و أنا أشتري فاكهة الرمان الموسمية التي أعشقها، و ذلك صبيحة يوم أحد من أيام الآحاد القليلة الماضية، من أحد الباعة المتواجدين بالسوق الأسبوعي الذي أحرص على زيارته أحيانا طلبا للمنتوجات المحلية التي نطمع في جودتها و خلوها من المبيدات و السموم القاتلة ببطء ، و على حين غرة، لمحت البوابة الكبيرة التي كانت خلف البائع مباشرة تفتح. لم أشعر بنفسي إلا و أنا أترك كل شيء من يدي و أرمي بالثمرات التي كنت قد اخترت لأهرع اتجاهها، وكأنني أستعيد السنوات العشر الأولى من حياتي.هذا أمام ذهول و دهشة البائع الذي لم يفهم و لم يستوعب ما يحدث بالضبط. دفعت البوابة التي لم الجأها منذ غادرت المؤسسة و أنا احمل شهادة الدروس الإبتدائية خلال سبعينيات القرن المنصرم، طبعا بعد أن استأذنت الحارس في لحظة أتأمل فيها المكان خاصة بعد الوصلات الإعلامية المتتالية التي تنوه بعملية الترميم الأخيرة. دلفت إلى الداخل، ووقفت مشدوهة أنظر لروعة الفضاء: مساحة خضراء، ملعب وسط الساحة المترامية أطرافها و في صدر المكان تتربع البناية القديمة التي بناها المستعمر سنة 1928 و هي في أبهى حلة، تسر الناظرين و قد استعادت رونقها و شبابها كعروس في كامل زينتها. لكن رغم كل ذاك الجمال أحسست بقلبي يكاد ينفطر، و اعتصر الألم جوانحي اذ افتقدت البنايات التي كانت حديثة العهد خلال الستينيات و السبعينيات، و التي كانت تحيط بالساحة يمينا و يسارا لتلتقي عند طرفي البناية القديمة. لقد تم نسف و اجتتاث كل تلك الحجرات الدراسية و مكتب المدير و المرافق الصحية التي من المؤكد أنها كانت قد تآكلت و من أجل المحافظة على البناية الأم او اللبنة الأصلية للمؤسسة.أحسست أنهم اقتلعوا طفولتي ببراءتها و شقاوتها، بذكاءها و غباءها، و سرحت بي ذاكرتي لاستحضر شريط أربع سنوات قضيتها بين أرجاء مدرستي الحلوة التي طالما تغنيت بها: مدرستي الحلوة، مدرستي الحلوة، هي جنتي ، بها تغنينا…… و تراءت لي كل تلك الحجرات الدراسية المرتبة بتسلسل المستويات الدراسية: فأول حجرة على اليسار كانت مخصصة للمستوى التحضيري الذي لم احظى بشرف ولوجها لانني درست هذا المستوى بمدينة اخرى و إن كنت أزورها أحيانا لأسلم على المرحومة الأستاذة رقية. على اليمين أول حجرة هي لمستوى الإبتدائي الأول و تتتالى المستويات بترتيبها إلى حدود مستوى المتوسط الأول، ليحظى تلاميذ المتوسط الثاني بالبناية القديمة و الكبيرة. حينها تذكرت أول يوم دخلت فيه المؤسسة يصحبني زوج خالتي السي المهدي الريسوني رحمه الله الذي كان يعمل مدرسا بها. سجلني بمستوى الإبتدائي الأول و صحبني إلى الحجرة الدراسية الأولى على اليمين ، سلمني للمعلم و أوصاه خيرا بي ثم ذهب إلى حال سبيله. في البداية أحسست غربة و رهبة اقشعر لهما بدني، لكن طيبة المعلم و بشاشة وجهه المضىء نورا ربانيا ، يزينه شارب رفيع و هو بجلبابه التقليدي و طربوشه المغربي و سنه المتقدم واستقباله الدافىء لي، كل ذلك منحني الطمأنينة وجعلني اتأقلم بسرعة مع المكان الجديد بالنسبة لي، لم يكن هذا الشخص سوى الأستاذ المسناوي رحمة الله عليه. أخذت يومها مقعدي ببن التلاميذ الذين سرعان ما اندمجت معهم ، و توالت الأيام لطيفة ومثيرة. لكن ما أتذكره بوضوح عن هذه السنة هو يوم اشتكتني زميلة لي متهمة إياي بانني ضربتها و كان يرافقها ولي أمرها. فما كان على المعلم إلا أن يطلبني لاتوجه إلى السبورة، ثم دفعني بلطف خلف باب الفصل الدراسي ليعاقبني و بدأ يضرب الأرض موهما خصومي بأنه يضربني و أنا أتوسل إليه أن يسامحني وهو في واقع الأمر لم يمسني. أحببت حينها عمقه الانساني و رفقه بالطفولة و بأخطاءها . أحببته كثيرا بل تعلقت به و تعلمت منه بسرعة مذهلة و ملفتة للنظر. لكن قصتي مع زميلتي لم تنته، و ظلت علاقتنا سيءة إلى أن وجدت الفرصة سانحة للإنتقام مني و كان ذلك يوم تمزق حذائي من شدة الركض وراء الحجرات الدراسية خلال فترة الاستراحة، فانتبهت عدوتي اللدودة للأمر وظلت طوال الحصة تسترق النظر إلى حذائي و تبتسم، و أنا أحاول إخفاءه بشتى الطرق لكن دون جدوى، شعرت حينها بالضيق و بالخجل وربما كانت هذه أول مرة أعيش فيها هذا الإحساس. يومها خلت الحصة سرمدية لا تنتهي و عقارب الساعة لا تتحرك و كدت أدرك بفطرة الطفولة ولصعوبة الموقف نسبية الزمان الذي عاند رغبتي حينها في الانفلات من جحيم نظرة عدوتي. و أعتقد أنه يومها أيضا بدا يتشكل وعيي بوجود الغير، بقساوة نظرته و بتأثيره على حياتنا بشكل عام، و هذا ما علمتني إياه النظريات الفلسفية لاحقا مع الفيلسوف سارتر حول نظرة الغير و مع انشطاين حول نظرية النسبية. وما أن سمعت الجرس يدق حتى أطلقت ساقي للريح متجهة صوب منزل جدي القريب من المدرسة لاستعير حذاءا من خالتي الصغرى التي كانت تقريبا في مثل سني. يتبع…… سمية نخشى 2019\11\17.