خرج "أيوب" من المسجد بعد أداء صلاة العصر، و جلس على ربوة صغيرة ينظر إلى الحقول الممتدة على مدى البصر، و إلى البساتين المحافظة على اخضرارها رغم قسوة حر الصيف المنقضي، شعر أنه يكتشف المكان لأول مرة، و استعجب كيف عز عليه مفارقة أرض لطالما كرهها و أراد الفكاك منها بأي ثمن.. فجأة أحس بيد ترتب على كتفه، التفت فوجد صديقه الفقيه "السي أحمد" إمام المسجد يبتسم في وجهه و يتخذ مكانا بجانبه، بعد صمت قصير قال الفقيه: -متى العزم إن شاء الله؟ أجابه أيوب بصوت مبحوح: -غدا صباحا إن شاء الله. و كأنما أحس الفقيه بهواجس و مخاوف صديقه فقال له: -سيكون كل شيء على ما يرام… لا تقلق! رد أيوب بابتسامة باهتة.. فواصل السي أحمد: -لا تحتاج إلى توصية.. أنت تغادر جدول قريتك الصغير إلى بحر المدينة الهائج، احذر بنات المدينة، فهن حيات سامات لن تشفى إن لذغنك، و تالله لن تنجو منهن حتى تحافظ على صلاتك و تلزم طريق العفة… أحس أيوب أنه غير قادر على سماع المزيد من النصح، فعانق صديقه مودعا، و دون كثير كلام غادر. في الطريق الى البيت استرجع مسار دراسة قضى فيها على المسالك والطرقات أكثر مما قضاه في قاعات الدرس، أحس أن آمال قريته و عائلته معقودة عليه، أراد أن يحقق أمنية جده في أن يكون محاميا، حتى يسترجع بالقانون ما سلبه "الحاج المعطي" من أهل القرية بالغصب و القهر… و لم يبال بكلام عمه الذي غادر القرية منذ سنوات طويلة: – دع عنك "الخوا الخاوي"، متى سمعت عن حق عاد إلى أهله في دولة تحابي فاسديها و تسحق فقراءها؟ التحق بسلك التعليم أو الأمن… و ابن حياتك بعيدا القرية و همومها. غادر القرية فجرا معفيا نفسه من "مراسيم" سلام لا تنهي، لكنه لم يستطع الإفلات من وداع أمه المتربصة به، فقد أطالت العناف و النحيب حتى أحس بالدموع تنهمر من عينيه دون رغبة منه، عندما وصل إلى مدينة فاس نزل عند قريب له، و اتجه مباشرة الى كلية الحقوق، و وجد نفسه وسط ازدحام رهيب، كان العرق ينهمر من مسامه غزيرا الى درجة خشي معها على الأوراق الموجودة بالملف، و خاصة شهادة الباكلوريا. فجأة رآها، شعر كثيف مسدل على الكتفين كشلال هادر، و بنية قوية "منحوتة" بإتقان شديد، أما تقاسيم وجهها و لون عينيها فلا يتمتعان بكثير أهمية في المكان الذي أتى منه. لم تكن ذات جمال خارق، لكنه أتى إلى الكلية جاهزا للوقوع في أول "مطب" حب، فكانت هي… بعد أسبوع كان قد بدأ يتجاوز دهشة البداية ويستأنس بوضعه الجديد، فقد انتقل للسكن مع ثلاثة طلبة ينحدرون من منطقته، و تمكن أخيرا من فك طلاسيم كلام الدكاترة في المدرجات، بحث عن صاحبة الشعر الكثيف فوجدها في كلية الآداب المجاورة، و بالضبط في شعبة الفلسفة، و عرف أن اسمها "خولة"، فاسية من أسرة عريقة، أراد الاقتراب منها فأحس بدونية ساحقة، عرف من زملاء السكن أن عليه القيام بتنازلات "كبيرة"، مثل فتح زر على الأقل من أزرار قميصه، و التخلص من لحيته البئيسة التي تشبه لحية "جحى" في كتاب نوادره، و رمي كل ثيابه و اقتناء أخرى تليق بمقامه الجديد، عمل بالتوصيات بعد وصول "المدد" من قريته، وأخيرا صار بإمكانه الاندماج وسط الطلبة دون ان يثير شكله السخرية. عاد طيف خولة يلاحقه من جديد، ترصدها فوجدها "زبونة" دائمة في حلقية "الرفاق" و مقصف الكلية. و من أجل أن يكون قريبا منها بدأ يسمع كلاما غريبا عن الإشتراكية و الثورة و الجماهير الكادحة و كفاح شعوب أمريكا اللاتينية.. و من أجل خولة اقتنى الكتب المؤسسة للفكر الماركسي. و هكذا جاورت كتب ماركس صحيح البخاري. و مؤلفات ديكارت و هيجل كتب ابن قيم الجوزية و ابن تيمية في "كرتونة" كتبه لدرجة أثارت سخرية زملائه في السكن: -الكرتونة المسكينة لن تتحمل معارك كتبك العجيبة! بدأ أيوب يصبح وجها مألوفا في حلقية الرفاق، صحيح أنه أثار الضحك مرة في أحد تدخلاته، لكن بنيته القوية ستكون نافعة لتلقي ضربات الأمن و خوض المعارك ضد "الظلاميين"… و عندما صارح "رفيقته" خولة بحبه ابتسمت و قالت: – صحيح أنني حداثية… لكن ليس إلى درجة الارتباط ب"جبلي"! انتهت سنته الاولى بطعم الانكسار… إذلال خولة له زاده الرسوب مرارة… وعاد الى قريته، و على نفس الربوة جلس، فقال له السي أحمد: -تغيرت… حلقت لحيتك و لم تعد مواظبا على صلاتك…. ضيعتك المدينة… تحاشى أيوب إجابته حتى لا تفضحه رائحة السجائر… و قال باقتضاب: – الأمر لله… ثم غادر. في سنته الموالية غير الشعبة، و ارتبط بأول من قبلت به في حلقية الرفاق، كانت جبلية مثله، و تعاني هي أيضا من الميز المغلف بالاشتراكية و المساواة، و بعد أسابيع كانت شبه مقيمة في المنزل الذي يكتريه – مع زملاء جدد-، و عندما فاتحها مرة في قصة فقدانها لعذريتها رمقتة بنظرة احتقار و قالت: – ما الفرق بينك و بين أخوالك…. هناك في الجبال البعيدة؟ ما هذه الترهات؟! بلع لسانه.. غير أنها عندما كانت تستلقي عارية بجانبه و هي تدخن سيجارتها لم يكن ينظر إليها كحبيبة…. بل كعاهرة. في أحد أيام رمضان رآها تدخن، تناول سيجارة و أشعلها رغم أنه كان صائما.. نظرت إليه بذهول. سألها: -ما بك؟ -أنت مفطر؟ –أنت أيضا مفطرة، ما المشكل؟ -أنا في أيام دورتي الشهرية، قد أدخن و أسكر و أمارس الجنس… لكن رمضان خط أحمر، "كيخرج فمولاه"… ابتسم و قال: سلامي لأخوالك… هناك في الجبل!! مرت بقية السنوات على هذه الشاكلة، نجح و رسب، و غير الحبيبات، لكنه لم يكف عن حب خولة، و لا عن العودة الى أحضان مريم في كل مرة… عندما تخرج كان جده قد مات، و انفلتت الآمال المعقودة عليه، التحق بوظيفة صغيرة، لم يبال بمريم و لم تبال به، فقد تزوجت بعد التحاقها بالعمل مباشرة بزميل لها، أما هو، فقد تقدم لخطبة ابنة الحاج المعطي -مغتصب أرض القرية- و عندما رفضه لم يجد بدا من الارتباط بأخت السي أحمد التي لم تجاوزت بالكاد ربيعها الخامس عشر… و على نفس الربوة قال الفقيه لصهره الجديد: -الحمد لله الذي اعادك إلينا سالما غانما.