نادرا ما كانت تمهله جحافل النوم ليشهد لحظة عناق عقربي الساعة إيذانا بانبعاث يوم جديد من رماد ليل عنيد مازالت ستائره الرمادية مسدولة على المدى المزروع بأرخبيلات لانهائية العدد والصغر.. كأنها فلول شمس مهزومة في حرب فلكية، وانشطرت ملايين المرات. منتصف الليل.. إلا بضع دقائق.. ضيف ثقيل الظل يزور أجفانه. يتسلل كعنكبوت أسود إلى يقظته الهشة. لا يكف عن ارتشاف قهوة سوداء سواد الليل.. مرة مرارة الذكريات التي تدور رحى حرائقها في أوصاله، وتأتي على أخضر ويابس أبراج النسيان التي شيدها، عبثا، فوق رمال الفراغ المجلجل في الجهات الأربع لروحه. العراء الأسود، في الخارج، وليمة جماعية لريح مزمجرة.. كذئب جريح، وبرد صقيعي.. كطعنة غادرة. يمتطيان معا تواطؤ الصمت الشاهد على طقوس الافتراس. في دواخله يعربد إحساس طاغ بعزلة بيضاء تنضح بها الغرفة الصارخة الفراغ إلا من ساعة حائطية تسطر خطوات الزمن، وتكتب أبجدية الانتظار.. تنادمها، في يتمها، صورة مؤطرة.. بلا ألوان.. اقتطفت، قسرا، من شجرة الأبدية.. ذات لحظة هاربة.. تقبع بين أضلعها، كأرواح معذبة، تماثيل متكلسة.. عابرة للتاريخ.. ربما كانت صورا لأبطال كوابيسه أو لقوم عاشوا حياة سابقة لحياته. طواهم الزوال، وهوت عليهم لعنة الغياب. ورائحته المنبعثة من خلف أسوار الجراح تعود، باستمرار، كأوجاع صماء معربدة.. تعمق في أغواره أخاديد الوحدة. منتصف الليل يزحف كثعبان في ذروة الانتشاء بفحيحه. يزرع المدى سما أسودا.. يتسلق أسوار عزلته المطلة على ضفاف الليل. وتلك النجمة القصية.. هناك.. التي تتأبط أحزانها، وتلملم أشلاءها.. ربما كانت هي تلك النجمة الجميلة الحائرة التي طالما آمن بها، وأثثت بهل جغرافية أحلامه المنفرطة المتهاوية، تباعا، كنجمته المتصدعة.. تلك.. بعد لحظات قليلة سيشتعل بياض غرفته بأمواج الليل، ويزهر السواد في حقول بصره.. وستنطق بأطياف الغائبين وحدته المتعاظمة.. في العين بحيرات من الدموع.. وفي القلب أكاليل من الشموع تشرخ شاشة الظلام، وتشق طريقا وسط الموج الأسود. انتصف الليل.. أطفأ رفقة الصمت المر شمعته الأربعين وحيدا. بعيدا.. وأطفأت الصورة الليست ملونة نصف هذا العدد من الشموع.. للحظات صادر السواد شساعة عزلته، وأخرس أصداء داخلية. هادرة.. بالكاد لامست صفحة الصمت..