أستغرب كيف تمكن بعض الكتاب ممن يَصِفُونَ أنفُسهم بالروائيين خلال الأيام الأولى من بداية ما يسمى بالجائحة من كتابة رواية عن "حقيقة" الوباء وتعالقاته المختلفة؛ وإحراجاته الصحية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. وكيف تمكن هؤلاء من كتابة وطبع عمل روائي؛ والإدعاء بنفاذ طبعته الأولى في ظل الحجر الصحي وعوائق الطبع والتوزيع، بل وحتى النشر الرقمي والقراءة والتلقي النقدي. علمني أستاذي المرحوم الدكتور محمد أنقار؛ أن استسهال الكتابة في الأجناس الأدبية والتعبيرية، مرده غياب وعي أصيل بطبيعة الجنس التعبيري ومرجعياته وممكناته. الكتابة الشبيهة بلعبة المرايا بمنظور خورخي لويس بورخيص Jorge Luis Borges تتطلب مكابدة ومجاهدة وطاقة استتنائية، لكونها تفكيك للإنسان وعالمه الثقافي ( ينظر كتاب د. عبد الرزاق الدواي الموسوم ب:" موت الانسان" الصادر عن دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1992). وليس المراد من هذا القول أن الكتابة السردية هي الكتابة وفق سنن ومعهود الكتابة على شاكلة كتاب مثل إرنست ميلر همينغواي Ernest Miller Hemingway ، أو مارغريت دوراس Marguerite Duras أو صنع الله ابراهيم، أو غيرهم من الكتاب الأصلاء، بل الإحاطة بداية بفن الرواية كفن سردي مخصوص، وامتلاك رؤية عميقة للعالم ولمتخيل الكتابة والقدرة على تشكيل عوالم مكتملة تتسم بالثراء. والدهشة الجمالية، وخصوبة الإبدالات الدلالية. فكيف السبيل إلى رواية ترصد مختلف الاختلالات، وتنافس سطوة الصورة التي تقدم العالم جاهزا دون عناء القراءة أو التفكير، وكيف تستطيع الرواية نقل، أو تخييل هذا القدر الكبير من الألم الذي يكشفه معهود الحياة اليومية، وكيف يمكن كتابة رواية عن هذا الجيل الذي عاش هذا الوباء ما بعده، وكيف يمكن تجنب الاستنساخ المهيمن في الوسائط الرقمية، والكتابات السطحية ل" الكاتب" الأجوف الذي تمجده دور النشر الهجينة؟ وكيف يمكن للرواية مقاومة العماء الذي يتربص بنا؟ تعلمني مختلف المدارس الأدبية مثل "جماعة 47 الأدبية الألمانية Gruppe 47 " (كانت تضم أدباء مثل ألفرد أنْدِرش Alfred Andersch، كونتر غراس Günther Grass)، أن الرواية التي تفتقد للجوهر الإنساني، وللمساءلة العميقة، لا يمكن وصفها بالرواية، بل مجرد فسحة سردية. هذه السطحية هي ما يحقق لها شهرتها وسطوتها ( أشير هنا على سبيل الذكر إلى رواية باولو كويلو Paulo Coelho الموسومة ب:" حاج كومبوستيلا O Diário de um mago. الرواية تمنح الإنسان القدرة على التجدد والإحساس بالعالم، ورصد مختلف تحولاته والخروج من الحياة النسقية؛ والبحث عن العالم المركب والقدرة على تلمس الوجه الجديد للعالم. وعلاقة الكاتب بالعالم ليست خطية ولا أحادية أو طبقية، ففي الوقت الذي كان هوميروس Homeros يتغنى سرديا بالبطولة الارستقراطية كان هِسْيُود Hesiod يمتدح الفلاحين البسطاء. الرواية وفق هذا المنظور هي تجميع التفاصيل وتفجيرها من الداخل والابتعاد على التطابق والحوارية والتفاعل الخلاق والاحتفال بالصدفوي. وقد تكون استعادة واقعية أو متخيلة للطفولة، أو دفاعا عن مشروعية الحب بين الرجل الشيخ والفتاة العشرينية في رواية " رجل عاشق" للكاتب الألماني مارتن فالزر Martin . بيد أن الكتابة السردية "المعتقلة" في سجل الواقعية الحرفية، هي تصحيف، وإعادة إنتاج المحكي الواقعي (الوباء وما شاكله)، وهي بذلك تلغي أهم خاصية في الكتابة السردية وهي التخييل بوصفه ضرورة جوهرية ؛ إذ ليست الإمكانية العقلية وحدها البعد الوحيد لوجودنا بتعبير جورج بطاي، وليست الكتابة السردية مجرد استراتيجيات لوغوسية، بل هي إعادة أمكنه العالم عبر التوسطات الرمزية( ينظر كتاب الدكتور عبد الرحيم جيران المعنون ب" سراب النظرية، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروتلبنان، الطبعة الأولى 2013). يمكن كتابة رواية عظيمة بكلمات بسيطة كما نجد لدى يوكيو ميشيما Yukio Mishima، ويمكن للأحاسيس المرهفة أن تصنع أدبا رفيعا كما نجد لدى الأديبة الأفغانية "فوزية رهكرز. ولا تعني الكتابة السردية – في تقديري- التخلص النهائي من السجل الواقعي، بل قد تكون استثمارا له ورصدا لتحولات الإنسان في العمر ولعلاقاته الشخصية كما نجد في رواية" الجريمة الكاملة Le crime parfait" ل:بيتر جميس Peter James التي ترصد الحياة الزوجية للفاتنة جوان سمايلي، وفيكتور الذي أصيب بالسكري وأصبح أصلع. و بعد عشرين عامًا من الزواج، لم يعد بإمكانهما تحمل بعضهما البعض. فقرر كل منهما القضاء على الآخر. اختار فيكتور التسمم ب"السيانيد(HCN)" الموجود في بعض اللوحات بأبخرة قاتلة، وأرادت جوان جعل زوجها يتناول جرعة زائدة من السكر ، لكنها أجبرت على تغيير الخطط في اللحظة الأخيرة وحطمت رأس فيكتور بمطرقة وما سيأتي بعد هذه الحادثة هو الأهم.