القفص الكبير يلتحق الطالب المغربي برحاب الجامعة بقدرة قادر، بعد مروره بمغامرات عوليسية ومبارزته لطواحين هوائية دونكيشوتية الغرض منها إقصاء نية متابعة الدراسة من أحلام أكبر عدد من المواطنين. فيستقبله حي جامعي متعفن يكدس فيه الطلاب، يكون أشبه - والشبه عظيم- بعلب سردين منتهية الصلاحية - مع وجوب تقديم الاعتذار لعلب السردين - تعج بالسالمونيلا وأنواع أخرى من الباكتيريا والفيروسات التي مازالت تنتظر دورها في أن يكتشفها الباحثون في مختبرات الميكروبيولوجيا. لدواعي أورويلية-سريالية، يقع هذا العفن المعروف تجاوزا بالحرم الجامعي في مصيدة إشراف الوزارة الوصية على التعليم العالي في المغرب: وزارة الداخلية. لا تغيب عين الوزارة الرقيبة على أحوال الطلاب لا في أوقات النوم ولا في ساعات اليقظة. إذ تتابع المحاضرات عن كثب من المدرجات الخلفية شخصيات مشبوهة تعرفها أجيال الطلاب الجامعيين باسم (AWACS) بمعنى (نظام الإنذار والمراقبة الجوي/Airborne Warning and Control System). يشبه رجال (AWACS) بسحناتهم المتجهمة ونظاراتهم الشمسية الرخيصة عناصر ميليشيات الأمن البربرية في هايتي في نهاية الخمسينيات المعروفة باسم (Tonton Macoutes)، نسبة إلى شخصية البعبع في أساطير الفولكلور الكريولي، الذي كان يختطف الأطفال المشاكسين ويضعهم في كيس من الخيش ليتناولهم في وجبة الفطور. واجب البعبع أن يحصي على الطلاب أنفاسهم في المحاضرات وأن يدون حركاتهم وسكناتهم في كتاب مكنون. حتى يأتي اليوم الذي يختطف فيه الطلاب المشاكسين ويضعهم في كيس من الخيش ليتناولهم في وجبة الفطور... عوض أن تفتح الجامعة عيون الطلاب وعقولهم على عوالم أخرى، تغمسهم في رحاب زنزانة كبيرة تؤهلهم لخوض غمار عنبر أكبر في سجن الوطن الفسيح. ويندثر في صدر الطالب آخر بصيص من الأمل، بعد أن يكتشف أن كل معيبات التعليم بمراحله السابقة قد تراكمت وتضخمت في الجامعة... تتواصل روح التراتبية القمعية بين الوزير وكاتب الدولة ومدير الأكاديمية والناظر والمدير والمفتش والمعلم والمتعلم بوجوه وأسماء وألقاب أخرى. يستمر طغيان (نظرية الندرة) على (نظرية الوفرة) في مناهج التعليم التي تقدس مبدأ التنافس الميكانيكي والتقليد الأوتوماتيكي الذي قد يصل إلى حدود مرضية لا يستبعد أن تنال من صحة الطالب النفسية وشهيته في التحصيل والاجتهاد في طلب العلم. يحدث كل هذا في بلد متقدم في التخلف غارق في براثن الجهل والأمية، هو في أمس الحاجة إلى كل عصبون -ولو كان محدود القدرة- يفكر في نهضته، وكل عضلة -مهما كانت ضعيفة الجهد- تؤسس لبناء مستقبله. مع ما تقدم، ليس الغرض من الجامعة بما سبقها وما سيلحقها من مراحل التعليم، تكديس المعلومات وحشو الجماجم وتجميع الشهادات والديبلومات، ولا حتى تخريج دفعات الأطباء والمهندسين والقضاة والمحامين على شريط متداول سريع الدوران. حوالي %80 من المتخرجين من الجامعات الأمريكية، يعملون خارج مجال تخصصهم. وسيرة بيل غيتس (مؤسس شركة مايكروسوفت) أو ستيف جوبز (رئيس شركة أبل وبيكسار) ومارك زوكربيرج (منشئ موقع الفيسبوك الاجتماعي) وأمثالهم ممن قالوا (شكرا. ولكن لا.) للتعليم الجامعي، لا تحث على الزهد في الشهادات الجامعية بقدر ما توضح مسألة بسيطة : الهدف الأولي من التعليم، ابتداء من روضة الأطفال وانتهاء عند مدرجات الجامعة، يكمن أساسا في تدريب المتعلمين على مراعاة أبجديات المنطق في ترتيب الأفكار وفلترة المسببات والعواقب واستخلاص العبر، وتبسيط المفاهيم المجردة وتوضيح المسائل الملتبسة بتفادي التعقيد المجاني وتجنب الحشو المجاني والضبابية الأكاديمية، واكتساب القدرة على التحليل والتمحيص وإدارة الأزمات وإيجاد الحلول العملية.