إلى القابضين على الجمر، المبشرين بقيم الصدق والجمال والحرية والمحبة… إلى فرسان منظومة التربية والتكوين القابعين في محاريب الفصول الدراسية ينشدون رسالة بالعلم والسلم… إلى السادة المدرسين حاملي لواء التنوير والمجد في زمن عصي شديد البأس. شاءت الأقدار أن يعيّن مدرسا بإحدى مدن شمال البلاد قادما إليها من وسطه ، وجد نفسه مضطرا لاستئجار غرفة متواضعة في فندق صغير ؛ فالوزارة الوصية على القطاع لا تصرف أجور موظفيها إلا بعد مضي حوالي نصف الموسم الدراسي .لم يكن له من قبل أي علاقة بالمدينة ، غير أنه يعلم أن " كمال " صديق الدراسة عيّن هو الآخر بهذه المدينة حسب النتائج التي أعلنت عنها المدرسة العليا للأساتذة حيث كانا يدرسان فبعث إليه برسالة تخبره بموضوع التعيين إذ لم تكن تقنيات التواصل الحديثة قد ظهرت بعد ،وإنما كانت الرسائل المكتوبة أداة معتمدة في التراسل والتواصل . عشية يوم توقيع محاضر الالتحاق بمقرات العمل اهتدى إلى العثور على صديق الدراسة ، فكانت لحظة امتزجت فيها مواجيد الشعور بالحاجة إلى الانتماء الجديد بالرغبة في تقدير الذات وتحقيق حلم شابين في منتصف العقد الثالث من العمر: أهلا ومرحبا بك أخي جلال في بلدتك ، انتظرتك البارحة عساني أن أحظى بك ضيفا كريما …طاب مقامك ، ستجد من أهل هذه البلدة الطيبة ومن أبنائها ما يعينك على إبلاغ رسالتك النبيلة… شكرا لك أخي كمال ، من حسن حظي أن أجد نفسي إلى جانب أحد أصدقائنا العشرين في المدرسة العليا الذين انتشروا عبر جهات الوطن لتعزيز سرايا المدرسين ودعمهم في مهام التربية والتنوير. كان جلال يرتدي قميصا أبيض بنصف كم يناسب حرارة فصل الخريف ، كما كان في الشتاء يرتدي معطفا جلديا يقيه برد الفصل ، وأما سرواله فذو لون أقرب لزرقة السماء ، نالت منه المكواة حظها المطلوب ورسمت على وجهه خطا مستقيما لا ترى فيه ميلا ولا عوجا ، وكان الحذاء أسود يخفق لمعانا . الأستاذ الجديد شديد سواد شعر اللحية والرأس ، يسرحه نحو الخلف بعناية . قوام جسمه ليس بالطويل ولا بالقصير ، أو إن أردت التدقيق فهو أقرب إلى القصر منه إلى الطول ، لم تنل منه نحافة ولا سمنه بفعل حرصه على ممارسة الرياضة ولعب كرة القدم. وجد الشابان نفسيهما في حاجة ماسة لاغتنام فرصة أول لقاء بعد عطلة صيف مديد ، كان كل منهما ينتظر هذا اليوم حيث التوقيع لبداية مرحلة جديدة من حياتهما . لقد شكّل ذلك التوقيع بالنسبة لهما إعلانا عن ميلاد جديد وانتقالا إلى ضفة أخرى ستمكنهم من حمل صفة جديدة طالما قيل لهما أنهما محظوظان بها بسبب البطالة المتفشية بين صفوف الآلاف من خريجي الجامعات آنذاك. شعر المدرس جلال كغيره من الأقران بحاجة منظومة التربية والتكوين إليه ،وكأن المنظومة تنتظره طويلا على أحر من الجمر ، كما خيل إليه أنه قادر على إيجاد حل لكل أشكال التفاعلات الصفية داخل القسم بما يمتلك من آليات تمكنه من تدبير مملكة الفصل الدراسي وسياسته بحكمة متبصرة واقتدار مهني ؛ فطالما كان يحدث نفسه قائلا : ما معنى أن يقوى أحدهم رغم تواضع تكوينه العلمي ، على تدبير الشأن المحلي لمدينة تحتضن عشرات الآلاف من السكان ولا يقوى جلال على تدبير جماعة القسم رغم قلة أفرادها ورغم غنى الدرس النظري الذي تلقاه خلال تكوينه تخطيطا وتنفيذا وتقييما ؟؟ مثل هذا المشاعر المميزة ولّدت في المدرس الشاب ثقة بالنفس جعلته يرتقي بطموحاته في مدار ج المجد البيداغوجي والحلم بنيل وسام " المعلم الأول" أو " البيداغوجي الكفء " . كيف مرت أجواء توقيع الالتحاق بالعمل أخي جلال ؟ وكيف كانت بروتوكولات استقبال المدرسين وخاصة الجدد منهم ؟ بعد التوقيع رحب بنا السيد رئيس المؤسسة وسلم لنا جداول حصص العمل الأسبوعية ودعا لنا بالتوفيق والسداد . أما أنا فقد خاطبني وهو يدقق النظر صوب عينيَّ مسلما لي جدول الحصص" حيّ على العمل ، امض قدما ولا يشغلنك شاغل عن رسالتك " … والحق أنه تملّكني إحساس غريب إذ لم أكن أتوقع منه هذا التوجيه القوي الذي يفيض رغبا ورهبا ،لقد انتابني إحساس ببداية خوض معركة يلزم أن أنتصر فيها فأكون في مستوى شدة هذا التحفيز ،حسبتها دعوة صادقة للعمل وتنبيها قويا بحجم قوة النداء العلوي المقدس "حيَ على الفلاح " . إن السيد مدير الثانوية رجل صارم ، قليل الكلام شديد الرهبة ، طول شاربه وكثافته ترمز إلى الحزم وقطع التردد. وسيجارته التي تتراقص على الجانب الأيمن من شفتيه تدل على أنه يلتهم على الأقل علبة سجائر يوميا ، لا يكاد يفتر عن التدخين و ينسى أن بين شفتيه سيجارة إذ لا يسحبها من بين أصبعيه إلا إذا لفحه لهيب نار عقبها فيسحقها بلا هوادة بأصابعه القوية داخل مطفأة السجائر المكتظة بالبقايا . وأنت كيف وجدت تعيينك ؟هل من مزية إضافية ؟ لا فرق تقريبا ، غير أن خبايا عالم التدريس ومضمراته لن تنكشف لنا سوى مع السعي الحثيث لكسب تجربة كافية وبلورة خبرة مقدرة . صدقت أخي كمال، وقد تعلمنا قبْلُ أن التعلّم ، عموما ، تحكمه قوانين الرغبة والحافزية والنضج والجاهزية والممارسة والتكرار وهي أسس تنهض على العامل الزمني ومكابدته. من جهة ثانية ، ينبغي ألاَ ننسى نحن المبتدئين أن واقع الممارسة المهنية يشوبه ما يكفي من العوائق ، فهو ليس على الصورة الوردية التي قد تتغنى بها الجهات الرسمية المسؤولة ، و لا هو يستجيب للوصفات السحرية المستمدة من خلطات علم النفس التربوي وسيكلوجية المراهق أو نظريات التعلم والمقاربات البيداغوجية الحديثة…إنه واقع تربوي عنيد وعصي ، يتطلب حزما معلوما ومرونة وانسيابا بطيئا قاصدا. ××××××××××××× جريا على أعراف المدرسين وتقاليدهم إزاء الحصص التدريسية الأولى من كل موسم دراسي جديد ، وبعد إرساء ما يسمونه " أسس التعارف التربوي والتعاقد الديداكتيكي " بين أطراف الفصل الدراسي ، عمد الأستاذ جلال إلى إجراء تقييم أولي يمكنه من قياس مستوى التحصيل الدراسي الفعلي لدى فئات كل قسم ، حتى يتمكن من تحديد ميولاتهم و توجّهاتهم وكشف بعض مهاراتهم وقدراتهم وتشخيص مواطن تعثراتهم وطبيعتها لرسم تخطيط عملي واختيار أسلوب مناسب في التنفيذ والمعالجة. أثبت الأستاذ جلال على السبورة التاريخ الهجري لذلك اليوم وموافقه من الميلادي وكتب : التربية والتعليم : المفهوم والمقاصد المنهاج الدراسي : الخصائص والمنهجية المعتمدة (عرض أولي) صناعة النجاح الدراسي : العوامل الذاتية والشروط الموضوعية أول ما لفت انتباه تلاميذ القسم الدراسي هو جمال خط الأستاذ ، فكأنه شرع في رسم لوحة فنية قد تكتمل معالمها الجمالية عند نهاية الحصة ، فضلا عن ذلك كان ينقر الحروف بسرعة لا فتة وهي تنبجس من تحت أصابعه وتتراقص لتستوي موضونة مرصوصة فتشكل كلمات وجملا تسرَ ناظرهم وتلفت انتباههم… ستزداد دهشة المتعلمين حين رتل ، في معرض بيان ضرورة العلم وثمرته ، آيات من الذكر الحكيم هفتْ لها أنفسهم واقشعرت لها أبدانهم ، صوت الأستاذ صحل فيه بحة ذات ترنيمة تنتشل الحائر وتوقظ الغافل ، حتى أن أحدهم لم يمتلك صمته فهمس في أذن صديق بجانبه : يا إلهي ،ما هذا الترتيل ؟ لم نعهد مثل هذا المدرس ، كل شيء فيه يبوح بكفاءة واقتدار متميزين …أرجو ألا نحرم من عطاءاته التوجيهية وفتوحاته العرفانية . رد عليه زميله في ذهول وإعجاب : الجودة تصنع الفوارق، ومدرس مقتدر يعني بالنسبة لنا مزيدا من الالتزام والجهد ، فبمثل هؤلاء نكون ومن دونهم قد نتيه ونشقى ، في كل أستاذ نبيل سر من أسرار النبوة ودليل على بدائع صاحب الملك والملكوت . ألم تر كيف يرسم الحرف العربي الهجائي ؟ مدهش حقا ! يا ليت لنا مثل ما أوتي أستاذنا جلال، إنه لذو خط عظيم . ما من فصل دراسي يرتاده الأستاذ جلال إلا يحدث في تلاميذه ما يشبه العصف الذهني والدهشة الأولى ،ينتهي ذلك بإعجاب وتقدير قلما يكون . فالسمات الشخصية التي تميز أسلوب جلال هي القدرة على التركيب المنسجم في آن واحد بين ثنائيات يتعذر في كثير من الأحيان المزج السليم بينها كما يتعذر ، بصفة خاصة ، الفصل بينها بالسرعة المطلوبة وبالقدر الكافي ، كاللين والحزم والإحجام والإقدام والمهابة والتواضع وجمالية التعبير وعمق الفكرة والهزل الهادف والجد الرصين. عند نهاية كل حصة دراسية يتحلق حوله تلاميذ القسم ولا يفارقونه إلا عند المدخل الرئيس للثانوية ،يسألونه ويستشيرونه حول قضايا التوجيه المدرسي وآفاق الدراسة الجامعية ، وفي بعض القضايا الخاصة ملتفين حوله في مشهد شبيه بنجوم الرياضة والفن وهم وسط محبيهم وبين المهووسين بهم . وعلى جنبات ساحة المؤسسة التربوية وفي جل زواياها يرددون اسمه كلما كان ممكنا ، وهم في ذلك معجبون بفن الأستاذ وقدرته على الجمع في لحظة قصيرة من الدرس بين هزل عنيف وجد يقبض الأنفاس ، ودوما يتساءلون عن خفايا ذلك وخباياه دون أن يتفقوا على جواب بعينه. لا يكتفي الأستاذ جلال بتقديم الدرس وإنما يعيرهم ما تيسر له من كتب ومجلات بهدف توسيع مداركهم العلمية وتعزيز مواهبهم وتطلعاتهم ، كما ييسر لهم سبل الاندماج في أنشطة النادي الثقافي التابع للثانوية من خلال تنظيم المحاضرات والمشاركة في الندوات وإجراء المسابقات الثقافية ضمن فضاءات الحياة المدرسية بما يرسخ روح العمل الجماعي ويوطد أسباب التواصل البيداغوجي المثمر بين المتعلمين والمؤسسة الحاضنة لهم. مساء يوم جمعة من شهر رمضان سهر الأستاذ بنفسه على تنظيم نهائي مسابقة خاصة بفن تجويد القرآن الكريم ، كان صديقه كمال ضمن لجنة التحكيم ، ومع انطلاق المسابقة كانت القاعة المخصصة للنشاط قد غصّت بالتلاميذ والتلميذات والأستاذ جلال يسير وينشط … في فترة استراحة قصيرة نادى الأستاذ جلال على عبد الرزاق أحد تلاميذه : الآن مع زميلكم عبد الرزاق ،من قسم البكالوريا ، إنه موهبة صوتية كما علمتم ، فاستمعوا له من فضلكم وهو يؤذن ، اصدح بصوتك عاليا يا عبد الرزاق وأذن كما كنت تؤذن . كان صوتا تردد صَدَاه بين جدران القاعة ، أحس الجميع بسِحره الأخَّاذ، وقوة تأثيره عليهم وقد خشع الجميع وتجمدوا في كراسيهم ينصتون في هدوء وسكينة ، فلما فرغ من النداء خاطبهم الأستاذ مازحا : حذار ان يفطر أحدكم ويقول لقد أعلن الأستاذ جلال عن أذان المغرب حسب توقيت الثانوية وما جاورها…فانفجرت القاعة بالضحك وتعالت الأصوات لتتنفس راحة طفيفة ، لقد وجدوا في تعليق الأستاذ فسحة وسعة بعد متابعة مثابرة لأطوار المسابقة. كان كمال صديق جلال يرقب مشهد القاعة من طرف خفي وبعينين جاحظتين وقد هاله أمر الأستاذ فالتفت إلى زميل له من لجنة التحكيم: كيف يستطيع هذا الساحر أن يطوَع هؤلاء المردة من المراهقين ويجعلهم ينقادون له من غير أي كلفة أو جهد يذكر؟ عجيب أن يجدوا متعتهم في الانصياع والإذعان التلقائي له ، من المدهش أن ينقر بقلمه نقرات خفيفة على وجه الطاولة فيرتدَ الجميع صامتا لا تسمع لهم صوتا ولا أدنى همس…وكيف له أن يتذكر الأسماء الشخصية لهؤلاء جميعا دون أن يسهو أو يغفل، لا شك أنه يحتكر أسرارا بيداغوجية تجعله متميزا عنا. ولا شك أيضا أنه يمارس فن التدريس كخبير سيكلوجي موهوب. رد عليه الزميل : باختصار وكما يقول جلال نفسه " إذا الله وهب فلا تسألن عن السبب" …السيد جلال أوتي جوامع فن التدريس ، فحاز منحة الموهبة الربانية و امتلك الإرادة المهنية الصلبة ، قليل منا من يستطيع أن يرتقي بأدائه لمستوى جلال ،إنه واحد من الفرسان المتميزين ذوي الرسوخ والتمكن. أعلن عن نهاية المسابقة بتوزيع جوائز رمزية على الفائزين وأخذ المتعلمون صورا تذكيرية مع السادة الأساتذة الحاضرين وغادر الجميع القاعة على نحو حدده السيد جلال ،خرجوا تحت وقع أجواء روحية أضفاها الأستاذ على القاعة بدعاء ختم تولاه هو بنفسه. ×××××××××××××× اعتاد الصديقان جلال وكمال أن يرتادا مقهى تقع وسط المدينة ، تجلب أصنافا من الرواد نسجوا علاقات صداقة متينة من فرط جلوسهم فيها مجتمعين ، المقهى توفر لهم الجرائد اليومية وتمكنهم من متابعة القنوات التلفزية الرائدة في برامجها الإعلامية والثقافية…وعادة ما تتحول تلك المواد الإعلامية إلى موضوعات للتقييم والنقاش بينهم ، يتولى رجال التعليم ، بحكم تكوينهم ، تأطيرها وتوجيهها . الأستاذ جلال من الصنف الذي أوتي ملكة الإصغاء ؛ فهو قليل الكلام ، قصير العبارة ،وجل تدخلاته أسئلة استكشافية تنم عن اهتمام ومتابعة يقظة لما يجري ويدور بالقرب منه، يستعين في كلامه بجمل تعبيرية مركزة وقوية ، واضحة الدلالة ومتينة المبنى ، وهو في ذلك يعشق العربية ويتجنب إقحام الألفاظ الفرنكوفونية التي درج على استعمالها كثير من رجال التعليم حتى من غير ضرورة تواصلية كالقطار والحافلة والكلية والميزة والأجرة ونهاية الأسبوع والتوقيع والهاتف والرسالة القصيرة والمداومة…كما أنه كثير السلام ويسأل عن أسماء كل من يصافحهم : الاسم الكريم ؟ أين العمل ؟ كما يسأل عن أحوال أبنائهم : كيف حال الأنجال؟… كانت جلسة يوم نهاية الأسبوع في المقهى فرصة للأستاذين جلال وكمال وبعض أصدقائهما للبحث عن لحظات تسلية استعدادا لبداية أسبوع جديد ، كما كانت مناسبة للمدرسين الشباب للنقاش والحوار والتحليل والنقد لهموم المهنة وقضاياها التنظيمية والبيداغوجية…وهموم الأمة العربية والاسلامية وبؤس السياسة الدولية والأخطار المحدقة بالبيئة وما يواجه الشباب من تحديات وصعوبة الاختيارات … على هذا النحو قضى الأستاذ بين جدران مقر عمله في هذه المدينة ثلث قرن من الزمان لم يتحول عنها قيد أنملة ، وكانت تربطه بزملائه وشائج كثيرة ومتينة كالمهنة والمؤسسة مقر العمل والتنظيم الجمعوي والنقابي…. لم يكن الأستاذ جلال لا صاحب نحلة سياسية و لا منزع إيديولوجي معين ، وإنما كان ينتصر للفكرة التي تؤطر اختياراته البيداغوجية ، حريصا عليها ، يتفانى من أجلها . وكان داخل الفصل الدراسي فارسا لا ينازع ؛ أصداء الدرس التربوي كما ينجزه جلال عمت أرجاء المؤسسة بل تعدت أسوارها وتناولت الأسر داخل المدينة الصغيرة ، الحديث عنه بالثناء العطر والشكر الوافر… وأما الجهاز الإداري المسير للثانوية فلم يكن دوما يسمح للأستاذ بكل تلك الأنشطة ، كما لم يكن الأستاذ ليرتاح لتدبير إداري يقوم على أساس التزلف المذهبي البئيس أو التدبير البيروقراطي العليل. ولأجل ذلك كانت الإدارة ترصده وتتابع أنشطته عن كثب ؛ تحسب أنفاسه وتتعقب هفواته ولو كانت كالذر والهباء . في صباح ذات يوم امتنع الأستاذ جلال عن العمل في فصل دراسي لم يكن مهيأ لاستقبال التلاميذ ولا صالحا لإنجاز درس تربوي على قدر من القداسة . تفاجأ الأستاذ باستفسار في الموضوع حول أسباب عدم القيام بواجب العمل غير أن المفاجأة الحقيقية كانت من بعد ذلك لما هاتف جلال صديقه يخبره عما حصل : السلام عليكم ، أحيطك علما أن رئيس المؤسسة قد فعل فعلته هل سلمك إشعارا باقتطاع من الأجرة ؟ ذلك أمر هين وما كنت لأخبرك به ، وإنما تسلمت البارحة إنذارا موقعا من لدن السيد الوزير يدعي فيه أنني امتنعت عن العمل بسبب تافه تم التغلب عليه في حينه ، ويحيطني علما بأن الإنذار سيدرج ضمن ملفي الإداري وقد يؤثر على مساري في الترقي المهني… ما هذا الحنق ؟! يبدو أن السيد المدير قد أغوى السيد الوزير وأضله ، هل للسيد الوزير من الوقت ما يسمح له بالقيام بمثل هذا الإجراء ؟، وهل تمكن من معالجة اختلالات المنظومة التي تكاد تحتضر بسبب سوء التدبير وانعدام الرؤية الاستراتيجية المتبصرة ؟ أخي كمال ، لن يثنينا ذلك عن السعي لأداء واجبنا المهني ، وإنما جوهر الرسالة التربوية امتداد وظيفي لمهمة الأنبياء والرسل والمصلحين ورواد التغيير والتنوير…يسعدني جدا أن يكون حظي من هذه الحياة مزاولة مهمة التدريس ، وما بعد ذلك فهو علي هيِن ! مع الأسف فإن العصبية الأيديولوجية والحزبية العمياء تسمم أجواء العمل وتهدد الحياة المدرسية بالبوار. لطالما قال لنا الحكماء من المدرسين : " دعوها فإنها منتنة " . في مثل هذه المواقف يحافظ السيد جلال على توازنه النفسي ويتعامل مع الموضوع بهدوء تام رغم أن في جعبته معجما كاملا من أساليب النقد اللاذع والقدرة على الرد الساخر ،ودحض المزاعم وهو في ذلك يمتاح بعناية فائقة من شعر الحطيئة وخطب قس بن ساعدة ونظم المتنبي وحكم ابن عطاء الله السكندري… لما علم زملاؤه في العمل أمر الإنذار استنكروه وانتظموا في وقفة احتجاجية مساندة لصديقهم جلال واستنكارا لما تعرض له من ظلم ورفعوا شعارات تندد بشطط التدبير الإداري . انبرت طائفة من المدرسين الشباب تشجب القرار الانضباطي وتثني على الأستاذ جلال ، قال قائل منهم : بصفتي أحد قدامى تلاميذ الأستاذ جلال الذين تشرفوا بالتعلم على يده الكريمة وحظوا بالتلقي عنه ، أشهد الله أنني ما عرفت عنه سوى التفاني في العمل والصدق في القول والإنصاف في الحكم والتقييم ، الأستاذ جلال طينة خاصة ومعدن نفيس لا يعرف الكلل ولا الملل ،يحب الوضوح ويكره المواربة والتردد المهني…أذكر أن الإدارة التربوية كانت كل حين تقول لنا ونحن تلاميذ بين يديه : سيأتي عليكم زمان تدركون فيه حجم وقيمة هذا الهرم الماثل أمامكم…حقا أقول لكم : ما تتلمذت ولا عرفت مدرسا أصدق لهجة ولا أوفى أمانة من السيد جلال . وتدخل ثان فقال : الأستاذ جلال قيدوم المؤسسة وأحد أيقوناتها البارزة ، تعلمنا منه ما لم نجده في كتب المنظرين التربويين القدامى والحداثيين ، إنه هبة ثانويتنا هذه ، خبير بيداغوجي ميداني ، رمز الوفاء والتواصل المثمر ،ولئن كانت له من خطيئة فهي أنه يحسن الظن حتى فيمن ثبت عليه الشطط والتقصير في الواجب المهني. وقال آخر : ينبغي صون المؤسسة التربوية عن العواطف الأيديولوجية الناقمة ، فتاريخ الأستاذ العملي حافل بالأمجاد والعطاءات ،السيد جلال مدرس الأجيال وحامل لواء الوفاء لثوابت الأمة ، وبالمناسبة هذا مقتطف من إحدى تقارير زيارات التفتيش التي أجريت على السيد جلال تشهد بكفاءته وتقول : الأستاذ جلال مدرس طموح ومبادر ، كما أنه حريص على رهان بلورة التجربة المعمقة وعلى إثرائها وتنويع أساليبها . اكتسب خبرة التدبير البيداغوجي الناجع للفصل الدراسي . إن تكوين الأستاذ جلال العلمي / النوعي معزز برغبته الملحة والدائمة في الارتقاء بجودة أداء رسالته التربوية مع حرصه الشديد على حسن التخطيط والتنفيذ والتقويم أهله للتعاطي بحرفية متميزة مع الدرس المدرسي في التعليم الثانوي التأهيلي ، وجعل تواصله مع متعلميه مفعما بالحياة وبالتقدير المتبادل… وقال رابع ، يبدوا أنه حديث عهد بالممارسة التدريسية ، قال بصوت قوي كأنه منذر جيش : خاب وخسر نظام تربوي يهين المدرس ويبخسه جهده ويجعل منه مجرد أجير لا يشعر بأي أمن مهني ولا استقرار وظيفي . ألا بعدا لنظام تربوي لا يلتفت لحراس القيم وبناة المجد وقادة التغيير الاجتماعي والتاريخي…جلال منا بمثابة المدرس الروحي ، لا نعلم عنه سوى أنه يعشق التدريس ويقدس العمل ، وهو في ذلك يتمتع بصدى طيب وعليه إجماع واسع بين أوساط المدرسين والمتعلمين وحتى آبائهم وأولياء أمورهم ، وأعتقد أن الإنذار يلزم أن يوجه للجهة المسؤولة عن المراتب المتأخرة التي تحتلها منظومتنا التربوية حسب تقارير التنافسية العالمية ، الإنذار حري بمن يتحمل مسؤولية انهيار منظومة القيم داخل فضاءات المؤسسات التربوية . تابع المتدخل كلامه بنبرة صوت قلقة كادت تفقده صوابه : ها نحن على مقربة من انصرام الموسم الدراسي ولقد علمت من مصادر مقربة أنه تم إسناد مهمة إدارة هذه المؤسسة لمدير آخر بينما أسند لمن فعل فعلته مهمة مدير إقليمي بالعاصمة الإدارية للبلاد …إنه التدبير الإداري الذي يوشك أن يعصف به الإفلاس الماحق. ××××××××××××××× الأستاذ جلال من الذين يؤمنون بحركية المجتمع وبالتدافع السلمي عبر المؤسسات ، فقد خولت له عضويته في التنظيم النقابي حضور جمع عام لتجديد أعضاء الكتابة المحلية للهيئة الخاصة بنساء ورجال التعليم . ولمناقشة تقارير الجمع العام طلب جلال تدخلا ليبدي رأيه في قضايا تؤرق جماهير الشغيلة التعليمية…كالملف المطلبي والحوار الاجتماعي والحريات النقابية وبيروقراطية الإدارة التربوية المركزية والوضع التعليمي المحلي وظروف مزاولة الشغيلة لمهامها داخل المؤسسات التربوية… ورغم كثرة عدد المتدخلين كان تدخل الأستاذ جلال لافتا للانتباه والأنظار: العمل النقابي التفاف حول فكرة ، وقناعة والتزام محمي بالجهد والتضحية ونكران الذات، والهيئة النقابية تنظيم عضوي حركي أسس لخوض غمار التدافع الاجتماعي السلمي بالوسع المتاح. ولا شك أن انتزاع المطالب المشروعة للجماهير القابضة على الجمر رهان مشروط بالوفاء الصادق والاستماتة المتبصرة…علينا أن نكون نحن قادة التغيير الذي نريده للعالم ، من أنفسنا وذواتنا يلزم أن نبدأ اليوم قبل الغد… تدخل الأستاذ المسترسل والمحبوك بمهارة لغوية راقية وبفصاحة عالية كان لافتا ومثيرا ،جعل الحاضرين يشرئبون بأعناقهم صوب مصدر صوت المتدخل الذي بدا كأنه أحد أعضاء القيادات النقابية المركزية المتمرسة بلعبة السحر البياني النقابي وذات الباع الطويل فيه. بمجرد أن أنهى كلامه همس كمال في أذنه مبتسما : " إنما المحامي لسان بليغ وصوت فصيح وبدلة معلومة " ما الذي تقصد ؟ هل قلت ما لا ينبغي ؟ فأحيانا لا تسعفني العبارة ، مستعد للاعتذار إن أنا … واصل جلال حديثه مع صديقة كمال وقد أحس أن كلامه قد ينقله إلى مواقع أخرى من المسؤولية والالتزام فقال مازجا بين هزل وجد : أعرف أن حماستي أحيانا تكون فائقة لا تضاهيها سوى حماسة الشاعر العربي الكبير أبي تمام. لن يسعك اعتذار ، اعتبر نفسك من اليوم مسؤولا على التنظيم النقابي المحلي ممثلا له ومدافعا عنه. لا اعتقد ، الجميع يعرف أنني لأول مرة أطأ بقدمي هذا الصرح النقابي وتجربتي في مجال التدافع النقابي غير ذات وزن ، وبضاعتي في النضال أقل من أن تبوئني أدنى مسؤولية… ردّ كمال مبتسما : الرأي حر والقرار ملزم …وبين الرأي والقرار تدابير وإجراءات قانونية وتنظيمية ، أرجو أن يخيب ظني ويخطئ حدسي . إنما استعدّ ! بعد مناقشة التقارير وحصر لائحة الترشيح والترشح ثم التصويت وفرز الأصوات ،لم يتفاجأ بالنتائج غير الأستاذ جلال الذي كان عليه أن يرضخ لما أسفر عنه الاقتراع السري الذي بوأه الرتبة الأولى من غير منازع يذكر. التفت إلى صديقة كمال والدهشة تلفه : أنَى لي أن أكون على رأس تنظيم يقتضي حنكة وتمرسا وعتادا تخصَصيا ، فلست إلاّ مدرسا نكرة قد يجيد فن التخطيط البيداغوجي ويتحكم في تدبير الفصل الدراسي ، وما سوى ذلك أجدني عاجزا فاترا. أخي كمال ربما شيء ما حصل ، قد تكون اللجنة أخطأت في عدّ الأصوات وإحصائها، سأطالب بنقطة نظام قصد المراجعة أو الاعتذار… لا حظ كمال ارتباك صديقه فسعى لتهدئة روعه بأسلوب يقطع أمل جلال في التراجع وفي نفس الوقت يهون عليه أمر المسؤولية الجديدة : اطمئنَ ، ليس في العد أي خطأ…الأصوات قليلة جدا ولسنا بصدد إحصاء أصوات ولاية من ولايات الصين الشعبية ، أعلم أنك ستجد لك عونا وسندا في مهمتك ، فبجانبك سيكون طاقم من الشباب مفعم بالحيوية ، يعشق التضحيات وسيخوض معك المعارك النضالية و يقتحم الأمواج العاتية.. لا أدري كيف حصل هذا ربما لم أستفق بعد …أرجوك أخي كمال …هل من توضيح ؟ في البدء كانت الكلمة ، والعرب تقول تكلم لأراك فلا يزال المرء مخبوءا تحت لسانه ما لم يتكلم ، فإذا تكلم اتصف وانكشف…السي جلال مصداقيتك تسبقك . اصبر وثابر تؤجر ، لقد جئت على قدر… وكفى. طفق جلال يحملق في ملامح وجه صديقه بحدة مشوبة باستغراب ودهشة غير مجدية وقال : أخي كمال…إنها ملفات أسرة التعليم وقضاياها ،ملفات تنوء بحملها الجبال ، لأسرة التعليم فضل علي كبير وأعتز بالانتماء لها وأكن لها من التقدير ما يشبه القداسة…وإنيّ أنا ضعيف فما العمل ؟ لا تخف ولا تتردد ، أعرف أن عزمك متوقد وإيمانك برسالتك راسخ ، ولو أن أحدنا همّ بإزالة جبل وهو واثق بالله لأزاله…سمعتك تنصرك وإخلاصك يسددك ..قدرك أن تسعى بين القسم والمنبر والمقر. على مضض أذعن الأستاذ جلال لنتائج الاقتراع وشكل فريق عمل ضمن الهيئة المحلية الجديدة . جريا على التقليد ، انتظر الأعضاء كلمة من المسؤول الجديد ، فكانت مقتضبة ومركزة وعبارة عن مقولات منهجية وتربوية ارتجلها الأستاذ دون إعداد مسبق ،أتْبع ذلك بدويَ عاصف من التصفيقات المتواصلة تعبيرا عن الارتياح ، وإقرارا بحسن الاختيار : أيها الأفاضل …المسؤولية أمانة ولا شك أن الالتزام هو جوهر المسؤولية ، وبمقتضاها يحاسب المرء على أدائه ،و ما الرجولة والشهامة سوى وفاء بالمسؤولية ، والصمود في وجه العقبات الجسام، والبطولة لا تتحقق إلا على الأرض، وأما صناعة المجد الحقيقي فمكانها الميادين ومقرات العمل والحقول، والمزارع ومجالات التدافع .إن الله يكلفك بقدر ما يعطيك. والمناضل العضوي كالغيث حيثما وقع نفع ، وليس من المروءة أن تمتدح أخطاء تنظيمك أو هيئتك ، لا خير فينا إن لم نقبل النقد والنصح ، النقد تخصيب وإنماء وهو ضرورة وليس ضررا…سنتعاون مع الشركاء وكل الشرفاء … والله من وراء القصد…ودمتم على العهد والوعد . على الفور ومن زاوية من زوايا المقر النقابي ودون أخذ سابق إذن تناول الكلمة مدرس أربعيني وقور: سيكون على عاتق الهيئة النقابية المنتخبة مسؤولية إنصاف الأستاذ جلال والمطالبة العاجلة بسحب الإنذار المشؤوم الذي تلقاه من وزير القطاع ، فهذه أولوية مرحلية لا ينبغي أن تغفل . سيطرت على كمال حالة دهشة وبدا مذعورا مما سمع فقاطع المتكلم بقوة وشدة : إلا هذا الموضوع… لقد انتهى وأصبح في عداد الماضي ، أصلا هو موضوع غير ذي أهمية ، وأي محاولة لإثارته ستضطرني لتقديم استقالتي ،إنما نحن هنا للدفاع عن قضايا الشغيلة ووجودنا رهين بها ،ارجو أن نوفق في ذلك ، فكان تعقيب جلال حدا فاصلا لم يبق لأحد فرصة إثارة ذلك الموضوع حتى طواه النسيان . ×××××××××××××××× تجاوز صدى الأستاذ جلال أسوار المؤسسة التربوية مقر عمله ليبلغ مداه فضاءاتٍ أُخر كما هو الشأن بالنسبة لجمعيات محلية تهتم بالثقافة والتنمية الاجتماعية ، فطالما استضافته جمعيات وأندية ليحاضر حول القيم الأخلاقية والتنمية ، والتوافق الأسري والتنشئة الاجتماعية السليمة ، والشباب المعاصر وأزمة الاختيارات ، والمرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة …وكانت محاضراته تشهد إقبالا مقدرا خاصة من قبل الفئات الشبابية والمتمدرسين والطلبة الجامعيين ، ويحظى في ذلك باحترام وتقدير وافر . ولقد دفعت سمعة الأستاذ بعض السكان أن يعرضوا عليه الخطابة في أحد مساجد حي شعبي. وكان الأستاذ جلال كل حين يتعلل بكونه " ليس في المستوى " وبمزحة خفيفة ومعهودة يقول لهم " هل تقبلون أن يؤمكم خطيب يرتدي نصف كم مرة والمعطف الجلدي مرة أخرى ؟ " ، وبعد نداءات ملحة ومحاولات شاقة وتردد عريض ، قبل الأستاذ المسؤولية الجديدة ، وما إن شرع في مباشرة مهمته الخطابية حتى انبعثت روح جديدة في المسجد وطفق الرواد يتكاثرون يوم الجمعة ويأخذون أماكنهم في وقت مبكر خاصة منهم الشباب الذين وجدوا في الأستاذ الخطيب أسلوبا جديدا في المعالجة لمواضيع حيّة تلامس اهتمامات الناس فيتلقونها منه بقبول واستحسان. بعد انتهاء صلاة ظهر أول جمعة خطبها الأستاذ تناول رواد المسجد أمر الخطيب الجديد بإعجاب كاف وسألوا صديقه كمال الذي كان ينتظر خروجه : هل تم إسناد مهمة الخطابة بشكل رسمي للأستاذ جلال في مسجد حينا ؟ الأستاذ حدثني البارحة في الموضوع دون تفاصيل تذكر ، غير أنها مسؤولية نزلت عليه كالطود العظيم ، فلايزال يتحسس نفسه من ثقلها. كانت خطبة مؤثرة جدا تهز الكيان وتحرك الوجدان وتضع معالم على الطريق ،وترسخ المنهج المطلوب القائم على الوسطية والاعتدال والتيسير والتبشير وحق الفرد وواجب الأمة ونبذ الغلو والأنانية والظلم الاجتماعي… رد عليه آخر يتأبط محفظته وتبدو عليه أمارات رجال التعليم : الخطابة فن وهبة يمنَ الله بها على من يشاء من عباده ، خطبة اليوم مزجت بين جمالية الشكل وأهمية الموضوع . إنها ملحمة ونبوغ خطيب متوهج . والحق أن الأستاذ أوتي جوامع الكلم ورقة في البيان ،فكأنما خلق ليكون خطيبا ، رحم الله من علَمه. ها هو منبر مسجد الحي يشهد إقبالا متزايدا من لدن المصلين بفضل اجتهاد الأستاذ وقدرته المتميزة على الخطابة والوعظ ، لقد كانت بضع سنين التي قضاها هنا كافية لجعل المسجد قبلة يقصدها الكثير من سكان المدينة حتى ضاق بهم المسجد رجالا ونساء واضطر الشباب منهم لتنظيم المصلين يوم الجمعة حول رحاب المسجد… عشية يوم سبت اتصل جلال بصديقه كمال يؤكد له ضرورة اللقاء به في المقهى لأمر يهمهما كثيرا فكان اللقاء : السلام عليكم ، جئت بك مرة أخرى السيد كمال ، ودوما تسبقني رغم التزاماتك الكثيرة هذه المرة كان لزوما ان أسبقك فقد جعلتني الهواجس أتساءل عن الموضوع وأقول لعل الأمر خير الجمعة المقبلة لن يكون بإمكاني اعتلاء المنبر. هل تقصد أنني مطالب أن أنوب عنك مرة أخرى في مهمة الخطابة ،إنها مهمة عسيرة بالنسبة لي تثقل كاهلي وتنهكني ، ومجاراة الفرسان مثلك مستحيلة ، ستتعب ، لا محالة ، من سيجيئ بعدك ،رفعت السقف بعد أن كان واطئا سهلا… ليس الأمر كما خطر على بالك ، وإنما أبلغت من جهة رسمية باستغناء الإدارة القيمة على الشأن الديني عن خدماتي باعتباري خطيب جمعة المسجد ذاك. انتاب كمال ما يشبه الشعور بالذعر، وخشي على سمعة صديقه من سوء أو مكروه محتمل ، وتساءل بمضاضة موجعة كأنه يشرب ماء مالحا : يا حسرة على المسؤولين ، ما هذا القرار السيئ ؟ صحيح أن مسيرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني في محنته قد خرجت من المسجد عقب صلاة الجمعة كما خرجت من مساجد أخرى ، وصحيح أيضا أنك تناولت ذات جمعة موضوع الأمن والسلم الاجتماعي وذكرت أن المواطن من حقه أن ينعم بالأمن إذ هو من مقتضيات عبادة الرب الذي " أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "… ومهما يكن الموضوع فإن الخط الوعظي الذي تعتمده خط الوسطية والاعتدال يؤمن بالوضوح والإنصاف وينبذ العدمية والعبث ، ولعمري هذا من صميم الدعوة إلى إصلاح الشأن الديني وترشيد خطابه ، ولقد حرصت حقا على هذا المطمح طيلة السنوات الماضية ، فما الذي ينتظرونه منك بعد هذا كله ؟؟ رسالتنا ، التي طوقنا بها المجتمع والدولة ، تلزمنا ولن يثنينا عنها تنبيه من السيد الوزير أو إعفاء من المسؤول عن تدبير الشأن الديني ، وفعل الخيرات يتأتى حيثما توجهنا وأينما أقمنا بالإحسان والتفاني المطلوب، ولا يكفي في ذلك صدق النية وحسن القصد . ومن اختار الإصلاح فقد سلك طريقا صعبا لا يتيسر إلا بالمجاهدة والمكابدة ، وحتمية المصير تقتضي الحذر من الخزي والمقت والندم مع التعلق بالأمل والرجاء… وها نحن معا أخي جلال نوشك أن نحال على التقاعد فأرجو أن نكون قد وفقنا في أخذ المسؤولية بحقها وأدينا الذي علينا فيها على الوجه الذي يرضي الخالق عنا.