يتجول الصباح وحيدا مع الصقيع.. يطل الغمام بوسامته المعهودة حاجبا شمس النافذة من الخارج.. هل يتوجب عليه دوما أن يقوم بجمع ركام جرائدها البالية.. وترتيب فراش نومه قبل أن تتسلل إليه رائحة "الغمل" التي تشعره بروتين يقطِّع حياته إلى فصول من الألم والانتظار، يتملى ملامحه المنكسرة على مرآة الزمن وتصيح: لماذا تذكرني المرآة بثقوب سوداء تزين وجهي الأبيض، وتفتح في ذاكرتي وحدة قاسية.. يجب أن أرتدي معطفي الأسود.. لابد له من الخروج باكرا حتى يتسنى له الاستمتاع بقهوتي السوداء.. يحب أن يشربها بعيدا عن هذا الحي؛ حي "الموظفين" بجيوبه المنهكة بقروض الزواج والبناء والنفاق..يقترض قليلا من الوقت والمطر..يبدو أن الهواء النقي في طريقه إلى منزل روحه العطشى بالحب.. من شرفته كان يطل دائما كملاك بلوري من أزمنة الجنة الفيحاء.. كان ينتظر تلويحة من يديها الصغيرتين ليهيم في مخيلته التي تفضح كبتنا المؤجل باستمرار.. يبتسم خجولا في طقوسه المارقة بالعشق.. أسرار العيون ..نداء القلب.. ورموش الجسد..أيام ماطرة تختفي من الذاكرة بعد أن جعل الزمن أياديه قصيرة عن التحديق في حجم الفراغ المحيط به.. تحطمت مظلته في ذلك اليوم الماطر، وأصابه البلل العليل، وتناسى زخات الثلج التي أحرقت دخان القلب في أعماق الريح ..الريح التي حملته بعيدا، وتركته أسيرا في شارع الغرام من دون روح.. لم يبال كثيرا برحيلها، هكذا يقول مع نفسه، ليبرر فشله الذريع في الثورة على من خربوا أحلامه الطازجة ذات يوم في واضحة النهار.. يحتمي دائما بزاوية تذكره بأمجاده المنهوبة من قبل جيوش البعوض، وأسراب الحاقدين والطامعين..يتطلع إلى السقف القرميدي المبني بعناية، تذهله عبقرية الصانع الذي سرق منه "قرمودته"، وجعله يعيش بقرمود إسمنتي جهة قلبه الأيسر مدى الحياة.. الزمن لا يرحم، والمطر يصر على تأخيره دائما يقول مع نفسه متأملا خشخشة أقدامه المتعبة، وخرير المياه الصدئة بموسيقى الصندل..طفلة تتمرغ في الطين المبلل في غفلة من أمها التي ما تزال تتدفأ بعطر زوجها، وترسم خطوطا بنية في الوجه البض الأبيض....أطفال لا يعرفون إلا اللعب.. لا يهابون الفيضان حتى وإن سقطت أبراج المدينة كلها.. ضفيرتان مبللتان يغطيهما وشاح قرمزي اللون، وجلباب أبيض كبياض نجمة أغسطس، يرمقها بعينيه الجاحظتين، وهي ترمقه بعينيها السوداوين.. دون تردد يضمها إلى صدره..تمسح قطرات المطر ملامح وجنتيها الطريتين، يشتد المطر والبرق، وتزداد رغبته في احتضانها أكثر. . لا بدري كيف وجدها في المساء ببيته ترتب جرائده وسجائره وفناجينه القذرة الملقاة على الأرض، وبين الفينة والأخرى تنظر إليه بثغره الباسم قبل أن يداهمها الصمت.. مدفأة صغيرة من بقايا العجلة الحديدية، وبقايا أخشاب صديقي النجار.. إبريق من الزمن النحاسي المتلون بالسواد.. قطع سكر بيضاء ترسم رغوة فوق فوهته التي تتمتع بفرحة وسط حدائق النعناع الممزوجة"بالشيبة"، تلك وصفة سحرية أدفأت قلبه المنهك بالأسفار.. قرر أن يتغيب عن العمل هذا اليوم، ما دام المطر يعرقل حركة السير، والفيضان وشيك، ومآسي ستعم الدور القريبة إلى المرينة"الله يستر" تقول بصوتها الرخيم الطازج، تمسك بيديها كأس الشاي، وهي تلف حول خاصرتها الباطنية القطنية، وجسدها النحيل ينير ظلمة القلب والجدران الباردة.. عيون المدينة لا تنام، وقلبي يخفق باشتداد الفراغ.. ماذا لو طرق أحدهم الباب؟كيف سيكون موقفه؟ هل سيصدقون إنسانيته المفرطة؟ لا لن يصدقوه أبدا.. لا يستطيع أن يترك هذه الفتاة عرضة للريح وأرصفته الماطرة.. وليس من الذين يستبيحون أجساد النسوة يتساءل حائرا: ترى من تكون هذه الفتاة؟ ولماذا هي وحيدة؟ وماذا ستقول إن كبحت رغبتي في ضمها إلي ثانية بطقوس هذه النيران التي تكتم أنفاسي؟ يا لتفاهة الموقف تقول شرقيته؟ وياله من بليد غبي..هل سيترك هذه النعمة دون أن يتدفأ قليلا.. حيرته جعلت الليل يفقد بوصلته، وهي تعد وجبة العشاء التي لم تكن سوى طنجرة ظغط مليئة بالجزر والبطاطس وفتات من الدجاج المتبقي، أجبرته أن يظل بمكانه، وان لا يغضبها إن فكر في مساعدتها، فقد تعلمت دائما أن الرجل لا يتوجب عليه أن يكون جنتلمانا أكثر من السكر نفسه..حملت الصحن إلى المائدة الخشبية البسيطة، وقطّعت الخبز بالسكين، ورأت الخوف يتسلل إلى عينيه، وأكلا بصمت رهيب، الصمت الذي عم المكان دون أن يستطيع أحد منهما تحريك دوائره التي اشتدت عليهما وكادت تخنقهما، رغم رغبتهما في أن يوقظا الصمت من صمت..أخبرها بعد ذلك إن كانت ترغب في النوم أن بإمكانها أن تحتل غرفته الصغيرة، وسينام بجوارها وسط المنزل؟ فوافقت بإيماءة من رأسها؟ لم يشعر إلا وهو نائم في مكانه بعد معارك جانبية انفجرت معها هواجس الجسد وفتوة القلب، التي كادت قوتها تدفعه إلى ارتكاب حماقة تلطخ صورته المبجلة.. بزغ الفجر.. فتحَت غرفته.. تسللت إلى مكتبته.. حملت قلما وورقة.. خطت بحروف بارزة:" كان يجب أن أحتمي بالقرمودة..ووضعتها إلى جانب رأسه وغادرت البيت.. وجع عنيف في الرأس.. صداع.. ضباب في العينين.. امرأة ترش عطرها في الأنف وتقول " على سلامتك أولدي..نجاك الله من القرمودة"..