إن الهدف الأساسي من هذه الورقة ليس هو البحث في مشروعية الخطاب الوهابي أو العكس، وليس سعيا لإدراك معالم هذا الخطاب أو استكناه خصائصه ومميزاته، إنها لا تجيب عن سؤال ماهي داعش؟ أو ما هو الخطاب الوهابي؟ بقدر ما تسعى للانخراط في المسعى الجينيالوجي الذي يهدف إلى حلّ ألغاز الخطاب المتمثّلة في القوى التي تديره والتي تنتجه والتي من مصلحتها أن يكون، محاولة منا إذا للإسهام في المخاض المتجدّد للسؤال الجينيالوجي (من؟) أي من يقف وراء داعش؟ ومن من مصلحته أن يكون الأمر على هذا الحال؟ إنه سؤال ينبش ويحفر في جغرافية المتستر والمقنّع والمخفي... وهذه الدعوة إلى إقامة جنيالوجيا للخطاب الوهابي أقرب ما تكون إلى رغبة جادة في رسم معالم هذا الذي يوجّه ويقود الخطاب الوهابي بما هو ممارسة جهادية وفعل سلفي تكفيري، في اتجاه فضح استراتيجية القوى المقنّعة التي تحجب ذاتها وترسم لنفسها صورة مزيّفة عبر عدسات تروّجها من خلال سحر "شعاراتها" ودفء تعويضها للمعتقد. لكي نجيب عن سؤال: من يوجّه داعش؟ علينا أولا أن نبين من يوجّه الخطاب الوهابي ككل من حيث كون داعش ممارسة عملية لهذا الخطاب على أرض الواقع؟ ما علاقة الوهابية بالسلطة السياسية؟ كانت البدايات الأولى للوهابية مع منتصف القرن الثامن عشر، من خلال حركة محمد عبد الوهاب (1792-1703) التي فجّرها بنجد، والتي رمت بكل بساطة إلى القضاء على جميع الشوائب والبدع التي اختلطت بالدين الإسلامي والتي تهدّده بالعودة إلى عصر الجاهلية، لذلك رفع عبد الوهاب شعار التوحيد، كأهم مبغى لخطابه السلفي، وكان يعتبر نفسه مصححا أو مصلحا دينيا، يستشهد بالنصوص الشرعية القطعية لتكذيب أسس الممارسات التي تحولت حسبه إلى ما يشبه عادات دينية، في حين أنها ليست أكثر من خرافات وضرب من ضروب الشعوذة وعبادة الاوثان، وكانت دعوته منصبة على تطهير الاعتقاد وتوحيد العبادة بالله ومحاربة كل أشكال البدعة و الخرافات الراسخة في مجتمعه. لكن حركته قوبلت بقمع شرس من طرف القيادات القبلية ولم تجد مجالا خصبا للانطلاق إلا مع سنة 1744 حينما وقّع عبد الوهاب تعاقدا بينه وبين محمد بن سعود هذا الأخير الذي كان شيخا لحركة سياسية ناشئة ذات طموحات بعيدة المدى تتلخّص في توحيد الحجاز كله تحت راية سياسية واحدة، سمي هذا التعاقد باتفاقية (الدرعية)، وبموجب هذه الاتفاقيةقبلت حركة آل سعود حماية محمد عبد الوهاب وحماية دعوته بشرط أن تكون هذه الدعوة درعا روحيا لهم، وهذا ما حصل فعلا فقد تمكنت دعوة عبد الوهاب من أن تحقق تقدما مبهرا من حيث المنتسبين والأنصار كل ذلك بفضل حماية حركة آل سعود التي استفادت هي الأخرى من هذا الوضع وحققت انتصارا سياسيا كبيرا مكّنها من بسط سلطتها على الحجاز. كانت هذه إذا الخسارة الأولى للوهابية بالرغم من أنها سجلت ظاهريا انتصارا مبهرا، نظرا لكونها أبانت عن مدى قابليتها للاحتواء وقابليتها أيضا لتكون أداة بيد قوى سياسية، الوهابية إذا منذ ظهورها أكدت للعالم أنها لا تستطيع أن تؤسس لممارسة إصلاحية عصامية أي لا يمكن لها أن تعتمد على إمكاناتها الذاتية لتحقيق أهدافها، لذلك تتوسّد على قوى سياسية ذات نفوذ. وهذا ما يؤكده تاريخ الدعوة الوهابية، فمحمد عبد الوهاب تأكد منذ البداية من أنه لا يستطيع أن يحقق أي شيء اعتمادا على جهوده الخاصة، لذلك "لجأ في البداية إلى أمير العينية الذي ناصره ثم خذله وأجبره على ترك بلدته"، ثم بعد ذلك إلى أمير الدرعية محمد بن سعود الذي عقد معه اتفاقا استراتيجيا بموجبه تم تقسيم السلطة بين المحمدين، فمحمد بن سعود تولى السلطة السياسة ومحمد عبد الوهاب تولى السلطة الروحية الدينية. كما أن الاتفاق كان بعيد الأمد، يقر بأن ورثة محمد بن سعود سيتولون سلطته السياسة بعده وورثة محمد بعد الوهاب سيتولون السلطة التيولوجية بعده. هذا التحول في الوهابية من خطاب تطهيري إلى ورقة رابحة تخدم مشروعا سياسا، أفقد الخطاب الوهابي استقلاليته، وأفقده القدرة على الوفاء والإخلاص لمبادئه، وهذا ما وقع حقا حينما استطاعت حركة أل سعود أن توحّد الحجاز تحت راية دولة واحدة ستعرف فيما بعد بالمملكة العربية السعودية، نسبة لمؤسسها محمدابن سعود. إذ أن الدولة الناشئة بدأت تطغى وتقوم بأمور لا علاقة لها بالدين الإسلامي ورغم أن حركة محمد عبد الوهاب كانت جدّ نشطة إلا أنها لم تنتقد سياسة آل سعود بل في كثير من الأحيان سعت إلى تبريرها والدفاع عنها وإيجاد حجج شرعية لذلك خصوصا مع النسخة الأولى والثانية للدولة السعودية. معنى هذا أن الخطاب الوهابي لم يعد منذ ذلك الحين ممعيرا بذاته، بل غذا وسيلة بيد سلطة سياسية قاهرة، توجّهه أينما شاءت ومتى أرادت. ولد الخطاب الوهابي إذا في حضن خطاب سياسي يتناقض معه جملة وتفصيلا. لكن مع ذلك احتمى به. بمعنى آخر كانت الوهابية منذ البداية تطلب النصرة والحماية من كيانات سياسية مخالفة لخطابها وقوى ذات نفوذ متناقضة معها... معنى هذا أيضا أن من يوجّه الخطاب الوهابي لم يكن دائما قوة روحية تيولوجية بل قوى لها طموحات سياسية جيو-ستراتيجية بالخصوص. لكن ما علاقة داعش بالوهابية؟ داعش اسم مختصرلتنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام، يتألف من مجاهدين تم استقطابهم بالخصوص من شمال إفريقيا والحجاز والشام وأوروبا، البعض منهم سبق له أن قاتل سلفا بسوريا، بغرض الجهاد في سبيل تحقيق الحلم السلفي المعروف بإقامة الخلافة الإسلامية من جديد،وهذا خطابوهابي قحّ، لكن هذا لا يعني أن داعش تمثل بالضرورة امتدادا عضويا للحركة الوهابية لكنهابالفعل وبدون أدنى شكّ تشكلامتدادا موضوعيا لها، وامتداد جيوستراتيجي-سياسي أيضا، امتداد موضوعي من حيث أن خطاب داعش خطاب وهابي، قائم على الاستشهاد الحرفي ب (النصّ) في غياب أي تأويل، والدعوة إلى تطهير الاعتقاد وتوحيد الله، وتكفير كل ما يخالف ظاهر النص الديني، فنحن نعلم ان النصوص التي ألّفها محمد عبد الوهاب انطلاقا من "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" مرورا ب" فضل الإسلام" و"كشف الشبهات" و"مسائل الجاهلية" و"أربع قواعد تدور عليها الأحكام" و"أصول الايمان" كانت عبارة عن مقتطفات من نصوص شرعية (أي من القرآن والسنة) والملاحظ أن الرجل قد غيّب التعليق والشرح والتفسير معتبرا النص الديني واضح تماما ولا يحتاج إلى شرح أو تأويل.وامتداد سياسي كذلك، لكونها ظلت مرتبطة بالمصالح الجيوستراتيجية للقوى السياسية الخليجية بالخصوص آل سعود وقطر. لكن وجه الاختلاف بين الحركة الوهابية وداعش، أن الثانية حملت مشروعا ذا بعدين: روحي وسياسيي، ايمانا منها بأن الدعوة الدينية في حدّ ذاتها تصوّر سياسي، لهذا لم تعمل على مجاهدة الكفار والمرتدين والطواغيت كما نادت بذلك الوهابية الأولى، بل رمت إلى إقامة دولة خاصة لتحقيق مشروعها التيولوجي. لكن هل هذا يعني أنّ داعش مستقلة عن كل القوى السياسية؟ ظاهريا يبدوا ذلك، لكن في العمق يتبين أن الأمر ليس كذلك، فمن أين تأتي الأسلحة لداعش ومن أين حصلت على ذلك العتاد العسكري المتطور نسبيا؟ هنا نقف عند الابتلاع المعولم لأهداف داعش، فنظام العولمة بما هو نسق يشتغل فيما وراء الخير والشر، يأخذ المصلحة المادية بالدرجة الأولى، يعمل بشكل ماكر ومخاتل على تسويق منتوجاته (الحربية بالخصوص)، حتى للجماعات الإرهابية في نظره ثم يقاتلها لكي تستمر حركيته الاقتصادية. كما أن الحكومة العراقية أكدت على أن أنصار تنظيم داعش يقودون وسائل نقل عسكرية سعودية وتركيةويستخدمون أسلحة أمريكية الصنع، فهل يمكن تبرير ذلك، بأنها أسلحة وعتاد عسكري تم الاستلاء عليه بسوريا، إن كان الأمر كذلك فعلى جنسية ذلك السلاح والعتاد العسكريين أن تكون روسية أو صينية أو إيرانية الصنع. ثم كيف يمكن لداعش أن تستولي على تلك المناطق الشاسعة في العراق بسرعة خارقة؟ صحيح أن الجيوش الشرق-أوسطية تقاتل الآن بدون قضية وبمعنويات محطّمة، على عكس مقاتلي داعش الذين يقاتلون بروح معنوية عالية تغذيها الطموحات الدينية (الشهادة، الفتح، الجهاد في سبيل الله...)، لكن هذا الأمر ليس كافيا لكي تحقق داعش تلك الانتصارات المبهرة، هذا يعني أن هناك أسباب أخرى ساعدت داعش على التقدم بأقصى سرعة في اتجاه العاصمة العراقيةبغداد. افتراضات: الافتراض الأول: أن داعش منتوج أمريكي، اصطُنع لإجهاض المحاولة الإيرانية للسيطرة على العراق، إذ أن سياسة المالكي التي ذهبت في اتجاه تكريس الهيمنة الفارسية على العراق خلقت نوعا من الخصام السياسي والاقتصادي بين العراق والولايات المتحدةالأمريكية، كما أن تهديدات إيران المتكررة لدول الخليج وبالخصوص السعودية والامارات العربية المتحدة وقطر... قد دفعت ربما (و م أ) بالتواطؤ مع دول الخليج إلى شراء واحتواء القيادات الروحية الجهادية، وما يمكن أن يدل على هذا كون إيران نفسها هي التي تقاتل الآن بالعراق الجماعات الدينية المسمات بداعش. وأن عموم (المحاربين) أو المجاهدين بلغة داعش يقاتلون دون العلم بالأهداف الاستراتيجية للتنظيم، باستثناء الأهداف الوهمية السطحية المتمثلة في إقامة خلافة إسلامية. وهذا ما يقودنا إلى الافتراض الثاني. الافتراض الثاني: يقر هذا الافتراض بأن داعش منتوج خليجي، فكرا وتمويلا، أي أن دول الخليج التي تعتبر معقلا للفكر الوهابي، خصوصا المملكة العربية السعودية وقطر، أوجدتا هذ التنظيم لغرضين، أولا لنشر الفكر الوهابي وتكريس الهيمنة الروحية والعقائدية على مناطق بدأت تخرج عن سلطتها بالحدّ من سيطرة القوى الشيعية الإيرانية على المنطقة، ثانيا مقاومة المدّ الإيراني بإنهاءهيمنته السياسية على العراق. والدليل على ذلك أن أهم الوسائل الحربية الموظفة في معارك داعش بالعراق تحمل شارات سعودية وقطرية. الافتراض الثالث: أن داعش تمثّل امتدادا عضويا لتنظيم القاعدة، بمعنى أنها شكل متطوّر لتنظيم أسامة بن لادن، لكن تحت قيادة جديدة، وما قد يبّرر هذا الافتراض، كون خطاب داعش متطابق ومتماهي مع دعاوي القاعدة، وأغلب الحركات التي ناصرت تنظيم القاعدة هي التي تنتصر الآن أيضا لداعش. كما أن أيمن الظواهري المساعد الأيمن لأسامة بلادن سابقا وخليفته على تنظيم القاعدة كانت له اتصالات بداعش، وهناك من اقترحه ليكون خليفة على المسلمين. الافتراض الرابع: يذهب هذا الافتراض إلى طرح احتمال أن تكون داعش منتوجا للمخابرات الإسرائيلية، وما يبرّر هذا الافتراض، كون العديد من المحللين يشكّون في هوية أمير التنظيم المدعو محمد البغدادي ويطرحون احتمال أن يكون عاملا لإسرائيل، وحجتهم الثانية طبيعة المواقف الحيادية للتنظيم تجاه إسرائيل، وامتناعهم عن مقاتلتها. الافتراض الخامس: أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أوجدته المخابرات الروسية، لكن هذا الافتراض هو الأقل احتمالا لكون، إيران موالية لروسيا ومن غير الممكن أن تقاتل إيران داعش في هذه الحالة. خلاصة: إن أهم ما يمكن استخلاصه من هذه الورقة أن تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام(داعش) رغم أنه تنظيم حامل لهوية وهابية صرفومخلص للشعارات السلفية الجهادية إلا أن أهدافه الاستراتيجية الحقيقية غير واضحة كما أن ممارسته الحربية في الميدان تحيل على مجموعة من الاحتمالات والافتراضات تصبّ كلّها في اتجاه كون هذا التنظيم منتوج لقوى أخرى مناقضة لمبادئه ومتوسّد على توجهات سياسية ذات نفوذ كبير. علي الحسن أوعبيشة