مضت سنوات طويلة على رحيل تلك السيدة الطيبة حارسة العمارة التي كنت أقيم بها أيام طفولتي مع أسرتي،ولم أتمكن من نسيانها،ولم يستطيع البعد السحيق لهذه الحقبة الجميلة من حياتي أن يمسح من ذاكرتي حكاياتها الممتعة،ولحظات الحديث المفيد معها. خصص لها المقيمون بالعمارة بيتا صغيرا في الطابق الأرضي،وكانت تتولى تنظيف الدرج والأفنية،وتنقل نفايات جميع الشقق إلى أوعية القمامة في جانب من الشارع الرئيسي… أحببت هذه السيدة كما لو كانت أمي،بينما عاملتني هي بكثير من الحدب والحنان،واهتمت بي أشد الاهتمام،وكانت تفضلني على باقي أطفال العمارة.فصوتي تعرفه بين عشرات الأصوات،أناديها وأحييها عند عودتي من المدرسة،فترد علي التحية وتستوقفني سائلة عن أحوالي وظروف المدرسة وما درسته.ولا تنسى كعادتها أن تعيد علي في كل مرة أحداث سيرتها الذاتية،وتجربتها الزوجية الفاشلة،ثم تمطرني بنصائحها الحكيمة،فأحس نحوها بمزيج من المحبة والإشفاق والأسى. كان من مألوفها أن تبتسم في الحالات الحرجة والمؤلمة،ولا ترد على المسيء إليها من سكان العمارة كبيرا أو صغيرا بنفس الإساءة،وكانت تكتفي بإرجاع الأمر إلى الله واتخاذ أسلوب المهادنة والتسامح.فهي من علمتني أن أمتص الغضب وأتحكم في نفسي لحظة المشاكسات التي تحدث بيننا نحن الأطفال،وتعلمت منها أيضا أن أنظر إلى الحياة بعين متفائلة…أحاطها الله برحمته وجعل الجنة مستقرا لها في العالم الآخر.