كلما شاخ العالم ، ينأى في الزمن ، وكلما غاب الماضي في الزمن بدا فقده فادحا ، وكلما بدا الفقد فادحا كان الزاهد يحفظ في قلبه ذكراه الغامضة بلا عزاء ، فيصبح الحنين أشد وقعا ويتسع ليصبح القلق أثقل ، وكلما أثقل القلق في الروح يكظم الحلق وترتقي مرونة الصوت ، هو الفجر الأول والشمس الأولى . إن التجربة الأكثر أذية التي عرفتها البشرية ليست الشر ولا المال ولا الإبادة ، ولا السلطة وكل الاضطرابات التي تسببها ، والنشوات التي تجلبها ، ولا التسامي وكل المشاعر الوهمية التي يوقظها ، بل الحرب . الحروب التي دمرت الوجه البشري ، ولم تبق منه إلا أشلاء باعثة للهذيان ، تيه مدهش ، وحيد الوجه ، أخرق عاصف ورهيب . لقد أسفرت الحروب عن مئات ملايين القتلى ومئات الآلاف من الجرحى وعددا لايحصى من المفقودين والأسرى ، وعشرات المليارات المهدورة ، وحالات مأساوية لاتخطر ببال أحد ، لكن الأخطر من ذلك هو الأثر النفسي الذي تحدثه ويجعل كثيرا من القيم تساوي صفرا ، طالما أن قيمة الحياة نفسها مهددة في الصميم . هذه هي رسالة مسرحية الجنة تفتح أبوابها متأخرة ، التي قدمتها فرقة سومرعلى أحد مسارح كوبنهاغن ، وهي مسرحية من تأليف المبدع العراقي فلاح شاكر وإخراج العراقي محسن العلي، وكانت المسرحية قد قدمت في أوائل الألفية الثالثة في تونس وبغداد ،وأعادت فرقة عراقية مغتربة عرض المسرحية على مدار ساعة ونصف تألق الفنانان حيدر وشهلة وغاصوا في أعماقنا وأوغلوا في ملامسة حنايا الروح لدي كل من حضر العرض ، عبر فانتازيا حوارية دارت بين الزوج العائد بعد عشرين عاماُ قضاها في الأسر عقب انتهاء الحرب ، وبين الزوجة التي ظلت تنتظر عودته ، وتحاور عالما منشغل بالقتل والحروب والاعتقال . المفاجأة أن الزوجة لم تتعرف على الزوج العائد بعد هذه السنوات التي قضاها وراء القضبان ، كان اللقاء بينهما ممتلىئ بالإنكسارات الداخلية ، في لحظة الهشاشة الثابتة للوعة فرد محكوم بحرية غالية الثمن ، صوته صوت الإنسان الضاحك ، الحر ، الصعلوك الملكي في الزمن البائس ، زمن تقارير أجهزة الأمن وأحذية البوليس ومعسكرات التعذيب وخنق عفوية الفرد ، عائد يمشي في حقل من الألغام ومع ذلك يريد أن يرقص ، أن يسير مغمض العينان إلى حبيبته ، أو إلى وردة بعينها يهديها إلى من يحب . مازالت الزوجة تتنكر لهذا العائد الذي أصبح الماضي بالنسبة له طفولة منسية ومهملة ، ولم يعد قادرا على مواجهة ليله الفظ . هو محتشد بالخوف والضياع والرغبة والاحتمالات ، وهي تقف بمنتصف المسافة بين الماضي الذي لم يمض تماما ، وبين المستقبل الذي لم يقبل بعد . الزوج يحاول إستنبات زهرة لنفسه من ذلك الخراب ، يسقيها بالبراءة وقليلا من التمرد والأمل ، والزوجة تصر على التنكر له وتعتبر قدومه صدفة ، بل موتا لاقيمة له ، كما لاقيمة أو معنى للحب وللذكريات التي يحاول إيقاظها ، في ظل ظروف تحرمنا فرص الحياة نفسها . تتصاعد هذه الفانتازيا بين الزوجان الغريبان ، غربة الوطن الضائع ، والغربة القابعة في أعماقنا داخل الوطن وخارجه رسخت الإحساس عند العائد باللاجدوى ، طالما أن الحياة عينها كانت يمكن أن تنتهي بمصادفة عبثية . النهاية المباغتة للمسرحية ، حيث ينتهي العرض في لحظة الذروة ، دون أن نعتبرها لحظة إنفراج ، هي نهاية لاتعني توقف بقدر ماهي بداية لتكرار الأحداث داخل الزمن في مكان مختلف ، فالتوقف هنا استمرار لا إنتفاء ، وأمام هذه النهاية يجد المتفرج نفسه كجزء من العرض إزاء فجوة معرفية داخل النص ، يقوم بتجاوزها بوسائله الذاتية من دون تلقين خارجي ، وحين يتحقق ذلك يكون المشاهد توصل إلى حالة مستبصرة من الرؤية الذاتية يمكن أن نطلق عليها الوعي . هذا التواصل والإمتداد يمثل نوعا من التحذير من شهوة الهدم والظلام والقتل والإعتقال وسفك الدماء التي يطلقها غياب الوعي الجمعي ويزيدها استعارا ويسبغ الشرعية على الأخطاء القاتلة التي لايدفع ثمنها إلا جموع البشر عبر التاريخ ، إنها أممية القهر والظلم والإستبداد . إن هذه المسرحية في جوهرها نشيد للحرية ، فإذا كان تجاوز الموت في الحرب انتصارا رمزيا ، فإن موضوع الحرية بمعناها الواسع المتعدد هو المحور الرئيسي للعرض ، إنها لوحة ذات عمق إنساني بالغ ، تميزت بقراءة واقع العلاقات الإنسانية المتعددة بلغة مشوقة بعيدا عن الشعارات والأيديولوجيات ، وأهم مافيها قدرتها على جذب انتباه المتفرج حتى اللحظة الأخيرة . إنها رسالة مفعمة بالإنسانية تجعل منها عملا جديرا بالثناء ، ويظل السؤال المهم .. هل سيجد العائد وطنه الضائع ؟