يستبد بنا المكان كلما حاولنا أن نحرك جذع الذاكرة.. يصعب أن نتذكر أحداث الطفولة دون أمكنة. رأيت النور في بيت عتيق من حي المطيمار بعدوة الشريعة ولا زال منزلنا هناك لحد الآن. من الصعب جدا الحديث عن الحي الذي نشأت فيه دون ذكر مسجد أو زاوية في مدينة متدينة حتى النخاع؛ ففي رقعة الحي الصغيرة تجد عددا مهما من الأولياء: سيدي محمد الفضلي وجامع السعيدة والزاوية الكتانية والزاوية الرحالية وجامع البدوي... بعض هاته الجوامع ارتدتها في الطفولة الأولى وفي بعض العطل في زمن لم تكن المدينة تعرف فيه بعد رياض الأطفال بشكلها العصري، فكان كل الأطفال يجتمعون في المسيد مقابل الواجب البسيط الذي كنا نؤديه للفقيه يوم الأربعاء والأحد. في وقتنا كانت الدمى تزين رفوف الدولاب، وكان علينا أن نصنع دمى من قصب كنا نتفنن في تغيير لباسها مما كان يفرض علينا زيارة بعض محلات الخياطة لطلب قطع القماش. كان اللعب يتغير حسب الفصول بانتظام غريب، فلفصل الشتاء ألعابه وأغانيه و نفس الشي ء بالنسبة لباقي الفصول. حينما نتحدث عن الأحياء الشعبية بمدينة القصر الكبير لا يمكننا بأي حال أن نغفل طبيعة العلاقات في الحي، فعدا الإحترام الكبير للجوار كان الحي يوفر حماية للقاطنين به خصوصا الأطفال، فالكل يعرفك ويحس بالمسؤولية اتجاهك بالرغم بساطة العيش في ذاك الوقت، إذ كانت قيم كالتضامن والتراحم منتشرة بشكل كبير، يغذيها خجل جميل يمنع الناس من استعراض ما لديهم أو التباهي به. كان الحي يعرف اكتفاء ذاتيا في كل شي ء.ففي الأفراح مثلا ، يتجند الجيران لتهي ء كل ما يرتبط بالعرس من حلويات وطبخ وإعداد لمكان الحفل الذي غالبا مايكون منزلا كبيرا بالحي يعيره أصحابه طواعية.مايميز مدينة القصر الكبير هووجود امرأة فريدة متخصصة فقط في إخبار المدعوات وتسليمهن بطائق الدعوات .هاته المرأة هي الزهرة العرّاضة .سيدة نحيفة وقصيرة القامة ، لكنها تضبط خريطة العائلات والمعارف بشكل غريب ؛ إذ يمكنها أن تعرف لائحة المدعوات بنفسها ودونما حاجة إلى التوثيق.هي حقا سجلّ المدينة المتنقل . أول يوم لي بالمدرسة كان خارقا للعادة، لقد كنت "مستمعة" أي غير مسجلة بشكل رسمي. أدخلني صديق أبي، سي عبد الكريم بنحدو، إلى القسم المكتظ وأنا أغني وأرقص كأني في عرس، كان المدير المفرط في النظافة و الأناقة يدندن موشحات أندلسية طيلة النهار وكنت أقضي الحصة كلها وأنا ألعب وأتنطط داخل القسم وخارجه بحرية كبيرة. ورغم ذلك كنت مصرّة على اجتياز امتحان آخر السنة كباقي التلاميذ، ورسمت شمسا وكرسيا بقلم بنّي وانتظرت أن أنجح لأنتقل إلى القسم الموالي، طال انتظاري وأحسست بمؤامرة ما تحاك ضدي كلما سألت المعلم عن النتيجة ليقول في الأخير إن ورقة امتحاني بعثتها الإدارة إلى الرباط لأنها مميزة. هكذا انتهت سنة رائعة من اللعب والغناء ستكفّر عن كل النكبات التي يمكن أن تحدث فيما بعد. وكان ارتياد السينما في تلك الفترة من الطقوس اليومية حتى بالنسبة للنساء اللواتي كن أحيانا ينتحبن داخل القاعة في المشاهد المؤثرة ، علاقة النساء بالفرن كانت صميمية خصوصا في الأعياد إذ يصبح مول الفران رجل الساعة فبيده أن يرسم السعادة على محيى المرأة أو يقلب ليلة العيد لدراما حين تحترق الحلوى أو تسيح بفعل طول الإنتظار. في حينا كانت الخيّاطة هي فطومة وغالبا ما كان يقبع القماش عندها سنين. أذكر أن ثوبا أصفر مرقط بموتيفات سوداء كان من المفروض أن يخاط به فستان العيد بقي عمرا بحاله عند فطومة لأنها كانت الخياطة الوحيدة في الحي وكانت تأخذ وقتها لابتكار موديلات مميزة. كانت تربيتنا صارمة للغاية، فلم تكن تعفينا المدرسة من القيام بكل المهام المنزلية على أحسن وجه وكذا الذهاب في العطل لدار المعلمة، السيدة خدوج بوربيع. سأتوقف قليلا عند دار المعلمة وهي مكان تجمع البنات من مختلف الأجيال يقضين زهرة عمرهن في تطريز أحلامهن على بياض القماش، من أجل شهادات تشفع لهن عند عائلة الزوج وتبرز مهارة البنت ونجاح العائلة في التربية. اللحظات القوية كانت حين تعرض المعلمة "القليع" أي قطعة القماش التي تؤرخ للتعلم دفتر كبير الحجم من كتان به غابات من الأشجار المفرطة الطول بطرز الغرزة(الفاسي)، حين تنظر إلى السيدة القصيرة القامة وإلى عروش الحرير الباسقة تتسائل كيف أمكنها أن تنجز هاته الإبداعات الخرافية. تعلمت بسرعة؛ ولسوء حظي هلت علي نساء العائلة لأطرز لهن النقاب الأبيض. كنت طفلة مشاغبة جدا أعشق الشتاء واللعب في برك الماء والوحل؛ أول شيء أفعله حين أقتني مظلة هو فصل القماش عن الأسلاك وإعادته عدة مرات، وفي نهاية المطاف أقضي الفصل المطير دون مظلة. نفس الشيء بالنسبة لساعة اليد أفتحها كل حين لأراقب الدواليب الصغيرة إلى أن تتوقف. إلى حدود منتصف الثمانينات، كانت المدينة مشبعة بالفن والموسيقى، فلا يمكنك أن تعبر محلا دون سماع أغاني فريد الأطرش وأم كلثوم، ويبقى المرس هو المركز بالنسبة للفرق الموسيقية الشعبية. كان الخروج في المساء من العادات المقدسة فكان الخط الفاصل بين مولاي علي بوغالب وسيدي بوأحمد يمتلأ بالمارة وهم في كامل أناقتهم. مؤسف أننا اليوم نعيش فترة تضييق للحريات مع المد الإسلامي الذي عرفته المدينة فجأة ودون مقدمات. لم يكن بهيّن علي استيعاب التحول الجديد الذي وقع للمدينة حين أصبحت سوقا كبيرا للسلع المهربة وللفتاوى أيضا. كيف يعقل أن تستورد مدينة كالقصر الكبير والتي توصف بكل خطوة بوالي فتاويها من الشرق وهي التي كانت عبر التاريخ قبلة للفقهاء من كل الربوع يأتون لطلب العلم؟ أعترف أن الإنتقال كان عصيبا واختلطت فيه القيم فخرجت المدينة من زهدها إلى بهرجة فجة قادها الأغنياء الجدد بقيم جديدة، لكن للمدينة روحا بقيت مقاومة لكل ردّة جمالية وهي تسطر البهاء في ورشات الصناعة التقليدية كل حين ببراعة ناذرة، وتبقى الأوبيدوم دمية روسية كما يحلو لي دوما أن أصفها، تخفي أكثر مما تظهر.