مع بداية الإنتقال الديموقراطي بإسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو و وضع دستور 1978 و ما واكب ذلك من انفتاح على ممارسة الحريات العامة و انتشار كبير لمفاهيم حقوق الإنسان وظهور مجتمع مدني قوي ، كان لابد للساسة الجدد أن يبحثوا عن وسائط متطورة تعبئ المواطن و تدفعه إلى استشعار أهمية المرحلة التاريخية التي يعيشها البلد و الموسومة بتحديات الخروج من قوقعة التخلف التي جعلت إسبانيا في الحضيض مقارنة مع أقرب جيرانها الأوربيين . فكانت أقرب هذه الوسائط هو الإعلام ، حيث عملت الحكومة على إصلاح الإعلام العمومي الفرنكاوي الغارق آنذاك في الأساليب التقليدية التي تطبع الأنظمة الشمولية و حررت القطاع السمعي البصري في وجه الفاعلين الإقتصاديين و الجمعيات و الهيئات غير الحكومية ، مما مكن من ظهور قنوات تلفزية حرة و جرائد وطنية مستقلة و إذاعات متخصصة ... و مع تسارع وتيرة التنمية الإقتصادية و الإجتماعية لدى جيراننا الشماليين في منتصف الثمانينيات و مع ثمار النظام السياسي القائم على الحكومات الجهوية ذات الصلاحيات الواسعة ، عمل الفاعلون المحليون في الأقاليم على استثمار هذا المعطى و الدفع نحو إبداع صحافة القرب ، مدعومين برؤوس الأموال الخاصة التي اكتشفت في هذا النوع الصحفي قطاعا مربحا بالنظر للعائدات المالية المهمة الناتجة عن الإشهار و بيع المساحات الإعلانية بمبالغ مهمة . مثلا مدينة لا يتعدى عدد سكانها 50 ألف نسمة تتوفر على قناة تلفزية خاصة تفتتح برامجها مبكرا بنشرة أخبار تبتدئ من الندوة الصحفية لعمدة البلدة إلى سعر الطماطم في السوق مرورا بروبورطاجات مصورة حول الأنشطة السياسية و الثقافية و الإجتماعية والرياضية التي تعرفها المدينة و إعلانات إدارية و إشعار بالطرق المقطوعة بسبب الزحام أو الأشغال و حالة الطقس و أرقام هاتف مصالح البلدية و الشرطة و رجال المطافئ و كل شيء يمكنه أن يتعلق بما هو محلي صرف . ثم مثلا صحيفة يومية تغطي مجموعة من القرى المتجاورة تباع بثمن رمزي أو توزع مجانا على المنازل و يمكن أن تطالع فيها أعمدة للرأي يكتبها مواطنو هذه القرى و يمكن أن تلتجئ إليها لمعرفة موعد مرور الحافلة أو القطار ، كما تخصص صفحات تصب في كيفية تطوير المنتوج الفلاحي يقدمها مهندسون زراعيون و يمكن أن تجد صورا جميلة لطقوس و عادات تلك القرى و ... و ... و ..... صحافة القرب هاته كان لابد لها أن تصنع فكرا جديدا لدى المواطن الإسباني القاطن في البلدات و القرى البعيدة والذي كان يعتبر نفسه إلى وقت قريب مهمشا لا يلتفت إليه أحد ، فمكنته ( أي وسائل الإعلام المحلية ) من الشعور بكينونته و هويته و مساهمته الضمنية في أي مكتسب و زودته بجرعات عالية من قيم المواطنة و الحرص على الصالح العام . السؤال الذي يمكن أن نطرحه من خلال هذه الكرونولوجيا التاريخية ، هل يمكن أن نسقط هذه التجربة الناجحة على بلد كالمغرب وعلى مدينة صغيرة كالقصر الكبير ؟ قد يستغرب البعض و يتساءل البعض الآخر عن استحالة تطبيق هذه التجربة في المغرب الذي لازال المشهد الإعلامي فيه يعرف تجادبات كثيرة و عن البنية السياسية و الثقافية و الإجتماعية بالقصر الكبير التي لازالت غارقة في مستنقع التخلف و الجهل و الفقر . لكن عودة سريعة إلى الماضي القريب تظهر محاولات محتشمة لتأسيس صحافة محلية بالخصائص التي تم ذكرها سابقا و التي كانت في مجملها مكتوبة عن طريق جرائد لم تستمر طويلا لعدة أسباب .. أولا غياب استراتيجية العمل و الرؤية الواضحة حول الخط التحريري من طرف المؤسسين الذي كان معظمهم من المتطفلين على العمل الصحفي أو العاطلين عن العمل الساعين إلى الإرتزاق من هذه الجهة أو تلك . ثانيا اعتماد هذه الجرائد على مدخول المبيعات و عدم دخول المستثمرين محليا إلى هذا الميدان بفعل ضعف التكوين المالي الذي يمكن من تطبيق آليات الإشهار و التسويق التي تتخد الصحافة المحلية وسيلة مهمة للكسب المشروع . ثالثا تخصص هذه الصحف في كل ما هو سياسي و الإبتعاد عن أشياء مهمة تخدم المواطن أكثر كالإعلانات و البرامج و الخدمات . إن الموروث الثقافي للقصر الكبير و بنيته الإجتماعية الحالية المتطلعة دائما لكل ما هو محلي و الكفاء ات المتواجدة به ، كل هذه المعطيات الإيجابية قادرة أن تفرز لنا نموذجا يحتذى به وطنيا في ما يخص صحافة القرب خصوصا في المدن الصغيرة على شاكلته ، فقط يجب أن نأخذ الأمر مأخذ الجد و أن نقيس على تجارب الآخرين الذين كانت أوضاعهم أشد تخلفا مما يعيشه القصرالكبير اليوم . من كان يقول خلال أواسط السبعينات أن إسبانيا ستكون كما هي اليوم . إسألوا قدماء المهاجرين فعندهم خبر اليقين .