تطرح القراءة الأولية لأغلب التحالفات السياسية التي عقبت انتخابات الرابع من شتبر2015 المحلية والجهوية مجموعة من التساؤلات حول موقع ومصير البرامج الانتخابية والمرجعيات النظرية والاديولوجية وكذا التمايزات والتموقعات الساسية السابقة واللاحقة للأطراف المشاركة، إضافة إلى مدى تعبير المشهد الحزبي المغربي عن تعددية سياسية حقيقة. إن المتتبع لهذه الانتخابات وللشأن الحزبي بشكل عام ، تستوقفه مجموعة من الأعطاب والعيوب الناتجة أساسا عن غياب البعد الاديولوجي وما يترتب عن ذلك من تشابه في البرامج وهشاشة في التحالفات : أ- تشابه البرامج: لعل أهم خاصية تميز البرامج الانتخابية للأحزاب المغربية على اختلاف مشاربها ومسمياتها هي تشابهها من حيث المضامين إلى درجة التطابق والاستنساخ ، فلا يمكن التمييز بين حزب حكومي وآخر معارض أو حزب يمني وحزب يساري...لأن الكل يتبنى نفس المطالب ويرفع نفس الشعارات . وفي محاولة لتفسير ذلك ، لابد أولا من الإقرار بكون ثقافة البرامج الانتخابية بمفهومها الحديث لم تكن متجذرة وأصيلة في أدبيات الممارسة الحزبية والانتخابية المغربية، بل إن ظهورها ارتبط ببداية العقد الأخير خصوصا مع صدور قانون الأحزاب[1]، وتغيير نمط الاقتراع. لكن، وبالاضافة الى ذلك ، هناك عاملان أساسيان: 1- وحدة المنطلق والمرجعية ، إذ غالبا ما يتم اعتماد الخطب والمبادرات الملكية كقاعدة لبلورة الخطط والبرامج المستقبلية مع الاستعانة – أحيانا- بالتقارير والتوصيات التي تصدرها منظمات وهيئات دولية متخصصة كالبنك الدولي وغيره. 2- محدودية السقف السياسي المرسوم للأحزاب كنطاق للتحرك والممارسة بحيث لا يصل مداه إلى ملامسة القضايا السياسية الكبرى كالإصلاح الدستوري وتنظيم السلط وعلاقة السلطة بالثروة... فهذه الأمور وضعت خارج الاهتمام الحزبي دستوريا وقانونيا وكذا على مستوى الممارسة السياسية، في مقابل حضور للشأن الاقتصادي والاجتماعي وإن بشكل سطحي لا يتعمق في مكامن الخلل من قبيل الريع والاحتكار ... كما أن مناولة القضايا والانشغالات المجتمعية غالبا ما تتسم بالعمومية والاستثنائية ، فالجميع يتحدث عن الأزمة (حتى الأحزاب الموجودة في سدة الحكم !) والأوراش الكبرى والبرامج المفتوحة والتنمية الشاملة وجلب الاستثمارات وإصلاح الإدارة والقضاء والتعليم والمرأة والصحة وإحداث مناصب شغل ودعم الطبقة الوسطى ومحاربة الفقر والهشاشة... وعود بإسهاب لكن دون تفصيل دقيق خصوصا فيما يتعلق بمصادر التمويل إذ غالبا ما يتم التعهد بإنشاء صناديق ووكالات خاصة وخلق شراكات مع قطاعات عمومية ومع خواص دون تحديدها بالضبط أو تحديد صيغها أو سقف زمني لتحقيقها... كل ذلك يبقى في دائرة من الغموض والضبابية خصوصا حين يتعلق الأمر بمجالات أساسية وحيوية قد تقل أو تنعدم فيها المعلومة الدقيقة و الكافية ؛ مما يفسح مجالا للالتفاف والمناورة وكذا التنصل من المسؤولية. تساعد على ذلك أيضا، طبيعة المناخ السياسي والسوسيوثقافي الذي تجري في إطاره الانتخابات المغربية والذي يتميز " باللاتسيس" واستمرار ما يصطلح عليه " بالناخب الأسير" الذي تأسره ولاءاته التقليدية خصوصا بالبوادي والقرى[2] إضافة إلى ضعف ثقافة البرامج الانتخابية سواء لدى الأحزاب السياسية أو لدى عموم الناخبين الذين تختلط عندهم الأمور وتلتبس أمام مشهد حزبي دائم التناسل والانشقاق لاسيما قبيل الاستحقاقت الانتخابية. لقد استفحلت ظاهرة البلقنة السياسية وهو ما أدى بالمواطن إلى الوقوع في حالة الضياع والتيهان بين أكثر من 30 حزبا بما تطرحه من "برامج" وترفعه من "شعارات" و مطالب تبقى في مجملها ،على مستوى الخطاب ،مكررة ومستنسخة لبعضها البعض مما أفقد العديد منها مقومات الصدقية والمعقولية والاقتدار على الإقناع وامتلاك جاذبية التحفيز والاستقطاب[3]. من خلال ما سبق، يمكن فهم مدى العقم الذي تعانيه الأحزاب المغربية على مستوى القوة الإقتراحية وطرح البدائل بشكل تفصيلي وموضوعي، الأمر الذي يحيلنا على ظروف ودواعي تأسيس و نشأة هذه الأحزاب والتي لم تكن في الغالب طبيعية وعلى أساس تصورات وبرامج حقيقية بقدر ما كانت جزءا من إستراتيجية ومشاريع إدارية تستهدف ضبط المشهد الحزبي والتحكم في مفاصله من خلال تشتيته وتفتيته إلى كيانات صغيرة وهجينة تحكمها المصالح الضيقة والصراعات الداخلية والتي غالبا ما يتم تحريكها وإذكاؤها من قبل الجهات الرسمية. ليطرح التساؤل من جديد حول حقيقة التعددية الحزبية المغربية والتي تبقى مجرد تعددية تنظيمية عددية لا لون لها ولا مرجعية فكرية. خلاصة القول أنه إذا كان من المستحيل تصور فعل ديمقراطي حقيقي بدون أحزاب قوية[4] وذات امتداد مجتمعي، فإن من المستحيل أيضا تصور انتخابات حقيقية بدون برامج تنموية تنبع من الحاجيات المجتمعية و تصورات الأحزاب ومواقفها ومرجعياتها السياسية[5]. ب -هشاشة التحالفات. إذا كانت أهمية البعد الاديولوجي واضحة في تأصيل وتوجيه المشروع التنموي المجتمعي لدى الأحزاب السياسية في إطار رؤية شمولية ونسق فكري منسجم ومتكامل فإن الأمر لا يقل أهمية بالنسبة لتأسيس تحالفات قوية تشكل إطارا سياسيا لطرح وتنزيل ذلك المشروع بناء على تقاطعات وقواسم فكرية ثابتة ومشتركة لبلورة برنامج يكون موضوع التزام وتعاقد انتخابي أو حكومي ، إلا أن واقع الممارسة الحزبية بالمغرب وما تعيشه من حالة شرود وتيهان فكري واديولوجي يجعل غالبية التحالفات والتنسيقات السياسية آنية وظرفية ، تحكمها معايير ودوافع براغماتية نفعية[6]. أو تصنعها إرادة إدارية وسياسية عليا للتأثير والتحكم في التوازنات السياسية القائمة حتى تسهل مراقبتها وضبطها[7]. وهذا ما يطرح عدة إشكالات تتعلق بهذه التحالفات من حيث استمراريتها أو تقييم أدائها ومشاركتها في تدبير الشأن العام، فالبعد السياسي لا يحظى بالأولوية داخلها خصوصا حين تضم الصغير والكبير والإسلامي واليساري والليبرالي والانتهازي... كل ذلك بجعل الرهان الأساسي بالنسبة لها هو استمرار التحالف والتنسيق ولو في الأدنى حفاظا على المواقع والمكاسب ، خصوصا وأن الجميع يحرص على عدم الخروج من دائرة الولاء السياسي حفاظا على نصيبه من الغنيمة النيابية أو الحكومية مما يجعله يتخلى عن مبادئه ووعوده السابقة وينخرط في مشروع جاهز ومعد سلفا إنه مشروع القصر الذي يبقى في الأخير أرضية استقطاب يمكنها ابتلاع وتعبئة كل الأطراف على اختلاف أطيافها وأحجامها. لقد جاء في خطاب العرش لسنة 2015 : "... ولهذه الغاية، وتعزيزا للمبادرات التي سبق إطلاقها، قررنا تكليف وزير الداخلية، بصفته الوصي على الجماعات الترابية، للقيام بدراسة ميدانية شاملة، لتحديد حاجيات كل دوار، وكل منطقة، من البنيات التحتية، والخدمات الاجتماعية الأساسية، سواء في مجال التعليم والصحة، أو الماء والكهرباء والطرق القروية وغيرها . وقد شملت هذه الدراسة كل جهات المملكة، حيث تم تحديد أزيد من 29 ألف دوار، في 1272 جماعة تعاني من الخصاص، ثم وضع المناطق والمجالات حسب الأسبقية. كما تمت دراسة حوالي 800 20 مشروع، تستهدف أزيد من 12 مليون مواطن يقطنون بأكثر من 24 ألف دوار، وبميزانية إجمالية تبلغ حوالي 50 مليار درهم. ولضمان النجاح لهذا الورش الاجتماعي الطموح، فإننا ندعو الحكومة لوضع مخطط عمل مندمج، يقوم على الشراكة بين مختلف القطاعات الوزارية والمؤسسات المعنية، لتوفير وسائل تمويل المشاريع، وتحديد برمجة مضبوطة لإنجازها".[8] في نفس الإطار، سبق للوزير الأول السابق عباس الفاسي التصريح بأن برنامجه هو "... برنامج جلالة الملك" وأن أولوية هذا البرنامج هي الاستمرار في الأوراش التي نجحت فيها الحكومة السابقة[9]. ليطرح التساؤل في الأخير عن جدوى البرامج الحزبية إذا لم يكن لها من المناعة والتنافسية ما يمكنها من الصمود واثبات الذات أمام برنامج الملك ، بل ليطرح التساؤل ثانية عن جدوى هذه الأحزاب والعملية الانتخابية برمتها وظيفتها في المشهد السياسي العام، مادام أن الجهة التي تدير دفة الحكم بشكل فعلي تضع برامجها وخططها خارج المداولات والتوافقات الحزبية والمجتمعية وخارج نطاق أي مراقبة أو مساءلة قانونية أو انتخابية ليبقى دور المؤسسات الانتدابية مقتصرا على الاجتهاد في تنزيل الخطابات والتعليمات والأوامر السامية التي ترسم إطار الممارسة ومحددات الفعل السياسي الحزبي. من خلال كل ما سبق يتأكد أن غياب البعد الاديولوجي سواء أثناء إعداد البرامج الانتخابية أو أثناء بناء التحالفات بالاضافة طبعا الى ضعف القوة التنظيرية والاقتراحية يفقد هذه الأحزاب وبرامجها الفاعلية وقوة الجذب والتعبئة ، لتصبح في الأخير آلية للدعاية والمزايدة السياسوية وبالتالي تبقى الانتخابات "وسيلة لخلق الإجماع على النظام السياسي الملكي وذلك عن طريق التعبئة من "أعلى" والتي تؤدي في النهاية إلى اللاتسييس أي إبتعاد المجتمع عن الممارسة الحرة للسياسة والمستقلة عن الهيمنة المباشرة للدولة.