كنت دائماً أقول، أن سوء حظ مدينة القصر الكبير أن المركز يعتبرها من المدن الغير مرقمة، وأنها مدينة للتجارب في اختيار المسؤولين، فإذا كان الفشل من نصيب اي مسؤول معين.. وكأنهم يقولوا للقصريين "اطليوه"، وإذا نجح يتم تنقيله إلى المدن الأخرى التي يعتبرونها مهمة وينحدر منها المسؤولون المركزيون. في سنوات التسعينات شهدت المدينة حالةً مشابهةً لمن لا يزال يتذكر، كلنا نتذكر تعيين كوميسير شاب أعزب من مواليد الدارالبيضاء اسمه عبد الله بلحفيظ، ولم نكن حينها معتادين على هذا النوع من الأشخاص يتبوؤون مراكز لها علاقة بالأمن والحياة العامة للمواطنين، ومن الصدف أنني كنت أول مواطن يلج مكتبه حين حل أول مرة رئيساً بذلك المكتب الضيق المقابل لإدارة نظارة الأوقاف، حاولت أن أتجنب ذلك اللقاء المفاجئ وأنا في دردشة مع المسؤول عن كتابة ضبط المفوضية أنذاك، ولكن العميد سي بلحفيظ اقتحم علينا عزلتنا أنا والرجل الطيب رحال وسأله عني، وعن مرادي، ومن دون أن يسمع منه الإجابة، طلب مني الدخول، ورغم اعتذاري له بأدب بأنه لا يصح أن أزوره في أول يوم له بالقصر الكبير، إلا أنه أصر على استقبالي. ومن خلال أول وهلة تفاجئت للرجل أنه شاب، وعازم، مقدام.. ومنفتح، وفي خضم نقاشنا طلب مني أن يجالس أعضاء جمعيتنا الصحفية التي كان يرأسها الأستاذ محمد المودن، وخلال الحديث لاخظت بأنه أثنى على المدينة وأهلها، وبأنه سيوفر كل وقته لمحاربة الجريمة التي كانت حينها في حدود غير مقبولة، وفي الأخير مدني يده مصافحاً، ولكنني استغلت الفرصة لأطلب منه طلباً وحيداً، وهو أن لا يغلق باب مكتبه الذي كنت أضع يدي على مزلاجه مغادراً. وبعده بأيام اجتمعنا في مكتبه كل مراسلي الصحف الوطنية، بعد التعارف وتبادل الأفكار قال لنا أنا هنا لهدف واحد، وهو تخليق إدارتي هاته ومحاربة الجريمة، ومن اليوم سأترك مكتبي لآخر اليوم. بعد شهور عادت المدينة إلى أمنها وشعر المواطنين بالأمان وصار العميد الذي لم نكن نرى سابقيه إلا لماماً، نراه يتجول بين الحواري يواصل الليل بالنهار وصار على كل لسان، بلغ درجة أن أثنى عليه الأئمة من على منابر الجمعة، وصار كأي مواطن من أبناء المدينة التي أحبها، وتزوج من عائلة عريقة قصرية، ولم يعد فقط مسؤولاً بل قصرياً وصهراً. ولكن يحدث تماماً كما يحدث آلان للعميد الغندور، فقد ترأس إدارة الأمن رجل سلطة اسمه الميداوي قادماً إليها من طنجة التي كان بها عاملاً وكانت حينها العرائش تعيش في ظروف أمنية خاصة، فيقوم عامل العرائش بوسيف بالإتصال بصديق الأمس العامل المدير للأمن ويطلب منه كوميسير القصر الكبير. شجبنا.. غضبنا وكتبنا، لكن كان قوة العامل أقوى منا، انتقل العميد الى العرائش ومنها الى ومنها واليا بكل وجدة وبعدها طنجة، ولا يزال حين كنا نلتقي يقول لي مشيراً إلى شاب يركب خلفه هاهو واحد القصراري، وهو إبنه من السيدة الكريمة ابنة القصر الكبير الأبي سليلة عائلة النخشى. هكذا كما هو حالنا دائماً في هذه المدينة المسكينة، بحيث يتم ترحيل المسؤول الأمني العميد الغندور من مدينة قَدَّمَ فيها عملاً جيداً منذ التحاقه، إلى مدينة أخرى وكأن الأولى لا تستحق الرجال الذين ينجحون. كل هذه القصة استرجعتها مختصرة حين وصل إلى علمي نبأ تنقيل رئيس مفوضية القصر الكبير في حدث يعاد في كل مرة خلال عقدين، ولعل الذي بدى أن الإدارة المركزية بالرباط حين تتوصل بنجاح أحد أفرادها في مدن شبيهة بمدينتنا أول ما تفكر فيه هو أن تنقله لمكان آخر أفضل. وحدها مدينتنا من دون كل مدن هذا المغرب الغريب، حين يشغر فيه منصب يبقى كذلك لشهور أو حتى عام من دون يتم إما تثبيت المسؤول الذي يتولى المنصب بالنيابة أو استقدام مسؤول جديد، كما هو الشأن بمنصب الباشا الذي بقي كذلك منذ انتهاء مهام الباشا السابق متقاعداً.