تُزكِم أنفك و أنت تتجول بين دروب المدينة رائحة شهية، تتفاعل معها أحشاء البطن و تصدر نغما تتراقص على إيقاعه الأمعاء و يسيل من فرط الوجدان رضاب الفم و تصطك الأسنان منذرة اللسان عن قرب وصال مع حبيب لطالما اشتاقت إليه الروح. إنها رائحة صاحب الفخامة... الكسكس المعظم، حاكم الموائد و سيد السماط من يوم الجمعة بدون منازع. تفرد له طقوس خاصة تتماشى مع القدرات الاقتصادية لكل عائلة، فتبدو حباته كاللؤلؤ صفراء فاقع لونها تأخذ لها شكلا هرميا وسط صحن من فخار صيني قيم ذو قمة باذخة الثراء، تتوسطها قطع من لحم الضأن أو ما دون ذلك يضفي عليها البخار المتصاعد هالة من النور. و تأتي أصناف الخضر من يقطين أخضر و أحمر وجزر و لفت و أوراق الكرنب و كذا خروب الفول الطازج لتأخذ مكانها على حاشية الهرم و كأنها أحجار كريمة مزهوة بألوانها تأبى إلا أن ترصع التاج لتضعه فوق رأس صاحب الفخامة. في عمق الصحن يغوص المرق خجولا و قد تضمخ بعطر سائر البهارات يبلل حبات فخامته لأجل أن يجعلها لقمة صائغة في فم المستهلك. هذا الأخير يتخذ وضعا خاصا لاستقبال مراسيم الاحتفال بقدوم صاحب الفخامة و الوفد المرافق له، فتتم عملية تحضير المائدة التي سيُشرّفها فخامته في جو بهيج مفعم بالنشاط و الحيوية فتُزين أرضيتها بغطاء مزركش يسر الناضرين. و في وسطها يُوضع العرش الرئاسي الذي سيجلس عليه صحن فخامته الفاخر، و على جانبها تصطف الملاعق و بريقها ساطع اللمعان كحرس جمهوري، و فوق دائرة السماط، تأخذ المحارم وضعيتها بيضاء ناصعة مطرزة بخيوط بكل ألوان الطيف. ومن حول المائدة، تتجمهر الوفود ترقبا لوصول هودج فخامته، و يؤتى بطِشْت فضي الركاز به ماء زلال غالبا ما يكون فاثرا لأجل تطهير الأيادي التي ستمس حبات فخامته. كل هذا و فرقة البطن النحاسية لا تكف عن عزف النشيد الوطني إيذانا بوصول الهودج الرئاسي تسبقه نفحات عطره الشهي. و يصل أخيرا بكل هيلمانه و يجلس على عرشه و احتراما لهيبته، تُقدم له فرائض الطاعة و الولاء بعملية النش عليه حتى يتمكن من استرجاع أنفاسه ألافحة، الملتهبة و يستسلم فخامته بعدها لزخم الأيادي التي تبدأ بنهش جوانبه الدافئة بنهم و شراهة. و يعم صمت رهيب لا يسمع فيه سوى رنين الملاعق و حفيف الأشداق و بين الفينة و الأخرى يبوح أحدهم و يبدي إعجابه قائلا : "سكسو و شمن سكسو هذا" و يختم دهشته ب : امممممم !!!! الله يعطيها الصحة اللي طيبتو. و يختتم الحفل برفع أكف الضراعة بالدعاء لمن أعد الوليمة و تتفرق الجموع و هي تتجشأ من فرط التخمة.