في مقهى الواحة، تحت الشجرة. كنت مع الأصدقاء نبايع حديث المقاهي رسولا بيننا، لما التحق بجماعتنا رئيس جمعية الغيورين على مدينة القصرالكبير و سكانها الأصليين، قصير القامة علا الشيب رأسه الصغير ولم يمس لحيته بل تركها تنعم بسوداها، متعنت الطباع هادئ الانفعال، يحبط أفق انتظاراتك بهدوء الحملان، إذا ما حاول أحد ما إقناعه بأن العالم أصبح قرية صغيرة، يتفق مع طرحه مستثنيا مدينة القصر الكبير، فهيفي نظره لن تصبح قرية مهما طال الزمن، وستظل مدينة للقصريين فقط، فالعولمة -حسب اعتقاده- إن غيرت بتكنولوجيتها العالم بأسره فإنها لن تستطيع بحال من الأحوال تغيير معلمة أو علم ينتسب لهذه المدينة الموغلة في الزمن. كان دائما وفي جميع المحافل والندوات والمحاضرات، وحتى في صبيحات الأطفال يصرح ويصر على الافتخار بانتمائه للأصول القصرية، وإذا ما حاول أحدهم مهما كانت مشارب فكره، إقناعه بالعدول عن عصبيته البريئة يرفع صوته عاليا: - إن لم تكن قصريا أنا مالي؟. قبل الجلوس معنا حيانا بتحيته الغريبة: - سلام قصرين من رب الرحيم. فأجبته ممازحا: - وعليك السلام وعلى سكان الأرض أجمعين، كيف حالك أيها القصري؟ زفر زفرة عميقة وأمسك بأرنبة أنفه وقال: - هانحن من جديد نهيء لاقامة ندوة ثقافية تعرف بالمدينة وأعلامها. سأله صديقنا الوديع "الجلولي": - وما موضوعها؟ و من المشاركون فيها؟ باعتزاز بالنفس أجابه: - مواضيعها مفتوحة على كل ماهو قصري، كما أن عدد المتدخلين لا زال مفتوحا، وبحوزتي الآن خمسة وثلاثون متدخلا ومتدخلة من العيار القصري الوازن. باندهاش سألته إن كانت أمسية واحدة تكفي لتغطية هذا الكم من المداخلات، أجابني بوثوقية: - طبعا، كما أن كل واحد من المتداخلين وقع سلفا على الالتزام بعشر دقائق كحد أقصى لمداخلته، إذا لم يكفيه الوقت أنا مالي؟!. من جديد استفسره "الجلولي": - كيف ستتصرف إن تجاوز أحدهم الوقت المحدد؟ أشعل سيجارة ونفث دخانها في الهواء وهو يجيبه: -بالطبع سأمنعه عن التطاول على حق الآخرين، وإن شاء أن يكمل مداخلته فأنا مستعد للاستماع إليه بعد انتهاء الندوة طبعا إلى ما بعد صلاة الفجر. كان كلامه منطقيا يتماشى وتصوره لتدبير نشاط هو الداعي إليه. - أعد على مسامعنا حكايتك مع أنفلونزا الطيور. قالها الجلولي وانفجر مقهقها حتى بانت أضراسه، وبما أن طريقة ضحكه هاته لم أعدها فيه من قبل، تماهيت معه وضحكت دون أن أعرف السبب، وحتى لا يصبح ضحكي من قلة الأدب طلبت من القصري أن يحكي لنا حكايته. لم أكن بحاجة للإلحاح عليه إذ أنه انطلق يروي قصته بعفوية ونشوة قل نظيرها: - كنت مارا بجوار إحدى 'المزابل' التي لم يكن لها وجود في المدينة، كما أنها ليست من مخلفات القصريين الأحرار، إذا بي أرى دجاجة أسود ريشها وقد توارت وراء الأزبال، وكان أنفها يسيل ماء، ارتبت في أمرها، وقلت في نفسي لعلها مصابة بأنفلونزا الطيور، بمنديلي كممت أنفي، وغطيت المسكينة بقطعة قماش، ورجوت أحد المارة حراستها في انتظار عودتي، بعدما حذرته من الاقتراب منها ووعدته بمكافأة كبرى. ثم انطلقت مهرولا نحو المستشفى المدني، بسرعة دخلت فناءه واقتربت من أحد الأطباء المكلف بالمستعجلات وقلت له كأني أحمل له خبر سارا: - صباح الأنفلونزا يادكتور!. أجابني بعد أن نفخ خديه تأففا: - انفلونزا في أول كشف لهذا الصباح، فأل خير إن شاء الله، تمدد على السرير كي أكشف عليك، أمسك بمرفقي كي يصحبني نحو السرير، لكنني تراجعت نحو الوراء ونبهته: - لست أنا المصاب! نزع نظارته عن عينيه وقال: - ومن المصاب إذن، زوجتك؟ قالها وهو يشير نحو إحدى المريضات التي كانت تنتظر دورها. - أوضحت له الأمرحينما قلت: - بل الدجاج المسكينة. بعصبية أجابني: - أحمق بالليل وآخر في الصباح يالها من مهنة مريحة. - احتججت على هذا السب وحذرته من التمادي في الغلط: - أنا لست أحمقا أنا قصري قح، والدجاجة التي حدثك عنها بالمزبلة موجودة. استشاط الطبيب، ورمى سماعته أرضا ، فك أزرار وزرته، وقال لي: - أغرب عن وجهي الآن قبل أن أرتكب حماقة، فعندي من المشاكل ما يكفي وزيادة. ربتت على كتفيه،أجلسته على الكرسي وذكرته (والذكرى قد تنفع الأطباء) وقلت: - أما أديت قسم "أبي قراط" قبل توليك مهنة الطب؟ التي توصي بالتدخل لانقاد الأرواح. طوح بأوراق وأقلام مكتبه، وبنظارته وبخ الماء على أوراق الكشف في حركة واحدة: - نعم أديت القسم لمعالج الإنسان، ولم يرد ذكر الحيوان في قسم "أبي قراط". - معذرة دكتور، لو نبهتني لذلك ما كنت عكرت مزاجك بهذا الشكل، ولكن انفعالك هذا يؤكد لي أنك لست "قصريا"حرا. تركت الطبيب وبيده حبات مهدئة، وانطلقت جاريا نحو البلدية لتدارك التأخير الذي أحدثه الطبيب (البراني)، وحتى يتم التدخل لمعالجة الموقف قبل أن يفوت الأوان، وتنتشر الأنفلونزا بين أعلام المدينة ومثقفيها، في الطريق كان "القصرويون" يوقفونني ويستفسرونني عن سبب جريي بتلك الطريقة، إذ كنت أزيح عن طريقي أي شخص يعترضني، صغيرا كان أم شيخا، فكنت أشرح لهم خطورة الحالة دون التوقف عن العدو، الشيء الذي جعل البعض منهم يتبنون موقفي ويشاركونني الجري، لأن هذا الخبر العاجل لم يأت ذكره بعد: لا في الإذاعة ولا حتى في الصحف اليومية.