مالذي شدني لدراسة علم الأعضاء والأمراض والحمل والولادة وأنا الموسومة بكل هذه الهشاشة التي تجعلني أنزف لأتفه الأسباب؟ لم يكن علم التمريض اختياري بكل حال من الأحوال بل كان اختيار والدي، الذي طالما قدس القابلة ورأى فيها طوق نجاة للأمهات،إذ أنه لا ينفك يروي عن القابلة البولونية التي اشتغلت منذ زمن بمستشفى القصر الكبير والتي بفضلها تم إنقاذ زوجته من موت محقق، إثر تعرضها لنزيف حاد بعد الولادة، صورة تلك الممرضة لا تبرح ذهنه للآن، وكلما ذكرها وتذكر الجهد الكبير الذي قامت به لاستدعاء المختصين لتتم عملية نقل الدم والإنعاش إلا واغرورقت عيناه بالدمع، لصدق استحضار اللحظة، اللحظة التي أدرك فيها أن دمه كفيل بنجاة حبيبته، هكذا تبرع أبي بدمه لأمي لتمتزج دمائهما بالمحبة للأبد، ولتكبر رغبته في وهب إحدى بناته لهذه المهنة النبيلة، وشاء القدر أن تكون تلك الإبنة أنا . أذكر جيدا أني عانيت كثيرا وأنا أحاول أن أنسى رفض والدي القطعي إلتحاقي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، ومضيت شهورا طويلة بمعهد تكوين الأطر في الميدان الصحي بتطوان وأنا أنتظر أن تحصل معجزة وأغادره إلى غير رجعة.مرت ثلاث سنوات من الدراسة لم أشعر فيها إلا بالغربة إذ لم يكن انتمائي لهذا الميدان سوى على ورق، بعد التخرج والتعيين وجدتني قابلة …تأخرت كثيرا لأقبل المضي في طريق اختاره عني القدر ولأتصالح مع الفكرة بدأت أبحث عن الحكمة في كل ما حدث ، وقررت الاستمرار على مبدأ ” أحب ما تعمل لتعمل ما تحب” . الان وبعد مرور السنين أدرك أن الله اختارني لأضع يدي في يده لأستقبل معه الحياة ، ولأكون مرهما لجروح تنزف في صمت وأملا لعيون لا ينطق أصحابها. ولأكون اليد السحرية التي تغري الفراشات بالقدوم إلى هذا العالم،غير عابئة بالقبح الحاصل خارجا وغير معنية سوى بالدفء الذي أمنحها إياه، الان أجدني أكثر من أي وقت مضى فخورة أن وقع علي الاختيار ومستعدة لأفديك بروحي أيها الوطن، وأنوب عن كل قلب صادق لم يتسن له فعل ذلك …وأنا أوقن مع كل صرخة حياة أننا سنحيا ومهما تحرش بنا الموت لن نستجيب له …يتبع