لعل سؤال الحداثة من أكثر الأسئلة تداولا في حياتنا العربية منذ ما ما يزيد على القرن من الزمن، ذلك أن الإنسان العربي ظل يتساءل عن الحداثة، ينقب عنها يحن إليها، يرفضها تارة ويقلبها أخرى، يراها ضرورة صالحة حينا، وتطفلا باطلا حينا آخر، يحتضنها مرة لأنه يحتاجها لحماية نفسه، ويغلق دونها الأبواب وينظر إليها كأنها جسد غريب مرة أخرى، لأنه يراها تحطم ماضيه وذاكرته بل ووجوده المقدس[1]. وقبل النبش في الحداثة الشعرية العربية لا بد من الوقوف عند الكلمة / المفهوم والمصطلح الحداثة من الناحية الايتيمولوجية من فعل "حدُث" حداثة (فصيغة فعُل في العربية يصاغ منها مصدران فعولة كسهُل سهولة وصعُب صعوبة وفعالة كفصُح فصاحة وحدُث حداثة ). وهي لغويا عكس قدُم وإذا ذكر مع قدم ضم إتباعا نحو: "أخذني ما قدُم وما حدُث" ، والحداثة من الأمر أوله وابتدائه ويقال كذلك الحدوثة والحدثان، وهي ليست من فعل حدث حدوثا بمعنى وقع وقوعا[2]. ورغم وجود لفظة الحداثة ضمن معاجم وقواميس اللغة العربية مرادفة لمعنى الحديث، فإنها ظلت بعيدة عن الممارسات النقدية العربية القديمة. واستعيض عنها ب"المحدث" و"المولد" وغيرهما من المصطلحات التي نجدها عند النقاد القدامى، ولم تستعمل الحداثة كمصطلح إجرائي وظلت اللفظة (الحداثة) مرتبطة بأصلها وجذورها اللغوي والمعجمي "حدث" كما ظلت غريبة وغير متداولة حتى ظهرت مصطلحات تقترب منها دلالة بل تجاوزتها، واكتسبت مشروعيتها في الكتابات النقدية والإبداعية على السواء ك"التجديد" و"التحديث" و"الحديث" والمعاصرة... الخ، وبقي لفظ الحداثة محتشما ينتظر، ليعلن نفسه كمصطلح إجرائي في الكتابات النقدية العربية، ظهور الشعر الحر ومنذ ذلك الحين، وهو مصطلح ثابت في وجه التيارات المضادة. أما اصطلاحا فقد تعددت تعاريف الحداثة فقيل هي "ذلك الوعي الجديد بمتغيرات الحياة والمستجدات الحضارية، والانسلاخ من أغلال الماضي والانعتاق من هيمنة الأسلاف، ليست مقصورة على فئة أو طائفة أو جنس بعينه بل هي استجابة حضارية للقفز على الثوابت..."[3]. وبذلك فهي محاولة الخروج عن الأنماط التقليدية والأشكال العتيقة، إنها محاولة إبداع أشكال ومضامين جديدة وغريبة، "وكل جديد غريب"، كما يقول "بودلير"، إنها انزياح على السنن المعروف والنهج المألوف، فينعكس ذلك في لغة وصور غير مألوفة، فهي حسب أدونيس "رؤيا جديدة وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتياج: تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد"[4]، إنها بذلك مرحلة التنافر والتصادم بين البنية السائدة وما تتطلبه حركة المجتمع من تغيير يستجيب للحظة التاريخية المعاشة، إن مفهوم الحداثة إذن يضع التراث، كشيء معطى أومبريكي، في إشكالية معقدة مع البنية الحديثة التي تحاول تأسيس وجودها لا على التراث، إنها انتزاع لأشكال التعبير من أسر المطلق، وبعبارة أوضح إنها تحرير التعبير كما ترى "خالدة سعيد" في كتابها "حركية الإبداع". ويبدو من المقبول اعتبار الحداثة هي ذلك الانسلاخ والتجاوز للماضي والمضامين التقليدية، لكن هذا التجاوز والانسلاخ لا يعني تجاوزه إطلاقا "وإنما يعني تجاوزا لأشكاله ومواقفه ومفهوماته وقيمه، التي نشأت كتعبير تاريخي عن الحالات والأوضاع الثقافية والإنسانية الماضية، والتي يتوجب اليوم أن يزول فعلها لزوال الظروف التي كانت سببا في نشؤئها"[5]. من خلال قول أدونيس هذا يتضح لنا أن الحداثة تقف من الأشكال القديمة موقف الرفض النسبي مؤمنة أن لكل عصر ظروفه الخاصة به ومميزاته المكونة له والتي تختلف طبعا عن ظروف ومميزات الأزمنة السابقة، فضرورة التجديد، إذن أمر حتمي.مع الإيمان بأن ما هو قديم كان جديدا في عصره ، وما نعتبره نحن اليوم جديدا سيصبح يوما ما قديما . إن هاجس الحداثة والتجديد والخروج عن التقاليد البالية، فكرة تسكن إنسان كل فترة تاريخية، ورواد كل مرحلة أدبية، وذلك من أجل تشكيل فن أدبي يساير العصر المُعاش، بكل تركيباته وظروفه المميزة له عن العصور السابقة، وبتعبير آخر أن الإنسان يسعى دائما وراء الخلق والإبداع مادام الإبداع يمثل بداية جديدة، و"كل عمل إبداعي بالمعنى العميق والحديث، هو محاولة بداية"[6]. والإبداع يفترض بدئيا رفض التقليد[7]. وهو عبارة عن تعارض بين واقع قائم وواقع غير متحقق، أو حركة تؤثر بين راهن ومحتمل حسب تعبير خالدة سعيد، إلا أن الثورة على السائد تختلف وضوحا وضبابية من مبدع إلى آخر ومن عصر إلى آخر. وقد احتفظت لنا كتب تاريخ الأدب العربي بأسماء شخصيات أدانت التقليد وتمردت على السائدة، وبالتالي حاولت التحديث والتجديد والنفور من الأنماط القديمة شكلا أو مضمونا أو هما معا. وإذا كانت الحداثة ثورة ومحاولة تجاوز للثابت، حق لنا القول إنها متجذرة في كل الشعوب و"إنها ملازمة" للقدم في كل مجتمع وفي كل مرحلة".[8] وليس غريبا أن تختلف أبعادها وأشكالها من مجتمع إلى آخر أو من زمن إلى آخر، فالحداثة الشعرية هي دائما حداثة شعر معين، في شعب معين، في أوضاع تاريخية معينة، ومن هذا المنطلق يحق لنا أن نتتبع، في اختصار خطوات الحداثة عبر محطات تاريخنا الشعري. يذهب ادونيس، في الثابت والمتحول: "صدمة الحداثة"، إلى أن الحداثة كانت منذ العصر الجاهلي، فهو يؤرخ لها منذ الصعاليك، باعتبارهم حاولوا الخروج عن القيم الاجتماعية السائدة في المجتمع الجاهلي ويبني قيم أخرى كان الذوق القبلي الجمعي يعتبرها غريبة وغير مألوفة ، ومع ظهور الإسلام نبغ شعراء متأثرون بالثورة الإسلامية والحركة الدينية الجديدة فجاءت موضوعاتهم منسجمة مع القيم الجديدة، "ثائرة" على قيم كانت محمودة، وداعية إلى قيم كانت مذمومة ، بل إن الإسلام شكل في حد ذاته حداثة بثورته على الأعراف والتقاليد المجتمعية الجاهيلية ، وبعد انتشار الإسلام شكل شعر الخوارج "حداثة" برفضه للقيم الاجتماعية المعاشة آنئذ .إلا أن الحداثة إلى هذا الحين، لم تكن تركز إلا على جانب القيم الاجتماعية في وقت ظل الشكل القديم هو المهيمن، بينما في العصر العباسي نجد التجديد أكثر وضوحا، وقد أسهب النقاد القدامى الحديث عن الحداثة في الشعر، وعن الصراع بين "القديم" والمولد" أو "المحدث"، وتم التركيز بشكل أساسي على الشكل، ويكفي أن نذكر هنا أسماء مثلت "الحداثة الشعرية" بخروجها عن الأشكال الموروثة، مثل أبي نواس وبشار وأبي تمام وغيرهم، وكان المعاصرون لهم يدركون أن شعرهم كان بالفعل، شيئا غير مألوف : فقد ثار كل من أبي نواس وبشار بن برد على القيم العربية فوجدنا بشارا يتمرد على قيم العرب السائدة في المجتمع من حيث الأكل ونمط العيش وهو القائل ساخر من عيشة العرب : سَأخْبِرُ فَاخِرَ الأَعْرَابِ عَنِّي * وعنه حين بارز للفخار أَحِينَ لبِسْتَ بَعْدَ الْعُرْي خَزًّا * ونَادَمْتَ الكِرَامَ عَلَى الْعُقَارِ تُفَاخِرُ يَابْنَ رَاعِيَة ٍ وَرَاعٍ * بَنِي الأحْرَارِ حَسْبُكَ مِنْ خَسَارِ وكنت إذا ظمئت إلى قراح * شركت الكلب في ذاك الإطار وَتَقْضَمُ هَامَة َ الْجُعَلِ الْمُصَلَّى * ولا تعنى بدراج الديار وتدلج للقنافذ تدريها * وُيُنْسِيكَ الْمَكَارِمَ صَيْدُ فَارِ بل سخر من صلاة المسلمين وطقوس عبادتهم وتجاوز ذلك إلى تفضيل إبليس عن آدم في مجتمع إسلامي كما في قوله : إبليس أفضل من أبيكم آدم ***** فتنبهوا يا معشر الأشرار النار عنصره وأدم طينته ***** والطين لا يسمو سمو النار ولتجديد ابي نواس مظاهر كثيرة دع المساجد للعباد تسكنها وطف بنا على الحمار يسقينا ما قال ربك ويل للذين سكروا ولكن قال ويل للمصلينا ومخالف لما عرف بعمود الشعر". ولا ينبغي أن ننسى حركة الموشحات الأندلسية، وما سجله أصحابها من خروج على سنن الشعر القديم:أوزانه وقوافيه[9]. وتجدر الإشارة إلى أن الحداثة مع هؤلاء جميعا كانت أحادية الجانب، لأنها ركزت على القيم الاجتماعية (الصعاليك، الإسلام، الخوارج...) أو على الشكل (شعراء بني العباس – الموشحات – الزجل...). أما في العصر الحديث فقد ظهرت الحداثة بشكل أكثر جدية بشكلها التام.إذ أثارت إشكالية الحداثة ضجة كبرى بين النقاد وأصبحت موضوعهم الراهن، بل ومجال حديثهم في كل الصحف والمجلات والكتب، التجديد والخروج عن الأنماط التقليدية، ما دامت الإنسانية في تطور مستمر، وتسير من الحسن إلى الأحسن، وتحاول توظيف السابق لينفع ويعطي روح الاستمرارية للأحق، فالإنسان إذن دائما ساع إلى التغير والتطوير، لأن نفسه لا تخول له اجترار نفس الأنماط والعيش على التقليد. إذ أن متطلبات الحياة تلزم عليه البحث والتنقيب عن المناسب، ومن تم فهو دائما طموح إلى الحداثة والتحديث في كل مجالات الحياة، ومن البديهي أن يختلف فهم الحداثة من منطقة إلى أخرى تبعا لاختلاف الظروف والملابسات، التي أنشأتها، بل واختلاف القراءة والفهم. عندما نطلق مصطلح "الحداثة" نربطه بالعصر الحديث أكثر من غيره من العصور، فالحداثة لم تكن مقصورة على مجال دون غيره من العصور، فالحداثة لم تكن مقصورة على مجال دون غيره فقد امتدت آثارها إلى كل شيء في المجتمع الإنساني. فمنذ العصر الحديث –وما شهده من صراعات وتصدعات وتحولات واختراعات وحروب- والإنسان لم ينفك يتحدث عن التغيير والتجديد اللذان رافقا هذه التغيرات. إلا أن الحداثة العربية لم تتفاعل مع الاجتماعي التاريخي المعرفي، مما استحال معه استيعاب بعدها المعرفي النقدي عكس الحداثة الغربية[10]. ونحن لا يتهمنا الحداثة الغربية وملابساتها في شيء إذ أن موضوعنا يتمحور حول الحداثة الشعرية العربية. وأن أي مقارنة بسيطة بين الحداثتين، تبدي للقارئ للوهلة الأولى تضارب واختلاف المواقف والآراء حول طيلة أو انفصال الحداثة العربية عن الغربية باختلاف النقاد والقراء، بل يمكن أن نجد هذا التضارب حتى لدى الناقد الواحد، فمحمد بنيس يؤكد –كما سبق- أن الحداثة العربية لا تتفاعل مع محيطها، وأنها نبتت في غير التربة العربية، وهي بذلك تظل جسدا غريبا عنا. وأن النقاد لا يزالون يتحفظون أثناء التعامل مع إشكالية ومصطلح الحداثة، وأنهم لازالوا لم يقتحموا موضوعها بجرأة كبيرة، في وقت بدأ فيه الغرب يخطط لمرحلة ما "بعد الحداثة"، و"فيما نحن ما نزال معلقين بأوهام التدرج في مراتبها"[11]. ويكاد ادونيس يشاطره الرأي، في أن الحداثة الشعرية العربية متأثرة بالحداثة الغربية، إلا أنه يرى أن هذا التقليد مقصور على الأشياء الشكلية والعرضية دون المسائل الجوهرية؛ "إننا اليوم نمارس الحداثة الغربية على مستوى تحسين الحياة اليومية ووسائلها لكننا نرفضها على مستوى تحسين الفكر والعقل ووسائل هذا التحسين، أي أننا نأخذ المنجزات ونرفض المبادئ العقلية التي أدت إلى ابتكارها، إنه التلفيق الذي ينخر الانساف العربي من الداخل"[12]. يظهر من خلال ما سبق أن الحداثة العربية متأثرة بالحداثة الغربية بل أكثر من ذلك، فغن المعادين لحركة الحداثة وللأشكال الشعرية الجديدة يذهبون إلى أنها لم تكن غير صورة طبق الأصل للأشكال الأوروبية، ولا علاقة لها بالعشر العربي وأنها جسد غريب –بتعبير بنيس- يعيش بيننا إلا أن المتحمسين لهذه الحركة والذين أخذوا على عاتقهم مهمة الدفاع عنها، يذهبون إلى أنها من أصل عربي ولا علاقة لها بالغرب، ومبررهم على ذلك هو أن لكل مجتمع خصائصه وظروفه وملابساته المختلفة عن أي مجتمع آخر، فعبد المعطي حجازي[13] مثلا يذهب إلى أن الشعر العربي لم يكن بدعا من الشعر الغربي، ويبرهن على ذلك بأن الممارسات الشعرية الأوربية قد مرت من نفس المراحل، التي يقطعها الشعر العربي من التزام بالقافية والوزن تارة، وعدم الالتزام بهما والرجوع إليهما تارة أخرى، كما نجد أدونيس يؤكد أن العرب عرفوا الحداثة إذا كانت تعني "التغاير والخروج من النمطية والرغبة الدائمة في خلق مغاير "منذ القرن الثامن أي قبل بودلير ومالارميه ورامبو بحوالي عشرة قرون، وهي إذن ليست مستوردة ولا دخيلة، وإنما هي ظاهرة أصلية وعميقة في الشعر العربي[14]، ونكاد نصادف نفس النظرة تتكرر عند نازك الملائكة، إذ ترى أن "حركة الحداثة" كانت "اندفاعة اجتماعية"[15]، وأن حركة التجديد لها جذور عميقة في تراثنا، وبذلك فإن محاولات وأدها قد فشلت كلها، وهذا ما يؤكد أن الحركة عربية بحثه ومنبعثة من أعماق أعماقنا العربية الخالصة، وبالتالي فإن محاولة نزعها بمقالة أو مقالات أمر عسير، مادامت اندفاع محتوما حتمت وجودها عوامل اجتماعية عديدة تذكر منها نازك الملائكة أربعة وهي: النزوع إلى الواقع، النفور من النموذج، الهروب من التناظر، والحنين إلى الاستقلال[16]. ومما تجب الإشارة إليه، أن هذا الخلاف والتضارب في الآراء حول أصالة الحداثة الشعرية العربية، لم يبق قائما بين النقاد فحسب، بل إنه أصبح يسكن حتى عقل الناقد الواحد. ونحن نتحدث عن النقاش الذي أثارته أصالة الحداثة، يتوجب علينا أن نشير إلى شيء نراه مهما جدا، يتعلق بترجمة المصطلح، وهي إشكالية تطبع ميادين ثقافتنا العربية، لان ترجمة المصطلح لا تقف عند البحث عن المقابل اللغوي في اللغة العربية، بل تتعلق المسألة بالفرق الشاسع الذي يظل قائما بين إنتاج المصطلح في محيط دلالي معين، وعملية انتقاله إلى محيط دلالي آخر، وهكذا "يبدو في العربية وكأنه (مصطلح الحداثة) ابتداع لغوي أكثر مما هو ملصق بحمولة معرفية، ذات إشعاعات تتصل بالحداثة وكفعل للشمول"[17]. وبتعبير آخر إن الترجمة الحرفية لمصطلح غربي إلى العربية، لا تعني انتقال النوع المعرفي أو الدلالي الذي يؤديه المصطلح في المجال الذي ظهر فيه لأول وهلة، إذ بترجمته يفرغ من الحمولة المعرفية والخلفيات الفكرية التي يحملها في محيطه الأصل.