اَول مرة بكيت فيها كثيراً وبحرقة، وكنت أحس أنني في حاجة إلى ذلك، حين أمضيت سنواتي الأولى من عمري وعلمت بعدها يقيناً أن والدتي رحلت وأنا طفل صغير، وأن السيدة التي صارت أمي وكانت نعم الأم لي، لم تكن غير ضرة لأمي.. حينها ركبت هضبة عالية بالقرب من سكن أهلي وأطلقت العنان لمقلتي، كان ذلك ما استطعت فعله، حينها استرجعت ذاكرتي الصغيرة واقعة وفاة أمي قبل عدة سنوات، كان ذلك في منتصف ليلة مقمرة.. كنا وإياها وأخي الصغير ضيوفاً على خالي الوحيد، تعشت وسمرت واستقبلت السماء لكي تلقى ربها، أتذكر وذكرني خالي بعد ذلك أنها كانت تعرف أن ساعتها حلت، كان وجهها أبيضاً، مبتسما، ناصعاً، وملائكياً، كان عمري حينها خمس سنوات وأتذكر صورتها وكأنني في حلم، كانت تحتضن أخي الصغير ذو السنتين رغم أنها كانت تحتضر.. أتذكر وكأنه حدث الليلة، ابتسمت ابتسامتها الأخيرة ورحلت. ولما كبرت قليلاً عوضني ربي عن فقدان أمي أشياء كثيرة لا يتوفر عليها الآخرين، وأدركت أن قيمة الأم في الحياة ليس بالضرورة أن تذهب بك إلى الطبيب أو تدفيك وتطعمك وأنت لا تستطيع أن تفعل ذلك، وكلما تقدم بي العمر أجد أنني في حاجة إلى أمي حتى وأنا رجل وقادر على تلبية حاجياتي بنفسي.. وأكثر لحظات الألم في نفسي عندما أرى أحداً من أقراني يعانق أمه ويشقى بين يديها.. ولما أنزوي وحيداً لكي أنام تظهر لي ملامح أمي ترتب على كتفي وتطير في جنح الظلام تضيء الغرفة شعاعاً وسط ثنايا الظلام. كنت كلما رأيت أماً.. امرأة أبكي.. وأبكي في صمت أحياناً، ومنذ ذلك الحين وأنا أكبر ولكن لازلت طفل أمي أبكي حين أتذكرها.. سنوات وأنا أشتاق إليك أمي.