تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    سلطات القنيطرة تُعلن عن قرار سار لجماهير اتحاد طنجة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



'السلفية المدخلية' بالمغرب: من الرعاية إلى التوظيف
نشر في هسبريس يوم 12 - 01 - 2011

شهدت " تيكوين " وهي جماعة صغيرة بجنوب المغرب تابعة للجماعة الحضرية لأكادير – إداوتنان، مطلع السنة الهجرية الحالية، مؤتمرا "للسلفية المدخلية"، ضم ما يزيد عن 2500 مشارك ومشاركة، في دورة تكوينية، هي الثالثة من نوعها في ظرف ستة شهور، دامت خمسة أيام، بدعوة من " دار الحديث" بتيكوين، حول شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، إمام المالكية في عصره، والملقب بمالك الصغير، أطرها مشايخ كبار جاؤوا من المملكة العربية السعودية، وهم:
- الشيخ صالح بن سعد السحيمي رئيس قسم العقيدة سابقا.
- الشيخ محمد بن رمزان الهاجري.
كما شارك عبر الهاتف بتوجيه مقتضب دام ربع ساعة، الشيخ ربيع بن هادي المدخلي رئيس قسم السنة سابقا بالجامعة الإسلامية، وإليه يُنسب التيار السلفي المدخلي المثير للجدل، بسبب ما أحدثه من انقسامات داخل الصف السلفي، واستهدافه للدوائر العلمية، وموالاته المطلقة للسلطة، وبسبب مقولاته الشاذة وإقصائه لمخالفيه وإسقاط عدالتهم أفرادا وجماعات، وهو ما سنعود إليه من خلال الجواب على الأسئلة التالية: من هو " التيار السلفي المدخلي"؟ ما علاقته بمكونات الساحة الإسلامية؟ ما هي أهم المعارك التي خاضها هذا التيار ضد خصومه؟ لماذا تشجيع "المدخلية" بالمغرب؟ هل لذلك علاقة بإغلاق دور القرآن منذ أكثر من سنتين؟ ما دلالة اختيار جنوب المغرب لنشر السلفية المدخلية؟ هل لذلك علاقة بتنامي تنظيم القاعدة جنوب الصحراء؟ هل لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يد في نشر الفكر المدخلي بالمغرب؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فما مغزى تضارب مقاربات الشأن الديني بالمغرب؟ ألا يوجد من علماء المغرب من يستطيع تأطير الشباب؟!ما هي أعطاب "السلفية المدخلية" ؟
من خلال تقديم أجوبة – لا ندّعي إحاطتها بكل هذه الجوانب – سنقارب موضوعا شائكا، ذي مسالك وعرة، ربما تتخللها ألغام، لكن الأمانة العلمية تقتضي منا العودة إلى موضوع كنا طرقناه منذ أزيد من عشر سنوات، ونحن نناقش بعض القضايا التي أثارها الشيخ عبد السلام ياسين في كتابه " الإحسان"، ومنها موضوع " السلفية "، الذي أصبح اليوم يتصدر اهتمام مراكز البحث العالمية، بسبب خروج تنظيم القاعدة من تحت عباءته، وهو التنظيم الذي أعلن الحرب على الجميع: اليهود والصليبيين، والحكام المرتدين، والأحزاب والجماعات التي تدور في فلكهم، والعلماء المخالفين لمنهجه، رسميين وغير رسميين.
في تحديد المصطلح
يتكون مصطلح " السلفية المدخلية" من لفظتي " السلفية" و "المدخلية"، ولنبدأ بتحديد مصطلح " السلفية" أولا؛ جاء في اللسان: " السلف من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل"، وأما في الاصطلاح فتدور كل التعريفات للسلف حول الصحابة، أو الصحابة والتابعين والأئمة المقتدى بهم كمالك والأوزاعي وأحمد وأبو حنيفة والشافعي والبخاري ومسلم وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن المبارك وغيرهم من أئمة الهدى.
قال الإمام السفاريني: " المراد بمذهب السلف، ما كان عليه الصحابة وأعيان التابعين، وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفا عن سلف، دون من رمي ببدعة أو اشتهر بلقب غير مرضي: مثل الخوارج والروافض والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة والكرّامية ونحوهم..."
والسلفيون تميزوا عبر التاريخ عن غيرهم من الفرق بأصول، أهمّها:
أولا: تقديم دليل القرآن والسنة على دليل العقل عند التعارض، وينسب إلى علي رضي الله عنه قوله: " لو كان الدين بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من ظاهره".
ثانيا: تحديد درجة صحة الحديث قبل الاستدلال به.
ثالثا: إثبات صفات الله عز وجل كما جاءت في القرآن والسنة من غير تكييف أو تأويل أو تعطيل أو تشبيه، وهو منهج السلف في القرون الثلاثة الأولى قبل ظهور الكلام.
رابعا: رفض البدع في الدين، والوقوف مع صحيح النص في العبادات من غير زيادة أو نقصان.
خامسا: رفض مظاهر الشرك، وعلى رأسها شرك القبور، ومن مظاهره الاستعانة و الاستغاثة بالأولياء و دعائهم و التوسل بواسطتهم لقضاء الحاجات.
سادسا: تعظيم الصحابة وإجلالهم، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون وأمهات المومنين.
سابعا: تصديق كل ما جاء به القرآن وصحيح السنّة، في مجال العمل وكذا الاعتقاد، سواء تعلق بالصفات أو أمور الآخرة أو أشراط الساعة والفتن والمغيبات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يفيد اليقين لا الظن، متواترا كان أو آحادا خلافا لما عليه جمهور الفقهاء.
فهذه سبعة أصول، من تمثّلها سلوكا واعتقادا وعملا فهو السلفي، ومن خالفها أو بعضها فهو خلفي نسبة إلى الخلف، فالجهمي أو المعتزلي يخالف الأولى والثالثة، والرافضي أو الشيعي يخالف السادسة، والصوفي يخالف الثانية والرابعة والخامسة، والأشعري يخالف الثالثة والسابعة... وهكذا.
ومن خرج من دائرة " السلفية" لا يخرج من دائرة " الإسلام"، بل إن كبار المفسرين والفقهاء بعد القرون الثلاثة الأولى كانوا أشاعرة، ولهذا أطلق على السلفيين في بعض المراحل التي انتشر فيها مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري اسم الحنابلة، لأنه لم يبق على مذهب السلف في عدم تأويل الصفات إلا أتباع الإمام أحمد الذي صبر في المحنة التي وقعت على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، وهذا أحد الأسباب التي جعلت "السلفية" في عصرنا تتماهى مع مذهب الإمام أحمد في بعض فروع الفقه، فضلا عن تبني المملكة العربية السعودية مذهب أحمد بن حنبل، وهي حاملة لواء نشر السلفية في العالم اليوم.
وقد انتقد الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، هذا الخلط بين السلفية ومذهب أحمد في الفروع في كتابه الأخير: " الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب"، ثمّ انتبه سلفيو المغرب فيما بعد لهذه "السقطة"، وما يمكن أن تحدثه من احتكاك مع الدولة التي تتبنى مذهب مالك في الفقه، فاستدركوا بعض الأخطاء التي كانوا فيها مقلدة للمشرق، لكنهم لم يتبنّوا عقد الأشعري الذي لم يدخل المغرب إلا مع الموحدين.
يقول الإمام عبد الرحمن بن محمد النتيفي المغربي: " وأما في المغرب فمنذ فتح الإسلام وهو على عقيدة السلف إلا ما كان من فتنة العبيديين وبدعهم، ثم انجلت ظلمتها واستضاء المسلمون بنور السنة ومذهب السلف، حتى ظهر فيهم في أوائل القرن السادس محمد بن تومرت المهدي تلميذ أبي حامد الغزالي، فملأ أرضهم بمعارضة العقل للوحي، واشتهر مذهب شيخه الغزالي ( وهو مذهب الأشعري) في هذه البقاع، وسمي من خالفه من علماء المغرب وملوكهم وجمهورهم مجسّمة، وقاتلهم على ذلك، وسمى أتباعه الموحدين... ثم لم يزل أهل المغرب في دولة الموحدين وبني مرين بعدهم وغيرهم آخذين بمذهبه. وآخذ بمذهب السلف وهم قليلون، حتى كانت دولة سيدي محمد بن عبد الله العلوي، فعانق مذهب السلف هو وخواصه، وأظهره للجمهور، وهكذا ابنه المولى سليمان."(أنظر: السلفية في المغرب ودورها في محاربة الإرهاب: حماد بن أحمد القباج:97-98).
ومن أجل تجاوز تحدي الاحتفاظ بإحدى أهم سمات التميّز السلفي عن باقي الفرق، وهي السمة الثالثة المشار إليها أعلاه، وبين ما يمكن أن ينتجه ذلك التميّز من احتكاك بالدولة المغربية التي تتبنى عقد الأشعري في تأويل الصفات، عمد بعض شيوخ السلفية المغاربة لإبراز عقيدة الإمام مالك بن أنس السلفية، ولسان حالهم يقول للدولة: هذه عقيدة مالك الذي جعلتموه رمزا لوحدة المذهب، وتحقيق الأمن الروحي للعباد والبلاد، فصنف الشيخ المغراوي بن عبد الرحمن: " موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية" في عشر مجلدات، و"عقيدة الإمام مالك ومواقفه العقدية" و"جهود الإمام مالك والمالكية في التحذير من البدع العقدية والعلمية" و"العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات".
ولهذا كان شرط التزام "السلفية الجهادية" في السجون المغربية بالعقيدة الأشعرية قبل الدخول معهم في أي حوار شرطا تعجيزيا في تقديرنا:(أنظر ما جاء عن الدكتور يسف الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى في حوار مع جريدة "التجديد" نشرته يوم 1 دجنبر 2008(!!، إلا أن يعني ذلك مااستقر عليه الإمام الأشعري في آخر حياته، وبينه في رسالته "الإبانة"، بعد هجرته إلى بغداد وتأثره بتلاميذ الإمام أحمد بن حنبل..
بعد أن حدّدنا مصطلح "السلفية"، وقبل أن أنتقل إلى تحديد مصطلح "المدخلية" وبالتالي "السلفية المدخلية"، لا بأس أن أشير إلى أن للشيخين ابن عبد الرحمن المغراوي المغربي وربيع بن هادي المدخلي الحجازي منهجا واحدا، ويختلفان في حدّة النقد وتوجيه السهام للمخالف، وذلك قبل أن ينشب بينهما خلاف شخصي ما لبث أن تأثر به الأتباع من الفريقين، فأضحوا يتبادلون التهم، ويتراشقون التبديع والتضليل.
السياق التاريخي لبروز المدخلية
معلوم أن الشيخ ربيع بن هادي المدخلي ألف عدة رسائل في إسقاط رمزية سيد قطب وعدالته (أنظر مصنفاته بهذا الصدد: "أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب" ، " مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" " العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم") وهو أحد منظري الحركة الإسلامية المعاصرة و من كبار مفكريها، أعدم على يد الطاغية جمال عبد الناصر من أجل أفكاره سنة 1966، وترك تراثا فكريا مهما نهلت منه الحركة الإسلامية على تنوع فصائلها، لكن بعض أفكاره تأولها بعض شباب السجون الذين عانوا التعذيب على يد جلادي الناصرية ، فأسسوا تنظيم الجهاد بقيادة أيمن الظواهري المصري، الذي سيؤسس بدوره مع الشيخ ابن لادن فيما بعد ما عرف بتنظيم القاعدة.
المهم أن الدولة السعودية استشعرت خطورة تسرب فكر سيد قطب عبر مئات من الفارين من الإخوان المسلمين، من سجون واضطهاد مصر وسوريا، الذين استقروا بها لسنوات، ونشروا فكرهم الحركي أو الجهادي، وتأثروا هم أيضا بالفكر السلفي، فنشأت مدرسة ثالثة نتيجة هذا التزاوج، يسميها بعضهم "السرورية" وبعضهم "القطبية"، الأولى نسبة إلى السوري محمد سرور الذي رحل من سوريا في نهاية الستينات من القرن الماضي واستقر بالمملكة العربية السعودية، والثانية نسبة إلى سيد قطب.
لم تجد المملكة أفضل من حامل لواء الجرح والتعديل، كما لقبه العلامة ناصر الدين الألباني، وبقي أتباعه يفتخرون بذلك اللقب إلى يومنا هذا، أعني الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، الذي تتبع أخطاء السيد قطب، وتكلف أخرى من خلال ليّ أعناق مقولاته، وتمّ طبعها و نشرها وتوزيعها بملايين النسخ في العالم الإسلامي شرقا وغربا، وكان هذا بداية ظهور ما يسمّى " السلفية المدخلية".
ثم جاءت حرب الخليج الثانية ودخول القوات الأمريكية لأرض الحرمين، وهو الحدث الدولي الأبرز على الساحة السياسية الذي سيهزّ أركان الحركة السلفية بدول الخليج وسيؤدي إلى انقسام علماء السعودية إلى فريقين: الأول يرى جواز الاستعانة بالقوات الأجنبية لدفع تهديدات صدام المتهورة، والثاني يحرم تلك الاستعانة لأنه يرى أن القوات الأمريكية كانت ترسم منذ مدة خططا لإنشاء قواعد لها في المركز العالمي للذهب الأسود، من أجل التحكم في الاقتصاد العالمي وبالتالي في السياسة الدولية.
هنا سيظهر "المدخلية" ليس كمدافعين عن الاستعانة بالقوات الأجنبية فحسب، ولكن أيضا بصفتهم مناهضين لكل من يحرم تلك الاستعانة، وإن كان يسعها الفقه الإسلامي صوابا أو خطأ.
كل المعارك التي خاضها التيار المدخلي مع خصومه: قطبيين أو إخوانيين أو جهاديين، بل حتى مع السلفيين التقليديين أو العلماء المستقلين رسميين وغير رسميين تدل على خطورته، وأنه مخترق من مخابرات محلية ودولية، ويتم توظيفه وحشره في معارك بواجهات متعددة، وهو يستعمل مفردات عقدية تدل على العنف الرمزي لإسقاط خصومه، كالتبديع والتفسيق والتضليل، وأنه وحده يمثل " السلفية الحقة " و" الطائفة المنصورة" و"الفرقة الناجية"، والويل لمن خالفه في جزئية من جزئيات الدين أو الحياة، فهو الضال المبتدع المنتمي لإحدى الفرق الثنتين والسبعين التي كلها في النار إلا ما عليه "المدخلية" الذين هم على آثار الصحابة الكرام!!
ويسقطون على أنفسهم الحديث النبوي الذي يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة" "وفي رواية" هي التي تكون على مثل ما أنا عليه وأصحابي" فيزعمون أنهم هم الفرقة الناجية وغيرهم في النار: بداية من الإخوان المسلمين إلى جماعة التبليغ!! ويسقطون مصطلح "الجماعة" على "الحكومة"، فلا يجوز عندهم معارضة الحكومة، ومن فعل ذلك يصنفونه مع الخوارج، وينهون عن الخوض في الشأن العام، فهذا شأن له أهله الذين تجب طاعتهم في المعروف.
كما أن التيار المدخلي يناصب العداء للدوائر العلمية ولا يعترف بالمجالس العلمية، لذا لم يحضر هذا المؤتمر المنعقد ب "تيكوين" ولا واحدا من علماء المغرب، مع العلم أن المجالس العلمية بالمملكة بها العديد من العلماء السلفيين المتنورين.فنحن نرجح أن رعايته لا دخل فيها لوزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية .
يقول الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري في كتابه " الحكومة الملتحية" : " ونظن ظنا أن الداخلية المغربية كانت في عهد وزير الدولة في الداخلية ترعى الحركة الوهابية لأسباب جيوسياسية معينة من جهة، ولأسباب أخرى شخصية ترجع إلى العلاقة الحميمية التي كانت بين المسؤولين والتي فيها منافع ومصالح شخصية.
وبسبب ذلك كان للوهابية في بلادنا من يرعاها في جميع أجهزة الدولة، لاسيما وأن بعض الناس كانوا يستفيدون من الضيافة الكريمة والهدايا لهم ولأسرهم في بعض دول الخليج.
ولقد وقع تغييب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عن هذا الملف، فكانت لا تستطيع التدخل في المؤسسات الوهابية الموجودة في المغرب ولا في نشاط الأفراد الوهّابيين لأنهم جميعا كانوا متمتعين بحماية خاصة " .(ص: 64).
سيناريوهات رعاية "السلفية المدخلية"
في تقديرنا يمكن حصر سيناريوهات القصد من رعاية هذا التيار السلفي بالمغرب في ثلاثة:
الأول: التشويش على الفاعل الإسلامي مع اقتراب انتخابات 2012، إذ يمكن أن يلعب هذا التيار دور المشوش على حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، لأن "المدخلية" يوجهون سهامهم للجماعات والأحزاب الإسلامية دون غيرهم، خصوصا من يشتغل منهم بالعمل السياسي، ويكفي أن نلقي نظرة على نشاط هذا التيار ضد "الإخوان المسلمين" في مصر لندرك عداوته للجماعات الإسلامية التي تهتمّ بالشأن العام.
السيناريو الثاني: محاصرة "العدل و الإحسان"، فربما تكون الدولة استشعرت خطورة إغلاق "دور القرآن"، للدور التي كانت تلعبه في محاصرة انتشار جماعة العدل والإحسان ذات المشرب الصوفي. فالسياسة الأمنية المتبعة مع الجماعة منذ 2006 تعطي صورة مخالفة لدولة الحق والقانون، خصوصا لدى المراقب الخارجي. فيكون البديل هو مواجهتها بفكر أشد تطرفا، وهو ما تقدمه "المدخلية" التي تركز في خطابها على أمرين:
الأول: صفاء العقيدة من المشوشات الشركية، والعبادات من الزيادات البدعية.
الثاني: طاعة أولي الأمر، وعدم الخروج عليهم، أو انتقادهم علانية.
ولن تجد "المدخلية" أية صعوبة في منازلة " العدل والإحسان" على أساس هذين المرتكزين.
السيناريو الثالث: محاصرة تنظيم القاعدة الذي يزداد نشاطه جنوب الصحراء، وهو السيناريو الذي نرجحه، لأنه يجيب على دلالة اختيار الجنوب المغربي لعقد هذا المؤتمر بهذا الحشد الهائل.
فتنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي يزداد نشاطه، والعديد من الدراسات الأجنبية وكذا الصحف تشير إلى بوادر تنسيق أو اختراق من هذا التنظيم الجهادي للبوليساريو.
فمع مطلع السنة الميلادية الحالية أعلنت مصالح الأمن المغربية عن تفكيك خلية مكونة من 27 فردا، بها أحد الأعضاء من تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي، على بعد 200 كلم من مدينة العيون.
إن المقصد الأصلي في تقديرنا لهذا المؤتمر السلفي بالجنوب المغربي، هو خلق حزام فكري وأمني واسع يمنع تسلل الفكر الجهادي الخوارجي إلى المغرب، وهو مقصد نبيل واستراتيجية حكيمة، لولا أن "المدخلية" تبلور خطابا متشددا، وتخرج عن الإطار المرسوم لها باستهداف الدوائر العلمية والحركات الإسلامية المعتدلة، كما أنها تعاني من أعطاب بنيوية.
أعطاب " السلفية المدخلية": منها :
- أنها سلفية انقسامية، سرعان ما تنقسم على نفسها لأنها تضخم الجزئيات وتوالي وتعادي عليها، وهذا يضعفها.
- أنها تفتح عدة جبهات في آن واحد،فتقاتل كل من يخالفها : علماء رسميين وغير رسميين،جماعات معتدلة أو متطرفة، سلفيين و غير سلفيين،وهذا أيضا يضعفها.
- أنها تنتج خطابا متطرفا وتمتح من قاموس إقصائي، فهي الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وغيرها في النار، وهذا من شأنه أن يولد لدى مريديها شعورا بالاستعلاء، واحتقارا للمخالف وتبديعه وتضليله وربما تكفيره.
الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق –وهو سلفي معتدل- ألَّف في الرد على ربيع المدخلي كتابا تحت عنوان: "الرد الوجيز على الشيخ ربيع"، مما جاء فيه: " وقد وجد بعض الذين أزعجهم عودة الناس إلى الدين على يد هذه الجماعات (يعني الجماعات الإسلامية) ضالتهم في الشيخ ربيع المدخلي، فشرعوا يأزّونه أزًّا إلى حرب الدعاة والمصلحين، فيجمعون سقطات هؤلاء الدعاة وسيئاتهم، ويصيحون به: أنظر ما قال فلان وانظر ما كتب فلان ... والخطير في الأمر أن الشيخ ربيع أراد أن يؤصل منهجا من الكتاب والسنة يسير عليه في محاربة هذه الجماعات والدعاة إلى الإسلام، فوضع أصولا فاسدة يكفي بعضها لهدم الإسلام... " إلى أن قال: " لقد خرّج منهج الشيخ ربيع في النقد مجموعات من أهل التكفير والتفسيق الذين ضللوا الأمة وأئمتها، وحرفوا كتب العلم كفتح الباري لابن حجر وشرح النووي لصحيح مسلم، وشرح العقيدة الطحاوية وغيرها ...
كما جرّأ هذا المنهج صغار طلبة العلم على التطاول في أعراض العلماء والدعاة إلى الله والبحث عن أخطائهم، والحال أن هؤلاء الطلاب مازالوا في مبدأ الطلب..." !!
- أنها من جهة تنهى عن الاشتغال بالسياسة ،ومن جهة ثانية تنتج مقولات سياسية سطحية، مثل: "معارضة الحكومات دين الخوارج"، وهي لا تدري أن المعارضة تعتبر اليوم إحدى أركان الديمقراطية التي يقوم عليها الحكم الرشيد في هذا العصر.
- أن خطابها يقوم على الثنائية الإطلاقية: "الحلال و الحرام" أو" البدعة والسنة" ،وليس على الثنائية النسبية "الخطأ و الصواب" التي كان يتقيّد بها أئمّتنا الأعلام في تقريرهم أمام المخالف " قولي صواب يحتمل الخطأ، و قول غيري خطأ يحتمل الصواب".وهذا من شأنه أن يكيّف- بميزان المدخلية- المواقف السياسية للمشتغلين بها من الإسلاميين، تكييفات عقدية تخرجها من دائرة الاجتهاد القائم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهذا يترتب عليه أحكام جائرة في حق المخالف.
- أنها غير مؤتمنة في حكمها على المخالف، لأنها تجيز الكذب على المبتدع والتبليغ عنه لدى المسؤولين لإراحة البلاد والعباد من شرّه بزعمهم، وهذا ثابت عنهم عياذا بالله.
فالعلامة بكر أبو زيد كانوا يلقبونه ب "أسد السنّة"، فلما انتقد شيخهم ربيع في منهج تأويله الفاسد لكلام سيد قطب ناصبوه العداء، وكذلك كل من ينصف سيد قطب يسمونه "قطبياً"، وهي من أشد الصفات القدحية عندهم، أو يخرجونه من السلفية،وهذا ما سميناه "العنف الرمزي" لدى هذه الطائفة، فترى الناس يسالمونهم أو ينافقونهم اتقاء شرهم. وتأمل هذه العناوين لمؤلفات شيخهم ربيع بن هادي المدخلي:
"بيان فساد المعيار:حوار مع حزبي متستر"-"التنكيل بما في توضيح المليباردي من الأباطيل"-"دحض أباطيل موسى الدويش"-"إزهاق أباطيل عبد اللطيف باشميل"-
" انقضاض الشهب السلفية على أوكار عدنان الخلفية"-"مجازفات الحداد"- "أهل الحديث هم الطائفة المنصورة الناجية : حوار مع سلمان العودة"- " الحد الفاصل بين الحق والباطل : حوار مع بكر أبو زيد"- " جماعة واحدة لا جماعات، وصراط واحد لا عشرات :حوار مع عبد الرحمن عبد الخالق"- "النصر العزيز على الرد الوجيز"...
فهم يرون من تمام المنهج السلفي رد شبهات الفرق المبتدعة، وهي في عصرنا لا تخرج عن هذه الجماعات و الأحزاب الإسلامية التي يعتبرونها شرا من اليهود والنصارى، لأنها فرقت شمل الأمة و جعلتها شيعا وأعلنت الجهاد على المحتل ولمّا تستكمل بعد العدة لمنازلته.
وأخيرا هذه الطائفة لا تتوفر على علماء داخل المغرب، بخلاف دور القرآن التي تتوفر على أطر مغربية مقتدرة.
هذه سبعة أعطاب تعاني منها ما يسمى ب"السلفية المدخلية".
البديل المفترض لمواجهة تهديدات "تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي"
سبق وان أشرنا أن منهج الشيخين بن عبد الرحمن المغراوي وربيع بن هادي المدخلي متقارب، و المغراويين كانوا يوزعون كتب الشيخ ربيع بالمغرب قبل أن تحدث الفتنة بينهما، فالسؤال الطبيعي الذي يحتاج إلى جواب هو: لماذا استبدال المغراوي ذي الأصول المغربية بالمدخلي ذي الأصول المشرقية؟
ربما يكون النزاع بين الشيخين قد أثار حفيظة بعض الجهات النافذة في السعودية، التي ربما دفعت في اتجاه الاستغناء عن المغراوي كممثل للوهابية بالمغرب.
أما القراءة السطحية للأحداث فتُرجع سبب إغلاق دور القرآن بالمغرب إلى فتوى "تزويج الصغيرة"، التي أثارت زوبعة حينها، واقتنصها اليسار لتصفية حساباته مع أحد مكونات الحقل الديني الذي لا ينتج بحسب تقديراته إلا التخلف والظلامية.
لكن بالرجوع إلى مجريات الأحداث يمكن فهم السبب الحقيقي لإغلاق دور القرآن. فهذا الإغلاق تمّ أولا مباشرة بعد أحداث 16 ماي بشكل كلي، كما أغلقت مقرات العديد من الجمعيات الإسلامية سلفية وغير سلفية، وتمت اعتقالات عشوائية بالآلاف في صفوف السلفيين، اكتشف أن من بينهم بعض رواد دور القرآن، هذه واحدة.
بعد سنة أو سنة ونصف من أحداث 16 ماي، عادت دور القرآن وعدد من الجمعيات لنشاطها لكن بشكل تدريجي و محتشم، لتكتشف المخابرات المغربية أن أحد الأطر المهمة بدار القرآن بمراكش استشهد بالعراق، فأضحى إغلاق دور القرآن الإغلاق الثاني مسألة وقت فحسب، فجاءت فتوى "تزويج الصغيرة" كالنقطة التي أفاضت الكأس.
لكن المؤكد أن ثقافة الجهاد أو الخروج على الحكام غير معتمدة لدى هذه الدور بصفة نهائية، وإنما عنايتها بالقراءات وفقه الأحاديث والتحذير من البدع وتصحيح العقيدة والاعتناء بالتراث، وإغلاقها بهذه الصورة ( ما يقارب 70 دارا للقرآن) هو الذي يشكل خطرا، لأن العمل السري غير المراقب هو المرتع الخصب لنمو التطرف وثقافة التكفير والتفجير، التي هي رد فعل على ثقافة التفجير الناعم التي ترعاها بعض الدوائر المعادية لهوية المغاربة، من حيث تدري أو لا تدري. فتطرف المركز السينمائي المغربي والتطبيع مع الصهاينة، واستقدام رموز الشذوذ الجنسي للمهرجانات الشبابية، والتعري على خشبة المسرح، وتنظيم الدوري العالمي للبوكير بمدينة عريقة في العلم كمراكش، واستهزاء بعض أشباه المثقفين بالقرآن والشعائر الدينية، وإسكات صوت العلماء، ومطاردة حزب ذي مرجعية إسلامية من المواقع التي دفعه إليها الناخبون، كلها تفجيرات ناعمة، آثارها الوخيمة على الأمن الروحي للمغاربة لا يقل خطورة على آثار التفجيرات الخشنة.
يقول الشيخ ابن عبد الرحمن المغراوي في كتابه "دعوة سلف الأمة إحياء الكتاب والسنّة" : "فما وقع في الآونة الأخيرة من أنواع التفجيرات الآثمة والاغتيالات الظالمة في بلاد الإسلام وغيرها، فهذا ليس من دين الله في شيء، وهو إفساد لاشك فيه، وفاعله مسيء للإسلام وأهله، وهو آثم لاشك في إثمه، ولو كان خيرا لاجتمع عليه علماء الإسلام، وأفتوا به ودافعوا عنه وناصروه، كيف وهو معصية لرب العالمين، ومخالفة لولاة أمر المسلمين، وتمرد على القيادات العلمية المعتبرة، ويكفيك أن أصحاب هذه الطامّات حدثاء أسنان سفهاء أحلام.
فالسلفيون يبرؤون إلى الله من كل هذه الأفعال الشنيعة، سواء كانت في بلاد الإسلام أو في غيرها من البلدان.
فالدعوة إلى الله في هذا الوقت من أعظم الجهاد وأنفعه، وقد أوقفها هؤلاء وعطلوا سيرها بهذه الأفعال المشينة التي كانت سببا في هجوم الكفرة على أهل الإسلام في أقوالهم وأفعالهم، وتوقيف كثير من الدعاة، وإغلاق كثير من الجمعيات الخيرية التي كان أهل الإسلام يستفيدون منها، من يتامى ودعاة وحفاظ للقرآن، فكل هذه الآثام ترجع على كل من كان سببا في هذه الفتن، فعقلاء المسلمين يتبرؤون من هذه الأفعال، ويكتبون ضدها ويقيمون المحاضرات في بيان فسادها وتهافتها.
فينبغي للمسلمين أن يفرقوا بين الجهاد و الإفساد، فالجهاد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ذروة سنام الإسلام"، وأما الإفساد فقال الله تعالى فيه : (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألذ الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد). وفي الحديث :"نهى رسول الله عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". فإضاعة المال أمر منهي عنه عموما، فلا يجوز تحطيم البنايات، ولا يجوز تفجير السفن ولا القطارات ولا السيارات، هذا العمل ليس من الإسلام في شيء، والله المستعان".( أنظر كتاب " السلفية في المغرب ودورها في محاربة الإرهاب" لمؤلفه : حمّاد بن أحمد القباج المراكشي. ص: 364/365).
إن التحول الجذري والمنعطف الخطير الذي أبرزه التحالف غير المعلن بين جبهة "البوليزاريو" و "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي"، والذي أبانت عنه التحريات الأمنية الأخيرة من خلال تفكيك "خلية أمغالة" التي تتكون من 27 فردا تضمّ عضوا في "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي" وتملك ترسانة من الأسلحة استطاعت إدخالها إلى منطقة حساسة ، ليدعو إلى وقفة تأمل تسمح بإعادة تقييم المقاربة التي انتهجتها الدولة في معالجة ملف الإرهاب إلى حدود الساعة.
فإذ نثمّن الجهود الأمنية المبذولة لحد الآن، والتي أظهرت فاعليتها ونجاعتها في محاصرة هذه الظاهرة الخطيرة والدخيلة على ثقافة المغاربة، ندعو إلى تفعيل المقاربة الشمولية التي أعلن عنها جلالة الملك عقب أحداث 16 ماي بالدار البيضاء.
إن محاصرة ظاهرة الإرهاب بكل تعقيداتها وتشعيباتها يمرّ قطعاً من خلال نقض أطروحة "التكفيريين"، التي للأسف تجد لها سوقا في الأوساط الاجتماعية الهشة ذات المستوى الثقافي المتدني. وهنا يأتي دور "دور القرآن" التي تستهدف هذه الفئة بطبيعة خطابها البسيط و الفعّال في نفس الوقت.
لذا نقترح جملة إجراءات، من شأنها إذا روعيت، أن تعزز المقاربة الأمنية في محاصرة ظاهرة الإرهاب :
أولا : إعادة فتح "دور القرآن" التي كانت تؤطر عشرات الآلاف من المريدين ذوي التوجه السلفي التقليدي، بدل ترك هؤلاء من دون تأطير علني، وفتح مقرات لها جنوب المغرب.
ثانيا : المبادرة بفتح حوار مع معتقلي "السلفية الجهادية" دون شروط مسبقة، على غرار تجارب دول مجاورة نجحت في إعادة إدماج جزء كبير من هؤلاء، الذين بحكم ضبطهم لمفردات الخطاب السلفي الجهادي، يمكنهم تقديم خدمة لاستقرار بلدهم، من خلال نشر مراجعاتهم كما فعلت الجماعة الإسلامية بمصر.
ثالثا : تنزيل مقترح الحكم الذاتي على الأرض.
رابعا : إعادة النظر في سياسة التضييق على حزب العدالة والتنمية، وعدم مطاردته من المواقع التي دفعه إليها الناخب المغربي.
فاستنكار الحزب للتفجير الناعم الذي تقوم به جهات تدعي الحداثة تحت عنوان كسر الطابوهات، يترك ارتياحا كبيرا لدى أوساط إسلامية مختلفة، تدرك أن تغيير المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.
خامسا : عدم المجازفة بتزوير انتخابات 2012 خوفا من اكتساح إسلامي، فالعدالة والتنمية حزب وطني يعتز بنظام بلده الذي يقوم على الملكية الدستورية، ورغم استقلال قراره السياسي، فإنه لا يمكن أن يخرج عن الإطار الذي يرسمه جلالة الملك للسياسة العامّة التي تسير عليها البلاد،وعلى رأس الحزب اليوم مخاطب(بفتح الطاء) قوي ومعتدل، هو الأستاذ عبد الإله بنكيران.
والمغرب اليوم على مفترق طرق : إما أن يستمر في نهج الانفتاح الديمقراطي واستكمال الأوراش الاقتصادية الكبرى، الشيء الذي بوأه مكانة متميزة بين دول الجوار التي تقمع شعوبها، وهي اليوم تحصد نتائج سياستها القمعية في صورة انتفاضات شعبية غاضبة، أو يسلك سياسة الإقصاء بشقيها : الإقصاء السياسي الذي يمارسه حزب الدولة الجديد، و الإقصاء الدعوي الذي سيوكل للسلفية المدخلية. وعندها فلا أحد يستطيع أن يتكهن بالنتائج.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.