قد وصل الطالب الجديد إلى الكلية أخيرا، إنه يقف قبالة الباب، يتأمله للحظات، يفكر : " - إنها كلية جميلة، وقد بنيت على أطرف المدينة، هذا يجعلها بعيدة عن كل أنواع الضجيج، حتى البشري منه، هذا أمر مشجع ! " ينفض عن رأسه هذه الأفكار، يقترب من باب الكلية ثم يتجاوزه فيشعر بموجة ارتباك تشمل جسده كله، يلمح ظلا يقترب منه، يلتفت إليه بحدة فيجد واحدا من رجال الأمن المنتشرين في الكلية، كان قادما نحوه بمسار مستقيم وملامح صارمة وهاتف ضخم يغطي وجنته اليمنى كلها، فيزداد ارتباك الطالب المسكين وهو يظنه شرطيا ما يريد القاء القبض عليه لجريمة ما اقترفها، وما ذلك الهاتف الذي يحمله إلا وسيلة اتصال يستخدمها ليتواصل مع زملائه قصد تطويقه ومنعه من الفرار ! .. يفكر الطالب لوهلة أن يستدير بسرعة ويفر هاربا لكنه يتراجع عن ذلك ويجد أنه لو فعل ذلك سيزيد الأمر سوء ويثبت التهمة الموجهة إليه والتي لا يعرف ما هي أصلا ! .. إنه برئ .. يجب عليه ألا ينسى هذا، لذلك يكتفي بأن يرسم بسمة مرتبكة على وجهه وكلما اقترب منه رجل الأمن إلا وتتسع ابتسماته أكثر وأكثر .. يقف الرجل أمامه يحدق فيه بنظرة شك ويتفحص جسده من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه كأنه سكانير بشري، ثم يقول له بغلظة : " - إجازة أم إجازة مهنية ؟ " يحدق فيه الطالب فاغرا فاه ببلاهة غير فاهم ويكتفي بقول : " - هه ؟! " يكرر الرجل سؤاله ببطء مع شرح مبسط فتبدو على وجه الطالب أمارات الفهم قبل أن يهتف بحماس كأنه يبتلع شريطا مسجلا لديه لقنوه إياه بدقة قبل أن يأتي إلى هنا .. فلا مجال للخطء أبدا : " - أنا لا أريد الإجازة أنا أريد التسجيل في السَّنَةِ الأولةِ مِنْ شُعْبَةِ عُلُومِ الِإقْتِصَادِ وَالتَّسْيِيِرِ السَّنَةُ الأُولةُ" بالكاد استطاع أن يكمل جملته بأنفاس متلاحقة وهو يحدق في رجل الأمن بترقب كأنه هو من سيقوم بتسجيله وهو من يملك مستقبله بأكمله، فيرمقه رجل الأمن بإمعان ثم يمسك الهاتف الذي تنبعث منه أصوات متداخلة متقطعة فيخيل إلى الطالب أنه سمع : " – كلمة السر خاطئة .. إنه الهدف المقصود .. أغلقوا كل منافذ ومخارج الكلية .. إلخ إلخ " فيسمع رجل الأمن يقول : " - عُلم" ثم يعيد بصره إلى الطالب الذي يكاد يسقط فاقدا للوعي من فرط رعبه، لكنه يتنفس الصعداء بعد أن بدأ رجل الأمن يحدد له الطريق الذي عليه أن يسلكه قبل أن ينصرف مبتعدا .. إنه برئ إذن .. كان يعلم هذا، يخرج تنهيدة حارة وهو واقف في مكانه غير مصدق أنه نجى .. لقد أفلح شعاره فعلا حتى الآن .. إذن فليتبع توجيهات الرجل، فمن فرط انفعاله لم ينتبه لكل ما قال وإن اكتفى بتحريك رأسه إيجابا موافقا على كل شئ يقوله، يريد أن يتذكر ما قاله له الرجل فلا يجد سوى كلمات مبعثرة : " - إذهب إلى الأمام ... انحرف يسارا ... يمينا ... ثم عد إلى الوراء ... الأقسام .. الطلبة ... تعود وتصعد " هذا ما يذكره من توجيهات الرجل ! .. لاشك أن المكان الذي وصفه له يقع في كوكب أورانوس ! .. كان عليه أن ينتبه جيدا لما يقول وألا يكتفي بتحريك رأسه دلالة على الفهم كالأبله .. يسلك الطريق الذي أشار إليه الرجل ويعتصر ذهنه في محاولة لتذكر ما قاله، وبصعوبة وبعد سؤال هنا وهناك ينجح في الوصول إلى المكان الصحيح .. إنها قاعة دراسية وهو قبالة بابها الآن .. يتساءل : " - ترى ماذا سيجد بالداخل ؟ .. هل خدعه رجل الأمن وأوهمه أنه برئ بينما كان يقوده إلى الفخ ؟ ... أهاااا .. لذلك يشعر أنه مراقب .. نعم .. إنه يشعر أنه مراقب .. مازالت براءته لم تتوضح لهم تماما بعد .. إذن لاشك أن ما سيجده داخل القاعة هي لجنة تحقيق ما في الجريمة التي ارتكب، أية جريمة ؟ .. لا يعرف .. فليتحلى بالشجاعة قليلا وليدخل، فهناك سيجد أجوبة لكل تساؤلاته " ياخذ نفسا طويلا ثم يدخل .. وبينما خطواته تتردد داخل القاعة يلاحظ شيئا غريبا، الأرضية ليست على مايرام .. كأن هناك لاصق ما بالأسفل يجذب رجليه رغما عنه للإيقاع به، سيكون أمرا محرجا لو حدث ذلك، أو لعله مغناطيس ما قاموا بزراعته ها هنا لتحسين جاذبية الحجرة ؟! .. لا يعرف .. لكن الذي يعلمه أنه قبل أن يصل إلى اللجنة المكلفة بالتسجيل كان قد تعثر أربعة وسبعين مرة .. لا يهم كل هذا .. المهم أنه قد وصل في نهاية المطاف . كان أمامه صف طويل جدا من الطاولات تم رصها بعضها جوار بعض فبدت أشبه بقطار خشبي، على الجانب الآخر جلس عدة اشخاص قبالتها، كان هو واقفا أمام أحدهم وهو يرص عدة أوراق أمامه، كان منشغلا على ما يبدو ودستات من الأوراق مصطفة فوق الطاولة، شعر بوقوف الطالب فرفع رأسه ببطء ورمقه بنظرة باردة، وبآلية تناول استمارة ما وناولها إلى الطالب الذي لم يكد يلتقطها حتى قال بحماس شديد : " - أنا أريد التسجيل في السَّنَةِ الأولةِ مِنْ شُعْبَةِ عُلُومِ الِإقْتِصَادِ وَالتَّسْيِيِرِ السَّنَةُ الأُولةُ" يهمهم الرجل بكلمات غير مفهومة فيلتقط الطالب الإستمارة منه وهو ما يزال يبتسم كالأبله ويومئ برأسه ويتحرك إلى المقعد ليجلس فيه ويحدق في الإستمارة ويحدق في وجه الرجل و .. كل هذا كان يفعله في نفس الوقت حتى خيل إليه أنه سيرقص بعد قليل ! المهم أنه وجد نفسه في نهاية المطاف جالسا ويحدق في الإستمارة .. ولم يكد يطالعها حتى ابتلع ريقه .. ما كل هذه المعلومات ؟! .. شكوكه كانت في محلها إذن .. إنهم يجمعون عنه المعلومات لتسهيل عملية الإيقاع به لاشك .. كانت الإستمارة منقسمة إلى جزئين، جزء عربي وآخر فرنسي .. دقة بالغة في التحري، جهازي دولتين يشتركان في التحري عنه في نفس الوقت ؟! .. يا للهول .. لم يكن يعلم أنه مهم إلى هذا الحد ! إسمه الشخصي والعائلي وعنوانه .. هذه مفهومة، فهو المتهم المشكوك في أمره ومن الطبيعي أن يسألوه عن هويته حتى يتأكدوا من مطابقتها للمعلومات المدونة في سجلاتهم .. سيكتب كل المعلومات وبمنتهى الدقة حتى لا يثير أدنى شكوكهم .. لكن .. إسم الإب والمهنة ! .. ها ؟ .. لم يكن يعلم أن أبوه أيضا محل اتهام ! .. يا للمصيبة .. إلا أبوه .. لا يريد أن يتم إقحامه في أموره، هذا هو الجحيم بعينه، إنه مازال يذكر ذات مرة في صغره وبينما كان يريد تجربة سلاح فريد من نوعه، هو عبارة عن قوس من الحديد مربوط فيه خيط مطاطي متمدد، توضع في وسطه قطعة حجر صغيرة وتطلق بقوة بتمديد الخيط المطاطي، هذا السلاح جهزه في وضعية الإطلاق وبحث عن هدف ما يجربه فيه ولم يجد أمامه سوى صديقه المقرب (نوفل)، فصوبه إليه وأطلقه ليصيب هدفه بمنتهى الدقة .. مازال يذكر صرخات صديقه ذاك وشلال من الدماء ينهمر من رأسه مؤكدا على نجاح ساحق لسلاحه .. لكن المرعب في الأمر أن أبوه قد علم بالأمر .. ولكم أن تتخيلوا ماذا فعل به حينما أدخله إلى المنزل .. لقد جعله أداة ممتازة مارس فيها جميع أنواع رياضات الدفاع عن النفس من الكاراتيه والفولكونطاكت والكونغفو وصولا إلى الكرة الحديدية والتنس .. إلا أبوه .. رسم على وجهه بسمة ودودة مرتبكة وتوجه إلى الرجل الذي سلمه الورقة وسأله بمنتهى الأدب مشيرا إلى الخانات المتعلقة بمعلومات الأب متسائلا بتردد : " – هل .. هذه .. ضرورية ؟! " خطف الرجل نظرة إلى ما يشير إليه ثم رمقه بنظرة باردة وهتف باقتضاب : " – إملأها " ثم صرف عنه وجهه إلى أوراقه التي أمامه . ظل الطالب محتفظا بابتسامته رغما عنه وهو يعود إلى ورقته ببطء .. إذن فالمأزق سيكون محكما .. وسيكون أبوه طرفا فيه .. يا للكارثة.. هؤلاء نجحت معهم خطة "أنا برئ" .. أما أبوه فلا ينجح معه أي شئ .. سواء كان مذنبا أو بريئا .. ضاحكا او عابسا .. جالسا أو واقفا .. فس "يأكلها في عظامه" .. انتهى من ملإ الإستمارة ثم سلمها إلى الرجل مع الوثائق المطلوبة وبعد أن انتهى تماما من التسجيل خرج من القاعة بل من الكلية كلها وهو يشعر كأنه كان يعدو طوال الوقت .. الآن يعود إلى المشكلة الأولى التي بدأ بها الأمر، كيف سيعود إلى المنزل ؟ .. فكر في توفير قطعه النقدية القليلة المتبقية لنفسه فذهب إلى جانب الطريق وشرع يلوح بيده لعله ينجح في واحدة من عمليات ال"أوطو سطوب" .. كان يجد ذلك الأمر سخيفا لا يطاق .. إنه يشعر كأنه لجنة استقبال لتحية كل من يمر أمامه .. سيارة قادمة من بعيد .. لقد اقتربت .. هاهوذا يلوح لها بيده .. مرحبا .. كيف حالك حبيبييييي .. سفرا سعيدا .. مر بسرعة البرق من أمامه .. واحدة أخرى .. صديقيييي .. أتمنى لك سفرا ممتعا ... مر بسرعة البرق أيضا .. وأخرى .. حبيبي .. صديقي .. توقف أيها الوغد وإلا ... يغير من وقفته ويتقدم إلى مكان آخر فربما كان المكان الذي يقف فيه به خطب ما .. يلوح من جديد .. صديقي .. حبيبي .. كيف حالك ؟ .. أنا سعيدا لمرورك بجانبي .. مرة أخرى .. حبيبي يا حبيبي .. كيف حالك ؟ .. سفرا سعيدا حبيبي .. تبا لك .. بعد نصف ساعة من المحاولات العقيمة يحمر وجهه غيظا ويركل قطعة حجر على آخر سيارة مرت بجواره ثم يعود أدراجه .. يفكر في حل "الكار" .. سيلوح بيده مرة أخرى ؟ .. فلينس أمر التلويح تماما .. إنه ليسا مهرجا ها هنا .. لقد سئم من مهزلة ال"أطو سطوب" .. لن ينتظر "طوابيس" العوامرة ولن يعترض الكار ولا أي شئ من هذا القبيل .. لقد سئم كل هذه الألعاب الطرقية .. هو ليس هنا لمطاردة وسائل النقل .. إنه هنا ليدرس .. ليدرسسسسسسسسس .. هناك حل وحيد يمكن أن يحافظ به على البقية الباقية من إنسانيته، وهو "التاكسي الصغير" .. سيستقله إلى المدينة التالية .. وبعدها يستقل سيارة نقل ويعود إلى مدينته .. أي أنه كي يعود خطوتين إلى الوراء عليه أن يتقدم خطوة إلى الأمام ! . هذا هو الحل إذن .. سيتمزق جيبه قليلا لكن لا مشكلة، هذا هو يومه الأول ها هنا على كل حال . لقد وجد لنفسه مكانا هنا أخيرا، كيف ستكون أيامه القادمة ؟ .. إنها كلية جميلة المظهر، هل ستكون جميلة الجوهر كذلك ؟ .. هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة .. وحتى ذلك الحين سيظل دائما .. بريئا ! يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من أنا بريء من هنا : أنا برئ ! (الجزء الأول)