كانت سنة من تلك السنوات الكثيرة التي تشح فيها السماء . جفت الآبار و تبخرت الأحواض ، و تبخرت معها أحلام الفلاحين البسطاء بموسم جيد . غير بعيد منهم امتدت أراضي الحاج صالح الشاسعة ، حفر فيها أكثر من بئر فأصبح لا يأبه لنزول المطر و لا يكترث لحركات السحاب. قساوة الجفاف دفعت بأكثر الفلاحين إلى بيع أراضيهم ، و كان المشتري الوحيد هو الحاج صالح . كان يطمح أو يطمع في إنشاء امبراطوريته الفلاحية . لم يكن يسخط أو يتذمر من الجفاف كباقي الفلاحين ، لأنه لولا هذا الجفاف لما استطاع حيازة كل تلك الأراضي بذاك الثمن الزهيد . ولولاه أيضا لما استطاع احتكار السوق باعتباره الممون الوحيد في المنطقة. سكن أغلب الفلاحين أكواخا ، يقرؤون فيها اللطيف في الرعد و البرق ، يخافون أن تنهار على رؤوسهم ، يتجاور فيها سكن الراكبين و سكن المركوبين. و سكن الحاج صالح قصرا فيه من كل أسباب الفخامة ، أحاطه بسور عظيم يحمي به جنته المترفة من بؤس قرية لم يبق فيها شيء صالح غير اسم الحاج . استظل بشجرة في حديقته ، و راح يمتع ناظريه بجمال و سعة فردوسه. أشار إلى خادمه فأقبل في الحين مطأطأ الرأس : نعم سيدي . حضر لي الفرس ، أريد القيام بجولة في الضيعة . مشى في تبختر وسط الفلاحين. كانوا يقفون على مضض لتحية ولي نعمتهم ، وكان هو في أحسن الأحوال يرد على تحيتهم بإشارة خفيفة من يده . ابتسامتهم متصنعة ، و دعاؤهم له لا يتجاوز الحناجر، و تحتها في القلوب دعاء عليه ، لأجور زهيدة ، و أراضي مغتصبة ، و كرامة مهانة . أحد الفلاحين قال لصاحبه وعينه تتابع موكب الحاج : إلى متى هذا الذل ؟ رد صاحبه في الحين : اصمت ارجوك ولا تقطع رزقنا . وتسمي هذه الملاليم رزقا ! و هل هناك بديل ؟ و كيف أطعم عيالي ؟ حتى ولدي عبد الله طلبت منه العودة إلى المنزل، فما عدت قادرا على مصاريف تعليمه. حرام ! أجرمت في حقه و ضيعت مستقبله. تقول هذا وكأنك لا تعرف حالي ! و قد قررت أن أكلم الحاج ليشغله . عاد عبد الله إلى دار أبيه بنفسية متذمرة . لقد فتحت المدينة عينيه على عالم آخر، على حياة جديدة : شوارع مبلطة ، و إنارة داخل وخارج البيت ، وملابس أنيقة ... تعرف على أصدقاء جدد . وخفق قلبه بأحاسيس جديدة بعد أن كان فقط آلة ضخ . " يا ليتني ما غادرت قريتي . فيا لحلاوة رضاع المدينة ويا لمرارة الفطام" . ظل يردد هذه العبارة منذ وصوله . انزوى في ركن وراح يتأمل منزل والديه . نظر إلى أمه و نائبتها أخته الكبرى ، و قرأ في وجهيهما ما خفي وراء ابتسامة التكلف من بؤس و شقاء ، واكتشف أنهما أول من يستفيق في البيت و آخر من ينام ، و أن الأنوثة ضاعت منهما ما بين غسل و كنس و رعي و حلب ... و خطر بباله فجأة سؤال: " هل هذا وضع جديد علينا ؟ ألم تكن أمي تخدمنا بهذا الشكل دائما ؟ ألم أترعرع في هذا البيت ؟... إنها المدينة التي فتحت عيني و يا ليتها مافعلت . وحلقات الطلاب و أحاديث الرفاق عن اشتراكية الرفاهية و المساواة و ... " . وضع رأسه بين يديه وخاطب نفسه متهكما : " صرت كالغراب الذي قلد مشية الحمامة ....جربت ثوبا جديدا فضاق بي ثوبي القديم ". فتح أبو عبد الله الباب ، و ابتسامة واسعة تعلو محياه : كلمت الحاج ، لقد وافق على تشغيلك كمحاسب . لم ينطق عبد الله بكلمة ، نظر إلى والده المسكين . فكر في نفسه :" يقول ( كلمت الحاج ). يحسب أن الحاج استجاب لطلبه تقديرا أو احتراما . كلا ، لم يشفع لي سوى تعليمي . أتراك تحن يا ولدي للجامعة ؟ ولكن لن أخبرك بما لا يخفى عليك . لا بأس يا أبي . متى أبدأ العمل ؟ وانبسطت أسارير الأب : قال الحاج زره غذا في البيت . في الصباح ، تأنق عبد الله ، و لمع حذائه . لم يشأ أن يظهر أمام الحاج بمظهر المحتاج المستجدي . وصل إلى قصر الحاج ، طرق البوابة الكبيرة . صوت خشن ينبعث من ورائها :" من ؟! " . ثم أطل صاحب الصوت من فتحة ضيقة في البوابة ، لا يُرى من وجهه إلا عينان جاحظتان و شارب تدلى على فمه. قال و قد تغيرت لهجته :" ألست ...؟" . وكفاه عبد الله عناء تذكر الاسم : عبد الله ابن ... ثم قاطعه البواب :" آه أجل أجل ، كبرت و صرت رجلا ما شاء الله . لم أرك منذ مدة طويلة . كيف حال الوالد ؟" . بخير الحمد لله . أود مقابلة الحاج إن أمكن . خيرا إن شاء الله . لدي موعد معه . دخل عبد الله ، و راح يجول بناظريه في جنة الحاج ، فوقع بصره على ابنة الحاج بزيها الرياضي تمارس تمارينها الصباحية . و تذكر لحظات الصبا حينما كانت زميلة له في الدراسة . تذكر عجرفتها و تعاليها على الجميع ، و عليه هو بالذات ، فما كانت تستسيغ أن يتفوق عليها ابن فلاح في المدرسة . و ما شاركته هذه المدرسة إلا اضطرارا ، فلا مدارس خاصة في القرية . قال أحمد في نفسه: " أرجو أن يكون الزمن قد نقص من حدة طبعها ". استدار حينما سمع تنحنح الحاج ، و رآه في جلبابه التقليدي ، تسبقه كرش متدلية ملئت بما ملئت . انحنى ليقبل يد الحاج سيرا على تقليد أصله أهل القرية ، و استلذه الحاج و استطابه. كيف حالك عمي الحاج ؟ رد بعبارات مقتضبة مركزة : الحمد لله . كلمني أبوك . أريد الأمانة و الصدق . لا أرحم اللصوص . اذهب إلى المخزن و سيشرح لك قيمه عملك. حاضر عمي الحاج ، عمت صباحا . غادر عبد الله المكان و كلام الحاج عن اللصوص يتردد في أذنه، و تعجب لهذا المتشدق الذي استباح أراضي الضعفاء و صال فيها و جال . مرت أيام ، تأقلم فيها عبد الله نسبيا مع عمله الجديد . يدون الصادر والوارد، و يعد ويحسب. وقليلا ما كان يجلس في مكتبه المتواضع في المخزن . و حدث أن زار الحاج المخزن بشكل فجائي . قلب الدفاتر ، و فحص الفواتير ثم مد شفتيه وأشار برأسه إشارة رضى عن عمل عبد الله . أثاره منظر أكياس قمح مكدسة جانبا فقال لقيم المخزن : مابال هذه الأكياس ؟ إنها حصة الزكاة سيدي. لقد دققت الحساب و ... قاطعه الحاج و قد بدا عليه الغضب : دققت ؟ دق الله مسمارا في قلبك . رد الأكياس إلى مكانها الآن . انصرف الحاج غضبانا يردد متهكما : دققت ؟ تريد إفقاري.. أخذ القيم الأكياس إلى مكانها و هو يسغفرالله و يحوقل ، و عبد الله صامت يرقب. كانت تلك المرة الأولى التي يشهد فيها على خبث الحاج بعد أن كان فقط يسمع عنه من بعيد. و تعجب من هذا الغني الذي استكثر هذا الغيض و نسي ذاك الفيض . انتبه عبد الله يوما إلى كثرة فواتير شراء الخراف . و تسائل في نفسه عن سر دخول الحاج في هذه المغامرة التي أنفق فيها أموالا طائلة و سينفق الكثير على العلف و العيد لا يزال بعيدا . ولكنه عرف بعد أن استقصى الخبر أن الحاج تناهى إلى علمه قلة المعروض في الأسواق من الماشية وكثرة الطلب عليها ، فرآها فرصة العمر لاستثمار سيدر الكثير لا محالة. كانت بعض الأوراق تحتاج إلى ختم الحاج ، فزاره عبد الله في قصره . وبينما هو ينتظره إذ مرت ابنته في زيها الرياضي . توقفت لحظة و راحت تفحص بنظراتها عبد الله من حذائه الملمع إلى شعره المسرح بعناية و أردفت : " أنت ...." و سبابتها تتحرك رأسيا مشيرة إليه ، وتابعت : " صرت من بني آدم ..." و ختمت بضحكات استهزاء ثم انصرفت . احمر وجه عبد الله غضبا ، و جمع قبضة يده و أراد إرسالها لكمة إلى وجها لولا أن تمالك نفسه . خرج بعد لقاء الحاج يتجرع مرارة المهانة و قد احتقن الغضب في صدره . ثم انفجر أمام مجموعة من الفلاحين : إلى متى هذه المهانة ؟ إلى متى هذا الذل ؟ استعبدنا و أهنا و سرقت أراضينا.. انتفض الفلاحون بدورهم ، هذا يدعوه إلى الصمت ، و هذا يحاول تكميم فمه ، ومنهم من فضل ألا يقعد معه حتى يخوض في حديث غيره . و كلهم خائفون من بطش الحاج حريصون على لقمة عيشهم . نقل أحد الوشاة المتملقين الخبر ساخنا إلى الحاج : " المحاسب يحرض الفلاحين على التمرد !". ثار الحاج . امتطى جواده و توجه صوب الجمع يتبعه زبانيته . أرعد و أزبد ، و أقسم بأغلظ الأيمان ، أن يشرد و يجوع و ينفي ، و يقطف كل رأس أينع . طرد عبد الله من عمله بعد أن أشبع ضربا ، و حرم عليه حتى المرور بسور الضيعة ، فآثر الهجرة من قريته بعد سخط الوالد و سخط الحاج . مرت أيام و أيام . وبينما الحاج يتفقد خرافه الكثيرة إذ حضرت ابنته مسرعة و قد امتقع وجهها فقالت في شبه ولولة : سمعت في الأخبار الآن أن... أن... أن ماذا ؟؟؟؟ لن تُذبح الأضاحي في العيد هذه السنة ! تسمر الحاج في مكانه ، فتح فمه في ذهول ثم أحس بانقباض شديد في صدره . وضع يده على قلبه و قال بأسنان مصطكة : "مسمار...مسمار في قلبي "..... ثم خر صريعا . يونس حماد [email protected]