صدر للقاص والحقوقي إدريس حيدر مجموعة قصصية جديدة موسومة ب ” ومازالت النجوم تركض”. جاءت المجموعة القصصية الثانية في تجربة الأستاذ إدريس حيدر في تجربته الأدبية، من القطع المتوسط بلوحة أنيقة للفنان التشكيلي القصري عبد السلام الرواعي. الدكتور العلمي الدرويش أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن طفيل، استهل هاته المجموعة بتقديم زاوج فيه بين قراءته النقدية لهذا العمل الإبداعي وشهادة في حق الأستاذ إدريس كاتبا ومناضلا. جاء في تقديم الأستاذ العلمي ما يلي : أن تقرأ لإدريس حيدر معناه أن تسلم روحك للنهر تملأه السواقي القادمة من أعالي الجبال.. وهو حتما سيحملك في مجراه العصي إلى البحر الكبير .. زخم فكري وفيض روحي ومواقف إنسانية يغمرها الحب والخير ، تذكر بالأدب الإنساني العظيم في أبعاده وقيمه التي تنتصر للحق والخير وتدين القهر وإذلال الإنسان. أعرف الرجل منذ كنت تلميذا صغيرا يتلمس النور في درب الحياة . وأعرفه الآن وقد جاوزت الخمسين .. الرجل هو الرجل بوسامته وهيبته وشموخ مواقفه وتعدد مواهبه ، ما أحنت هامته رياح ولا منعطفات . رجل يقدس الحياة ويسعى إليها نضالا وإبداعا . وهي قطعا ليست حياته الخاصة ، بل حياتنا نحن جميعا .. فقد نذر حياته الخاصة للناس والوطن قولا وفعلا كقديس ثوري في هذا الزمن .. هو ابن مدينة كانت رحما خصبا للنضال والفكر ، فأنجبت واحتضنت في صدرها أدباء ومفكرين ومناضلين سياسيين علا كعبهم وانحنت لهم الأشجار العاشقة .. ولذلك رامت سهام الغدر والتهميش المقصود هذه المدينة وشرفاءها حد البلادة . هو ابن القصرالكبير طبعا وطباعا ، جسدا وروحا. اقتات من حلقاتها المسرحية والفولكلورية وارتوى من حكاياتها الشعبية والخرافية… وترعرع في ظل مثقفيها وأدبائها .. وعايش أطيافها وهي تحضن تعددا عرقيا ودينيا وثقافيا في نسق متفرد عمقه الاختلاف والتسامح . وكان أيضا في طليعة مناضليها ، فقد أدى من لحمه ودمه ضريبة الانتماء إليها وإلى هذا الوطن والكادحين والمطمورين تحت صخرة القمع وجشع الرأسمال الهجين .. في زمن كان موسوما بالجمر والرصاص .. ولا زال الرجل واقفا بدرب النضال وبدير الكلمة العاشقة والصادقة. هذا نزر يسير من فيض عميم لا يتسع المقام لسرد تفاصيليه . ولهذا كم تغمرني السعادة ويعلو بي الشرف وأنا أقدم للقراء إحدى الثمار الإبداعية الناضجة لصديقي المبدع إدريس حيدر : “ولا زالت النجوم تركض”. ما أروع أن تبدأ المجموعة بقصة الحسناء اليهودية “إيستير” والفتى العربي المغربي ” سرحان ” وتنتهي بحكاية ” ولا زالت النجوم تركض”. البداية عشق مصادر أطلقت عليه الصهيونية رصاصة الموت بإصرار وترصد .. تماما كما صادرت الصهيونية عشق محمود درويش وريتا اليهودية ليظل الشاعر طوال مشواره ينشد حبها الضائع .. والنهاية احتماء روحي بزمن طفولي يوقظ فينا ضرورة استمرار الحياة .. فأمام هذه العولمة المتوحشة وما أنتجه العلم المعاصر – الذي لا قلب له – من قسوة سرقت من الإنسان استمتاعه الخرافي بزخم الكون والحياة .. يستيقظ فينا الحنين ويصرخ : ما أجمل الحياة حين تعاش بتلقائية وبساطة طفولية.. إنها النجوم لا زالت تركض وتركض. وبين البداية والنهاية لهيب عذاب إنساني برائحة شواء آدمي.. فمعظم نصوص المجموعة تنتهي بموت جسدي أو معنوي ..كأن الموت وحش مخيف يترصدنا في كل الأمكنة.. إنه واقع حالك وقاس تتحرك داخله الشخوص لتصطدم بالموت كحرباء كانت تنتظر وتنتظر .. ومهما كانت طبيعة هذا الموت ، فالنتيجة واحدة: شخوص تبحث في الظلام عن منفذ فيطالها جحيم لا يرحم . يقتل الحب ويحترق العشاق في قصت “إيستير” كما في قصة “ومن الحب ما قتل”. يتنكر الأحبة والأقارب والأصدقاء ويبادلون التضحيات والحب بالمكر والغدر .. فيطوي النسيان والموت من أخلصوا وصانوا العهد والوفاء ، وتظل الذئاب طليقة تبحث عن فريسة جديدة.. هكذا تنتهي قصة ” اللعنة” بموت الطبيب ” دون بيدرو” بسهام الغدر من زوجته والشاب المغربي ” بوسلهام” بعدما ساعده وآواه في منزله .. وفي قصة “الأشرار” يتعرض ” التهامي” وزوجته وأولاده إلى تسمم كانت وراءه أمه التي ربته وأرادت حرمانه من ميراث لا يسمن ولا يغني من جوع . وأما ” الجيلالي” الملقب ب ” مورينيو ” فقد غادر الحياة في نهاية قصة ” صديقي الزنجي” مخلفا خلفه أشعارا ملتهبة تفضح ما لاقاه من حيف عنصري . و في قصة ” المهاجر الصغير ” كان الموت بالمرصاد للفتى” ريان ” فالتهمه البحر في طريق الهروب من وهم الجنة الموعودة والعودة إلى حضن الأم .. وفي نهاية ” رحلة العذاب” تموت “خدوج الزيونات” داخل السجن بعد حياة امتهنت فيها كل المهن وقطعت لحمها وشرفها لتجعل أبناءها من خيرة وأصلح أبناء الوطن.. يصاب المناضل “عمر الأحمر ” بالشلل في قصة ” لينين” بعد مقاومة شرسة للسجن والسجان.. وهناك نماذج أخرى ترصدها الموت في أماكن وأزمنة مختلفة. من هنا يبدو الواقع الذي تعيش فيه الشخوص أشبه بخزان “أبي الخيزران” في رواية ” رجال في الشمس ” لغسان كنفاني. والملاحظ أن شخوص غسان كنفاني لم يدقوا جدران الخزان فماتوا ، بينما في مجموعة إدريس حيدر الشخوص يدقون ويقرعون خزان المجتمع ولا أحد يفتح الخزان .. لأن هناك أكثر من ابي خيزران واحد أحكموا الإغلاق عن إصرار وترصد. لقد حرص الكاتب على إبراز التضحيات الكبرى التي قدمها شرفاء ومناضلو هذا الوطن في محاولة البحث عن أفق ومنفذ يطل منه نور الصباح .. وقد حرص أيضا على إبراز مكانة هؤلاء المناضلين والأوفياء في وجدان المغاربة . . ففي قصة “لينين” نعاين احتفاءا كبيرا بالمناضل ” عمر الأحمر” من قبل رفاقه تمجيدا له وإكبارا لما قدمه من تضحيات. ونفس الأمر نجده في نهاية قصة ” الزقاق القديم” حيث نظم سكان الحي احتفالا للمناضل أحمد المفرج عنه بعد اختطافه ، فكان كالعريس في دخلته.. إنه زمن سنوات الجمر والرصاص لا زال لهيبه لم ينطفئ بعد بالرغم من ادعاءات “الإنصاف والمصالحة”. والعودة إلى تعرية هذا الزمن ومساءلته ليست مباهاة نضالية أو تصفية حسابات سياسية بقدر ما هي رغبة في مستقبل أفضل يفجر هذا الخزان/ الجحيم ويطوي فعلا لا قولا صفحات هذه الحقبة الحالكة من تاريخ المغرب.. هناك موضوعات كثيرة ومتنوعة تؤثث الفضاء الدلالي لمجموعة ” ولا زالت النجوم تركض” واكتفيت بموضوعة الموت حتى لا اثقل كاهل التقديم . ويمكن لتلك الموضوعات أن تحظى بدراسات معمقة تكشف ابعادها وتكاملها داخل نسيج النصوص . وقد أفاد الكاتب من مجرى تجاربه الخصب خاصة وأنه كابد جحيم الاعتقال السياسي واشتغل بالتعليم ثم المحاماة ، كما انخرط في النضال السياسي والنقابي والحقوقي عقودا طويلة من الزمن. وهكذا راكم تجاربا قلما يراكمها مبدع عاش وعايش كل المحن. وفيما يخص الشكل القصصي ، تتفاوت النصوص فيما بينها في ولائها لفن القصة . فهناك نصوص استوفت كل سمات القصة القصيرة من تركيز للحدث وتكثيف يطول اللغة والشخوص والزمان والمكان حيث يصب كل ذتلك في نهايتها المفاجئة. ومن أبرز هذه النصوص قصة “اختناق” . وهي نص قصصي على درجة عالية من التكثيف والتركيز وينتهي الحدث القصصي فيها بقذف الشاب الوسيم إبراهيم وجه الشخص النتن بفأر وجده ب “ساحب” لدولاب كان بجانبه . وكأن النتانة لا تواجه إلا بالنتانة. وتقترب نصوص أخرى من اليوميات والمذكرات مثل ” مسرح الناس” التي تدون لنا أدب “الحلقة” وسحرها وما لعبته من أدوار في تنمية مخيلة أجيال استمتعت بسحرها وتنوع مواضيعها وأشكال فرجتها. وبالإضافة إلى ما سبق نجد نصوصا تحمل بذورا روائية. فقصص “رحلة العذاب “و”اللعنة” و”المخدوع”.. يمكن استثمارها في كتابة روايات . فكل نص يطالعنا بتعدد في الشخوص وامتداد في الزمان والمكان وتنوع وتشابك في الروافد المغذية للمتن الحكائي. ولا أشك أن الكاتب قد يفاجئنا في مستقبل الأيام بنص روائي لأني ألمس في بعض قصصه قدرات روائية حقيقية. ولعل هذا التفاوت بين النصوص من حيث تكوينها النوعي يحقق متعة أكبر للقارئ ويفتحه على تلاقح الأجناس في النص الواحد دون أن يبتعد كثيرا عن فن القصة. ومن بين ما أثارني في هذه المجموعة ذلك التناغم الممتع بين الوصف والسرد ؛ فالكاتب يرسم شخوصه بدقة متناهية ويجعلك تقف أمامها كما لو كانت حية بمواصفاتها الجسدية وأنفاسها وانفعالاتها . وقد عرفت مؤخرا أن الكاتب فنان متميز في مجال الرسم، وخاصة فن الكاريكاتور والبورتريه . وربما يعكس الميل إلى الوصف الدقيق في النصوص القصصية افتتان صاحبنا بالرسم حيث يرسم بالكلمة كما يرسم بالأقلام والألوان.. وحين يشرع في السرد يلتقط تفاصيل وجزئيات تنعش مجرى الحدث وتسهم في إضاءة الشخوص دون أن تفقد القصة ما ينبغي أن يتوفر فيها من تركيز وكثافة. إن مجموعة ” ولا زالت النصوص تركض” مجموعة جديرة بالقراءة.. ويجب أن تحتل مكانتها في المكتبة المغربية. فهي على عكس كثير من المجموعات القصصية لا تضع الشكل القصصي غاية لها ، بل تحرص بالدرجة الأولى على أن تجعل الأدب رسالة جمالية وتنويرية تنقل إلينا الحياة الإنسانية بكل أحلامها وأوجاعها وطموحاتها وانكساراتها . ولعمري تلك مواصفات الفن النبيل والعظيم . فشكرا لإدريس ونصوصه التي جعلتني أنحني أمام عذاب واحتراق هذه النماذج الإنسانية . هي نصوص تجعلني أضرب عرض الحائط مزاعم “رولان بارث ” حول موت الكاتب. ها هنا لا زال الكاتب حيا يطل من الحبر والورق بلحمه ودمه حاملا شمعة وهو يصرخ: إذا لم أحترق أنا وأنت ونحن كيف يتبدد هذا الظلام ويشرق النور. والخلاصة ، لقد تشرفت بالاطلاع على المجموعة الندية لصديق ورفيق عزيز قبل أن تخرج إلى الناس.. وقد أيقظت في ذهني أفكارا وانطباعات عديدة آثرت عدم التطرق إليها حفاظا على عذرية النصوص وترك القارئ يستلذ بها.. ولي اليقين أنها بقدر ما ستمتعه ستوجعهه بما فيها من واقعية صادمة وحرارة وعمق وصدق في إدانة واقع اجتماعي ظالم ومظلم.