في المغرب ثمة مشهد خاص فيما يتصل بالقوى الإسلامية التي تحسب على ما يسمى تيار الإسلام السياسي، ففي حين تصدر حزب العدالة والتنمية قائمة الفائزين ب27 في المئة من مقاعد البرلمان، فقد كانت الحركة الإسلامية الأخرى التي تعتبر الأقوى في المغرب (أعني حركة العدل والإحسان) في المربع الآخر الداعي إلى مقاطعة الانتخابات. ليس تقليلا من شأن حركة التوحيد والإصلاح وحزبها (العدالة والتنمية) القول إن الحركة هي الثانية من حيث القوة في الساحة المغربية، فالساحة الإسلامية أصبحت واسعة وتستوعب الكثير من البرامج والرؤى والطروحات، ولن يكون بعيدا الزمن الذي تتنافس فيه الأحزاب ضمن الإطار الإسلامي، من دون استبعاد الآخرين، وبالطبع بعد اقتراب المجتمع من حالة الإجماع على المرجعية الإسلامية، تماما كما أجمعت الدول الغربية على الأنظمة القائمة التي لا تبدو الخلافات فيها محدودة بين أحزابها الكبيرة بعد عقود طويلة، وربما قرون من الحروب الأهلية والمساومات. في المغرب اختارت حركة التوحيد والإصلاح المشاركة في الحياة السياسية عبر حزبها العدالة والتنمية بصرف النظر عن حصيلتها البرلمانية، وبصرف النظر عن مواقف السلطة وطبيعة النظام السياسي الذي لا يرقى إلى مستوى طموحاتها من حيث تحكمه العملي بالحياة السياسية، فيما رأت حركة العدل والإحسان أن النضال من خارج المؤسسات الرسمية هو الأكثر جدوى من أجل الوصول إلى نظام سياسي تعود مرجعيته للشعب، أي ديمقراطية بمضمون حقيقي وتداول على السلطة. كان هذا قبل الربيع العربي، وجاء موسم الثورات ليتناغم مع منطق الحركة في تمرده على ديمقراطية الديكور التي أعدتها الأنظمة للحفاظ على شرعيتها من دون تغيير حقيقي في أدوات الحكم وصلاحيات القائمين عليه. على أن ذكاء النظام المغربي لم يترك المجال لتطور الأوضاع نحو مسارات لا يريدها، فبادر من أجل استيعاب الموجة الجديدة إلى تعديلات دستورية مررها من خلال استفتاء شعبي، وهي تعديلات قبلتها الأحزاب التي كانت جزءً من اللعبة السابقة، فيما رفضتها قوىً أخرى تتصدرها حركة العدل والإحسان التي رأت فيها تعديلات شكلية لا تمس هيمنة “المخزن” أو النظام الملكي على معظم السلطات. والحق أن نتائج الاقتراع التي أظهرتها الانتخابات تؤكد وجود انقسام شعبي حول الموقف من التعديلات، ذلك أن نسبة المشاركة في الانتخابات وإن ارتفعت قياسا بالانتخابات الماضية، إلا أنها تؤكد أن كثيرين لم يقتنعوا بقدرة المسار الجديد على تحقيق طموحاتهم في تغيير يتنفس أجواء الربيع العربي، مع التذكير بأن تلك النسبة المعلنة التي يشكك فيها المعارضون هي نسبة المقترعين من المسجلين وليس ممن لهم حق الاقتراع. في المقابل تشكل المسيرات الحاشدة التي سيّرتها ولا زالت تسيّرها حركة 20 فبراير (أكثر عناصرها من حركة العدل والإحسان مع تيارات يسارية) ضد الانتخابات وتاليا ضد نتائجها (حشود أمس الأحد كانت رهيبة) دليلا آخر على ذلك الانقسام، وعلى وجود قطاعات كبيرة لا زالت تطمح بملكية دستورية حقيقية يكون فيها الشعب هو مصدر السلطات بشكل واضح. إذا جئنا نقيس الأمور من زاوية النتائج، مع الإقرار بأن الانتخابات كانت نزيهة إلى حد ما، من دون أن تغيب التدخلات من قبل أجهزة الدولة لصالح بعض الأطراف التي يجدها النظام أقرب إليه، فإن ما يلفت الانتباه هو توفر توجه واضح من طرف السلطة بمنح الإسلاميين فرصة تصدر المشهد عبر حكومة ائتلافية واسعة تحضر فيها التيارات الأخرى اليسارية والليبرالية المحسوبة على النظام بهذا القدر أو ذاك. لا خلاف على أن النتائج تؤكد حجم الثقة بالبرنامج الإسلامي، ولو كان المشهد مختلفا ورأينا على سبيل المثال انتخابات حقيقية تشارك فيها الحركتان الإسلاميتان بقائمة واحدة لكانت النتيجة أكثر من نصف مقاعد البرلمان من دون شك. أيا يكن الأمر، فقد حصد حزب العدالة والتنمية نتاج جهود ونضالات كبيرة تحسب له ولشبابه المجتهدين، وهو اليوم يقف على المحك لإثبات قدرته في الحكم، لكن الواقع القائم يبدو بالغ الصعوبة، ليس فقط لجهة حاجته إلى أحزاب أخرى كي يحصد ثقة البرلمان، بل أيضا بسبب استمرار التحكم (الأعلى) بمؤسسات الدولة الأكثر أهمية، ما يجعل قرار إنجاح الحزب في تجربته أو إفشاله رهنا بالتوجهات الرسمية العليا، ولعل وجود الحركة الإسلامية الأخرى خارج اللعبة، واستمرار رياح الربيع العربي في المنطقة تساهم في إقناع أهل القرار بعدم وضع العصي في دواليب الحزب الصادق في توجهه لخدمة الناس وتقديم أنموذج طيب في الحكم. لكن حركة النضال الأخرى من أجل منظومة سياسية أكثر تعبيرا عن إرادة الشعب ستبقى متواصلة على الأرجح، من دون أن يُحسم أمر نتائجها في المدى القريب، الأمر الذي سيرتبط في شق منه بنتائج التجربة الجديدة، وما إذا كانت ستشعر المواطن المغربي بتحسن في شروط حياته أم لا، فضلا عن ارتباطها بنتائج عموم الحراك الشعبي في المنطقة ككل. التاريخ : 30-11-2011