عرفت الحركات الإسلامية في عمومياتها في بداية ظهورها بالتشدد تجاه الأنظمة المستوردة التي قبل بها حكام الدول الإسلامية بديلا عن الإسلام باعتباره في نظر أعدائه ، وخصومه على حد سواء، أضحى متجاوزا ولايحمل إلا المفاهيم الماضوية والرجعية.. بعضها تبنى التغيير عن طريق العنف كالجماعة الإسلامية في مصر وبعضها الأخر اختار التغيير عن طريق الدعوة بالتربية والزحف والسلمية كجماعة العدل والإحسان في المغرب مثلا؛ إلا أنها أي الحركات الإسلامية بأطيافها المختلفة، وجدت نفسها وجها لوجه مع حكام بلدانها على خط الصدام ولقيت أشرس المقاومات تمثلت في الحديد والنار: الإخوان المسلمون في مصر على يد النظام الناصري وفي سوريا والعراق على يد النظام البعثي، لتحل، في نهاية المطاف، محل الشيوعية البائدة، كعدو بديل. جماعات التفكير امتداد تاريخي للخوارج وجماعات التكفير لم تكن حديثة عهد لإنتاج فكر جديد بقدر ما يمكن اعتبارها جماعات قديمة جديدة، ظهرت في صدر الإسلام،كالخوارج والمعتزلة والمرجئة والقدرية والجبرية التي اختفت كلها لتعود من جديد في زي جديد، وبأفكار جديدة، مع الاحتفاظ ببعض الأفكار القديمة المرتبطة بالواقع والعصر، وهذه الجماعة تدعي أنها (جماعة المسلمين) والتي أضحت تعرف إعلاميا بجماعة "التكفير والهجرة،" فمن حيث الأفكار والتشدد والاجتهاد في النوافل والعبادات والعقيدة إلى حدود التكفير، يمكن اعتبارها امتدادا لما كان يعرف قديما ب (الخوارج). وتعتبر مصر في كل الحقب والأزمان مصدر إنتاج الثورات والتطرف والصراعات الفكرية، التي تولد جماعات العنف التي سرعان ماتكون ذات السبق في المسارعة إلى إعلان عن مراجعة أفكار كانت تتبناها من قبل وتدافع عنها بشراسة وتزمت. كان ظهورجماعات التكفير في مصر عام 1971م، نهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية، ونشأت داخل السجون المصرية في بادئ الأمر، وبعد إطلاق سراح أفرادها، تبلورت أفكارها، وكثر أتباعها في صعيد مصر، وبين طلبة الجامعات خاصة، وفي بعض الدول العربية مثل اليمن والأردن والجزائر ..وغيرها. ومن أبرز شخصيات الجماعة الأصلية في التكفير والهجرة: - شكري مصطفى مؤسس الجماعة الذي أُعدم في قضية اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي رقم 6 لسنة 1977م. - الشيخ علي إسماعيل الذي كان إمام هذه الفئة من الشباب داخل المعتقل وهو من صاغ مبادئ العزلة والتكفير لدى الجماعة، إلا أنه رجع إلى رشده فيما بعد وأعلن براءته من تلك الأفكار التي كان ينادي بها. - ماهر عبد العزيز زناتي ابن شقيقة شكري مصطفى ونائبه في قيادة الجماعة بمصر وكان يشغل منصب المسئول الإعلامي للجماعة، أعدم مع شكري في قضية الشيخ محمد حسين الذهبي. بداية الغلو والتكفير ففي السجون المصرية وخاصة بعد اعتقالات سنة 1965م التي أعدم على إثرها سيد قطب وإخوانه بأمر من جمال عبد الناصر حاكم مصر آنذاك، تبلورت أفكار ومبادئ جماعة المسلمين التي عرفت فيما بعد بجماعة التكفير والهجرة. وقد ذاق المتدينون المسلمون داخل السجون المصرية من ألوان العذاب ما تقشعر من ذكره الأبدان وسقط الكثير منهم أمامهم شهداء بسبب التعذيب دون أن يعبأ بهم أحد، وفي هذا الجو الرهيب ولد الغلو ونبتت فكرة التكفير ووجدت الاستجابة لها. وفي المغرب انتشرت هذه المجموعات في سلا ومكناس وفي شمال المملكة وفي جبال الريف وتختلف عن الجماعات المتطرفة في مصر من حيث التكوين العلمي والتنظيم الهيكلي حيث أن قيادات الجماعات المتطرفة في مصر تنقاد لمؤطريها الذين ينهلون من كتب سيد قطب وخاصة كتاب "معالم في الطريق" بينما جماعات التكفير والهجرة والتي ترفض أن تسمى بهذا الاسم لاتنضبط بأي ضابط في التنظيم ولاتعرف هيكلة معينة وإن كانت بدورها تعتمد على الفكر القطبي. ولايغيب عنا تاريخ بروز نشاط الجماعات المتطرفة أن يكون غداة عودة الكثير من المقاتلين إلى بلدانهم أو إلى بلاد أخرى محملين بأدبيات وتشكيلات فكرية ، فأصبح للأصل فروع وأمراء ولايات ومناطق حملوا معهم كذلك التأثرات الفكرية بتيار الإخوان ومعه تيار التكفير والهجرة. وبما أن القاعدة العامة تقول:" ليس الخبر كالمعاينة"، فنتحدى أي باحث أو من يعتبر مختصا في الحركات الإسلامية ،أن يطلعنا على عمق أدبيات الجماعات التكفيرية والتي كانت تنقسم إلى طائفتين: طائفة تقول بالتكفير بلا هجرة وهم غالبا من النوع الذي يبحث عن المنفعة الدنيوية في تأمين العيش، بإرضاء الجهة التي تتولى مساعدتها ماديا،مثل أناس سبق أن عملوا في جهاز السلطة، وغادروها بعد أن رأوا في تخليهم عن المنصب خدمة للإسلام والدعوة إلى تطبيق أحكامه وشرائعه .وهذا الصنف لم يكن يرى حرجا في أكل لحوم الذبائح المعروضة في الأسواق العمومية والتعامل التجاري مع من يصنفون في خانة الابتداع الشركي،دون الصلاة معهم في مساجد الدولة. وطائفة تقول بتكفير المجتمع واعتزاله بهجر مكوناته ومؤسساته ومنها اعتزالهم المساجد بدعوى أنها مساجد ضرار وأن القيمين الدينيين بها مبتدعة مشركون لاتجوز الصلاة خلفهم ولا معهم والكفر بالقوانين التنظيمية وحتى تلك التي تدخل في حكم المصالح المرسلة وهذه الطائفة بعضها تعتمد في عيشها اليومي على امتهان بعض الحرف التقليدية كالنجارة والخياطة والمطالة والميكانيك وغيرها من الحرف. وتعتبر الديون التي تكون عليهم من غير الذين ليسوا على نحلتهم غنائم وأنفال.. !! وهذه قمة الجهل والضلال والغلو .. ! والبعض الآخر يعمل بالأخذ بالأسباب المشروعة لكسب الرزق كالتجارة في الأثواب الرجالية والنسائية المحتشمة أو الاتجار في المواد الغذائية وفقراؤها يفضلون بيع الأعشاب الطبية الجافة وهؤلاء هم من ذوي التعليم المتدني وهم الأكثر تشددا .ولاتلتقي الطائفتان إلا في عقيدة الولاء البراء والحاكمية. ومن الكتب المعتمدة عندهم فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد لمؤلفه محمد بن عبد الوهاب النجدي وفتاوى ابن تيمية وشرح العقيدة الطحاوية للعز بن عبد السلام ومعالم في الطريق وفي ظلال القرآن لسيد قطب وجاهلية القرن العشرين لمحمد قطب ورسالة الماجستير في الولاء والبراء لمحمد بن سعيد القحطاني . وهذا ما يميز جماعات التكفير والهجرة بالمغرب عن نظيراتها بمصر ، فالأولى خرج أفرادها وقياديوها من الجامعات بينما الثانية لم يكن أفرادها إلا من أولئك الذين وقف بهم قطار العلم في منتصف الطريق وتقطعت بهم الأسباب وتفرقت بهم السبل وتاهوا في الغي والضلال. وحسب معايشتنا المباشرة والشخصية للطائفتين، ليس بدوافع تفرضها طبيعة العمل الأمني الذي كنا قد غادرناه من قبل ، وإنما في سياق البحث عن حقيقة الإسلام وجماعة أهل الحق،للتأسي بها ليتبين فيما بعد أن هذه الجماعات إنما اختارت التطرف نقمة على المجتمع والنظام الذي يحكمه بقوانين وضعية جائرة مستوردة مغيبة للحق الذي لايوجد إلا في الإسلام الذي يبقى هو البلسم لجراح الحرمان والتهميش وهو الملاذ لكل من شظف عيشه وضاق رزقه وإلا لما كان تراجع عدد كبير من التكفيريين بعد أن تيسر لهم اتساع الرزق، ومن ثم رأوا ألا بأس من العودة إلى حضن المجتمع والتسليم بالواقع وهذا في حد ذاته يعتبر تراجعا طوعيا عن التطرف. وما يجعل هذه الجماعات أكثر تشددا هو غياب ضابط من أهل العلم في الدراية والرواية، لتوضيح معاني النصوص ومدى معرفة الخاص والعام والمطلق والمقيد منها. عودا على بدء بديهي أن رفض السلطات الإدارية المغربية تأسيس حزب " التجديد الوطني" ليس بمبرر التأسيس على قاعدة دينية تخالف الدستور تحت غطاء المرجعية الإسلامية،أو عدم الالتزام بالمعايير وحدود الإطار الذي يتأسس داخله الحزب بالمواصفات التي ترضي النظام وإنما غياب ضمانات الالتزام وجهات شافعة لدى الأوساط الرسمية الحاكمة. ويشهد على هذا ماكان أسر لنا به مشافهة الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، في إحدى الدردشات ، أنه لما تم رفض فكرة تأسيس حزب إسلامي لإخوان التوحيد والإصلاح ،من قبل السلطات، أشير عليهم بالمقابل البحث عن حزب سياسي يكون أقرب إليهم من حيث المرجعية ينخرطون فيه، إلى أن حطوا الرحال في حزب "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" باعتباره حزبا مؤسسا على مبائ واختيارات إسلامية ولقرب مؤسسه الراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب من القصر مما يوفر الضمانات الكافية لاحتضان هؤلاء الإسلاميين وانخراطهم في العمل السياسي،ووافق الدكتور الخطيب على احتضان إسلاميي "حركة التوحيد والإصلاح" بعد قبولهم بالشروط الثلاثة التي وضعها الخطيب، وهي: : الإسلام والاعتراف بالملكية الدستورية ونبذ العنف. لكن العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني طلب رأي وزيره في الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور العلوي المدغري، في هؤلاء الإسلاميين الراغبين في الالتحاق بحزب الراحل الدكتور الخطيب، كما تلقيناه مشافهة من الدكتور المدغري لما كنا بصدد استجواب صحفي حول كتابه" الحكومة الملتحية" سنة 2006، أن ما أجاب به فضيلة الدكتور هو أن هؤلاء الناس لابأس بهم ولا يشكلون خطرا على الحكم وأنهم يقبلون بالتعددية والديمقراطية ويعلنون ولاءهم للعرش وخدمة البلاد(4) ومن ثم يكون جزءا مهما من الحركة الإسلامية في المغرب تم احتواؤه وتذويبه في العمل السياسي، غير أن خصوم الأمس من ذوي التوجهات اليسارية في الهيئات السياسية وما يسمى بجمعيات المجتمع المدني أبدت تضايقها من عودة عدو تاريخي طالما ظل يناهض الأيديولجيا التي كانت تتبناها ويسفه أحلامها.