عاش العالم العربي منذ مطلع العام 2011 حراكا هم مختلف البلاد العربية، أدى إلى قلب أنظمة و تغييرها و إلى تهذيب أخرى، لكن ما حدث لم يكن الإجابة الكافية على الإختلالات البنيوية و المجتمعية التي كان يشتكي منها المواطن العربي؛ بل كان فقط إجابة عن مشكل واحد وإن كان أساسيا، فأدى ذلك إلى بروز اضطرابات تحولت في مجملها إلى صراعات بل و إلى حروب، كانت السبب في انتكاسة كثير من هذه الثورات عن غاياتها و أهدافها. لتعيد طرح سؤال الجدوى من ثورات أدت إلى بروز هذه الصراعات. سنحاول إن شاء الله من خلال هذه السطور أن نقارب الموضوع من زاوية نظري مجيبين عن السؤال الإشكالي التالي : ماهي الآليات الكفيلة بضمان انتقال الحكم إلى نظام ديموقراطي يضمن اسقرارا مجتمعيا و يقطع مع أي وتر يمكن أن يؤدي العزف عليه إلى صراعات داخلية ؟. في البداية لا بد من تحديد المدخل المفاهيمي لمجموعة من الإشكالات التي وردت في السؤال، فالمقصود بالنظام الديموقراطي هو النظام الذي يستمد شرعيته من الشعب باعتباره صاحب السيادة، و هو كذلك الملزم بحفظ الحقوق و الحريات لكافة مواطنيه باختلاف انتمائاتهم الدينية و القبلية ...، و أي نظام إختل فيه أحد هذين الشرطين أصبح غير ديموقراطي. و المتتبع لمسار معظم الأنظمة العربية يجد السمة الغالبة عليها أنها أنظمة غير ديموقراطية، فمعظمها استفرد بالحكم من حيث مصدر السيادة والإستمرار، فأصبحت سيادة الشعب بذلك شيئا لا يعني هذه الأنظمة. وفي نفس الوقت استطاعت في كثير من الأحيان أن تستفيد من هذه الإختلافات العقائيدية أو الدينية أو القبلية و حتى السياسية لتشغل هذه الشعوب عن المطالبة بحقها في السيادة و العيش الكريم، و ذلك من خلال محاولة تضخيم النعرات بين المذاهب و أصحاب العقائد ومختلف القبائل و المشارب السياسية، و إيهام الشعب أنه قاصر على تدبير اختلافه من دون هذه الأنظمة، وأنها السبيل الوحيد الضامن لاستقرار الأوطان. كذلك لا بد من طرح مفاهيمي للمقصود بالصراع الداخلي، لأن تحديد طبيعة الصراع يلعب دورا في تحديد تجلياته و كذا طرح المدخل الأساسي للحل. و أعتقد على أن الصراع الذي تجلى بعد ثورات العالم العربي ينقسم إلى ثلاث : 1- صراع ذو طبيعة سياسية : تجلى خصوصا بين العلمانيين و الإسلاميين والدول، التي عرفت هذا النوع من الصراع هي تونس و مصر، و أنا في هذا الصدد أرجح تجليا آخر لهذا الصراع سيظهر بقوة مع توالي الأيام، و هو الصراع بين أبناء المرجعية الواحدة و بالضبط بين السلفيين من جهة و الإسلاميين " المعتدلين " من جهة أخرى. 2- صراع ذو طبيعة دينية : تجلى في مصر بين الأقلية القبطية و المسلمين ونتذكر جميعا المواجهات الدموية التي وقعت إبان وصول الإسلاميين إلى الحكم، وإن كان خمد في الآونة الأخيرة غير أنه مرشح للصعود في أي لحظة بحكم سيطرة الإسلاميين على السلطة. 3- صراع ذو طبيعة طائفية – مذهبية : صراع وقع بين الشيعة و السنة. في سوريا أخذ مجرى الحرب ليتحول إلى إبادة طائفية قد ينتقل صداه إلى لبنان بحكم الإرتباط الجغرافي و كذا التنوع الطائفي المشابه لسوريا. أما في البحرين فكان أداة و مبررا لقمع الحراك الشعبي. من خلال هذين المدخلين يتبين أن التغيير عليه أن يجيب على إشكاليتين الأولى: القطع مع الديكتاتورية السياسية، و الثانية: الإستقرار المجتمعي بعد سقوط هذه الديكتاتورية. في ما يخص الإشكالية الأولى : أعتقد على أن الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي أمام خيارين لا ثالث لهما : 1- الخيار الأول : أن تقطع مع المنطق الإستبدادي، و تحاول إعادة بناء مجتمع ديموقراطي دون التفاف، تشرك مختلف القوى المجتمعية خصوصا السياسية منها في بناءه ، فتضمن بذلك انتقالا سلسا للسلطة عبر آلية التناوب على الحكم يضمن بدوره سلما مجتمعيا، يدبر مختلف قضايا الإختلاف بشكل ديموقراطي و حضاري . 2- الخيار الثاني : و هذا هو ما وقع في أحداث الربيع العربي، حيث أبت أنظمة أن تقبل بالآلية الديموقراطية مدخلا للحكم، و اسبتدلته بسطوة أو قمع أو إلتفاف، في محاولة لحل مشكل هذه اليقظة المجتمعية، فكان المجتمع أمام خيار التصادم مع هذه الأنظمة عبر الإحتجاج، أو المطالبة بإزالتها جذريا. لكن ما يجب أن نلاحظه في هذا الصدد أن الشعوب و قواها السياسية لم تمر إلى الخيار الثاني إلا بعد أن استوفت منطق وقوع الخيار الأول و بدى ذلك جليا من خلال تطور المطالب التي نادت بها الشعوب في ثواراتها. في ما يخص الإشكالية الثانية : أعتقد على أن الحل الأساسي في ضمان استقرار المجتمع بعيدا عن العصبيات و النعرات، سواء من خلال الخيار الأول أو الثاني المطروح أمام الأنظمة الديكتاتورية، يتعلق بمدى وعي النخب المتباينة داخل نفس المجتمع، بقضية تدبير الخلاف بشكل حضاري يضمن التعاون على المشترك و التنافس في دائرة ما يسمح به الفضاء الديموقراطي. و المسلُم به أن عملية تدبير الخلاف لا تتم إلا على أساس الحوار بين الفرقاء السياسيين باعتبار أن المدخل السياسي هو الكفيل بتجاوز البنية المجتمعية المتناقضة في كثير من الأحيان. هذا الحوار الذي تكون مادته الفكر يتجرد من الذات الإيديولوجية الضيقة و الذي يؤدي إلى معالجة القضايا الجوهرية التي تهم المحيط المشترك وفق رؤية مدنية تذوب فيها و معها كل التناقضات التي يتسم بها المجتمع. يتوج هذا الحوار بميثاق كما يسميه البعض أو بنود اتفاق أو جبهة وطنية... على اختلاف المسميات، يضمن الإجابة الواضحة و المبدئية عن كل الوقائع المؤسسة للمرحلة الإنتقالية، هذا في حالة عدم تحقق الخيار الأول المطروح لبناء النظام الديموقراطي المنشود. أما إذا تحقق الخيار الأول فالحوار كذلك يبقى بعدا أساسيا للبناء غير أنه في هذه الحالة يسعى لتأسيس الوثيقة الدستورية التي تحفظ للجميع حقه في إطار مجتمع مدني يجد الجميع نفسه فيه، ولنجاح هذا الحوار لا بد من شروط هي كالتالي : شروط موضوعية تهم الحوار : 1- إشراك الجميع دون تمييز؛ 2- الإجابة عن الإشكالات الفكرية لقضايا مشتركة { المواطنة ، الدولة ، الإسلام ،الأقليات ....}؛ 3- التأسيس للفعل و ذلك بالدفع نحو العمل المشترك؛ 4- وجود رؤية استراتيجية لأهداف هذا الحوار. شروط ذاتية تهم أطراف الحوار : 1- التجرد من الذات بشكل يسمح بالرؤية المشتركة؛ 2- جعل الحوار و العمل المشترك مبدأ؛ 3- وجود الثقة في الآخر؛ 4- احترام الإختلافات البنيوية بين أطراف المجتمع بما يقطع مع التشكيك و الحقد و الكيد؛ 5- إزالة ترسبات الصراع التاريخي. في 19/05/2013