رسم لها ، قد دارت في مدينة الرباط ، داخل فضاء له رمزيته الثقافية ، ودلالاته الخاصة . إنه إقامة سعادة سفير جمهورية مصر العربية ، الذي رحب بالندوة إلى جانب السيدة حرمه الطيب ، واستضافا معا حفل التكريم ، من الساعة العاشرة صباحا إلى غاية الساعة الرابعة مساء ، كانت أغاني الملحن القصري العملاق ، الموسيقار المبدع عبد السلام عامر، وقصائد كوكب الشرق السيدة أم كلثوم ، تملأ فترات الاستراحة . كما اكتظت قاعة الحفل بجمهور كثيف حج إلى الرباط من مدن القصر الكبيير ، وطنجة ، والقنيطرة والمحمدية والدار البيضاء . كان يتصدرهم مستشار صاحب الجلالة الأستاذ الدكتور عباس الجراري والأمين العام لحكومته الأستاذ الدكتور إدريس الضحاك ، وأعضاء من السلك الدبلوماسي العربي ، وثلة من الأساتذة الشباب المغاربة الجامعيين، إلى جانب حضور أعضاء من الجمعيتين المنظمتين ، وعائلة المكرم عبدالسلام الديوري وزوجته الأستاذة فامة ويدان ، تتوسطهما كريمتهما المهندسة السيدة نجلاء . • بصفتكم عضوا في جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، التي عرفت بإصداراتها الكثيرة المتعلقة بتاريخ المدينة وأعلامها، ألا تفكرون في تجميع أعمال هذه الندوة التكريمية وإصدارها في كتاب توثيقي؟ •• لابد لي في البداية من التأكيد على أن الهدف الرئيسي لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي كان منذ تأسيسها سنة 1988 هو طبع الأعمال الأدبية والعلمية والفنية الخاصة بمدينة القصرالكبير أو بمحيطها ، سواء كانت من إنتاج أبناء المدينة أو من خارجها . فقد وصل عدد ما نشرته الجمعية من كتب حتى الساعة إلى خمسة وعشرين كتابا . وفيما يخص أعمال هذه الندوة فقد تم التنسيق مع الأستاذ العسري لنتعاون معا على تجميع نصوصها الكاملة ، إلى جانب إعداد التراث العلمي والأدبي والتنظيمي الذي أنتجه الأستاذ عبد السلام الديوري ، بقصد نشره ثم تنظيم مائدة لقراءته وحفلا لتوقيعه . *حوار اجراه الاديب ابو الخير الناصري . منشور في المبادرة بريس