منذ عهد جوبا الثاني ملك نوميديا الأمازيغي الذي تربّى في كنف روما وكان يكتب باللغة اليونانية والقديس أوغسطين (اسمه بالأمازيغية أوراغ) الذي كان يكتب باللاتينية ومغاربة شمال إفريقيا يؤسسون لشخصية ثقافية قائمة على التأقلم والتفاعل مع الآخر حضارةً ولساناً. هذه الشخصية المتعددة فتحها موقع المغرب الجغرافي على المزيد من الاحتكاكات السياسية والتبادلات الاقتصادية والتأثيرات الثقافية بين المغرب من جهة وأوروبا والعالم العربي وإفريقيا جنوب الصحراء من جهة أخرى. ومنذ ذلك الحين يُعتبر التعدّد قيمة مركزية عليا لا يمكن مقاربة الشخصية والأدب المغربيين خارجها. وهو ما يمكن أن نلمسه من خلال جولة صغيرة في رحاب الأدب المغربي الحديث عبر بوابته الأحدث: الرواية. هذا إذا ما صرفنا النظر عن بعض الأعمال السردية الما قبل روائية مثل (الحمار الذهبي) الذي كتبه أبوليوس (اسمه الأصلي بالأمازيغية أفولاي) خلال القرن الثاني الميلادي والذي يعتبره البعض أول عمل روائي في تاريخ الأدب الإنساني. الرواية المغربية المعاصرة، التي يؤرَّخ لبداياتها برواية (الزاوية) الصادرة بتطوان للتهامي الوزاني سنة 1942، كانت تُعتبر امتدادا لنظيرتها العربية كما تلقاها المغاربة من المشرق. هكذا اعتُبِرت (في الطفولة) 1957 لعبد المجيد بن جلون و(سبعة أبواب) 1965 و(دفنا الماضي) 1966 لعبد الكريم غلاّب و(جيل الظمأ) 1967 لمحمد عزيز الحبابي وغيرها من الأعمال التي تلت (زاوية) الوزاني مجرد استعادة لأجواء وأساليب وطرائق السرد التي كرّسها المصريون واللبنانيون والسوريون في أعمالهم الروائية الأولى. الرواية المغربية كانت خلال هذه الفترة معنية بهذا الآخر/المستعمر الفرنسي في حالة عبد الكريم غلاب أو الآخر/الإنجليزي كما في حالة عبد المجيد بن جلون الذي عاش طفولته بين المغرب وإنجلترا، إلا أنها ظلت أسيرة مقاربة الآخر من منطلق الذات، بل ومن موقع أنا متضخمة وجدت في السيرة الذاتية إطارا لتقليد المشارقة في سعي لترسيخ هذا الجنس الأدبي الجديد بالمغرب. لذلك لم يكن أحد ينتظر من الروايات العربية الأولى أن تنعطف بالسرد الروائي إلى وجهة جديدة تخلخل النموذج المشرقي أو تتجاوزه. لكن لحسن الحظ، كان هناك في باريس كاتب مغربي متمرّد. متمرد على فرنسا والاستعمار الفرنسي، ومتمرد على المغرب وسلطة التقليد الذي تكبّل البلد مجتمعاً ومؤسسات. هذا الكاتب اسمه إدريس الشرايبي. فأعماله الروائية الأولى الصادرة باللغة الفرنسية (الماضي البسيط) 1954 و(التيوس) 1955 و(الحمار) 1956 جاءت لتقطع بالرواية المغربية أشواطاً مهمة باتجاه حداثتها المنشودة. لا علاقة لشخصيات الشرايبي وموضوعاته بتلك الشخصيات المسكوكة والمواضيع الكلاسيكية التي ظلت الروايات العربية الأولى تدور في فلكها. وبقدر ما أثر الشرايبي في الطاهر بنجلون و محمد خير الدين وعبد الكبير الخطيبي، بل وفي كوكبة مهمة من الروائيين المغاربة بالفرنسية الذين جاؤوا بعده، بدا تأثيره واضحا كذلك على الجيل الجديد من الروائيين باللغة العربية الذين مكّنتهم معرفتهم بالفرنسية من فتح الرواية المغربية على أفق تحديثي يحتفي بالتجريب ويعنى بخصائص السرد الروائي الحديث. وهكذا أنجبت الرواية الجديدة باللغة العربية جيلا جديدا من العناوين: (لعبة النسيان) لمحمد برادة، (المباءة) لمحمد عز الدين التازي، (الجنازة) لأحمد المديني وأعمال أخرى بوّأت الرواية المغربية مكانة خاصة في صلب تحوّلات الرواية العربية الحديثة. لكن مرة أخرى، هل ظلت الرواية المغربية محصورة في هذه الثنائية اللغوية؟ على العكس، فالذين يعرفون الخصوصية الثقافية للشمال المغربي في ارتباطه التاريخي الوثيق مع إسبانيا منذ الزمن الأندلسي حتى فترة الاستعمار التي أثمرت، رغم الصراع السياسي والعسكري، تفاعلا فريدا ما بين النخبتين الثقافيتين المغربية والإسبانية في الشمال وفي مدينة تطوان تحديداً، يقدّرون أهمية هذه التجربة. ولعل من أهم ثمرات هذا التفاعل مجلة (المعتمد) التي أصدرتها بتطوان الشاعرة الإسبانية تيرينا ميركادير سنة 1947. لكن قبل ذلك كان رائد آخر وهو محمد بن عزوز حكيم قد أصدر سنة 1942، أي في نفس سنة صدور (زاوية) التهامي الوزاني، أول عمل سردي مغربي بالإسبانية (رحلة في الأندلس). لتتواصل إصدارات الأدباء المغاربة بالاسبانية خلال الزمن الاستعماري مع كل من عبد اللطيف الخطيب ومحمد التمسماني وعبد القادر الورياشي قبل أن يظهر جيل جديد بعد الاستقلال، من حفدة المورسكيين، نذكر من بين أبرز أسمائه محمد شقور، محمد بويُسف الركاب، محمد صيباري، محمد أقلعي، وسعيد الجديدي. هذا في الوقت الذي كانت كوكبة أخرى من الأدباء المغاربة اليهود تحتل فرعاً وارفاً من فروع شجرة الأدب المغربي. فموسى السرفاتي نشر أعماله بالاسبانية على غرار زملائه من أدباء تطوان، فيما فضل إدمون عمران المالح، الذي ناضل في صفوف الحركة الوطنية وكان عضوا قياديا في الحزب الشيوعي المغربي، الكتابة بالفرنسية. وإضافة إلى سيرته الذاتية الصادرة عن دار ماسبيرو بباريس سنة 1980 تحت عنوان (المجرى الثابت)، عزّز المالح حضوره القوي في مدوّنة الرواية المغربية بالعديد من الروايات الهامة (ألف عام بيوم واحد)، (أيلان أو ليل الحكي) و(آبنر أبو النور).لكن إذا كان إدمون عمران المالح قد اختار العودة إلى سيرته الذاتية كيهودي مغربي كافح من أجل استقلال المغرب ورفض مغادرة وطنه مفضلا الالتصاق به حارساً ثقافة اليهود وقيمهم من الاندثار في هذا البلد، فإن مغربياً آخر من بادية سوس الأمازيغية التحم هو الآخر بقضايا سكان جبال الأطلس في منطقة سوس وكتب رواية طريفة باللهجة السوسية عن ظروف الحياة الصعبة هناك وسط الجبال. هذا الروائي لم يكن سوى الشاعر الأمازيغي محمد مستاوي صاحب أول ديوان مطبوع باللغة الأمازيغية (إسكراف/ القيود) 1975. أما روايته الصادرة سنة 2005 فجاءت تحت عنوان (حجو غ البرلمان / حجو في البرلمان). وهناك أعمال روائية أخرى صدرت باللهجة الريفية في الشمال لكن محدودية توزيعها منعها من الانتشار، رغم أنها تظل جزءا لا يتجزأ من فسيفساء الرواية المغربية. بل حتى العامية ستتسرّب بالتدريج إلى المتن الروائي باللغة العربية من خلال حضورها بقوة في الحوارات التي بدأت تتعرض للمغربة في أعمال الستينيين، بالخصوص أعمال محمد شكري ومحمد زفزاف، رغبة من هؤلاء الأدباء في تأكيد خصوصية النص المغربي مقارنة بنظيره المشرقي. وسيتعزّز حضورها أكثر في روايات محمد برادة ويوسف فاضل قبل أن تصير اليوم لغة من لغات الرواية المغربية بعدما تصدّى العديد من الأدباء الشباب للكتابة بها. وفي هذا الإطار تميّز بشكل خاص الروائي الشاب عزيز الركَراكَي الذي أصدر حتى الآن أربع روايات بالدّارجة. ولأن شجرة الأدب المغربي سريعة التأقلم مع تغيّرات المناخ والمحيط، فقد وجدت لها مستنبتات في أكثر من جغرافية حيث يكتب أبناء الهجرة المغربية أعمالا روائية بقدر ما تعزِّز أدب اللغات التي تُكتب بها بقدر ما توسّع من مدار الفن الروائي المغربي وتعزّز حضوره العالمي. فالأهم في الرواية هو المتخيّل والذاكرة والوجدان. وهذه العناصر الثلاثة كانت مغربية إلى أبعد حدّ في روايات بنت مدينة الناضور نجاة الهاشمي صاحبة )أنا أيضا كطلانية) و(البطريرك الأخير( تماما كما عند زميلتها الفلمنكية، بنت إقليم الناضور هي الأخرى، رشيدة لمرابط صاحبة (بلد النساء) ثم في روايات صاحب (عرس على الشاطئ) عبد القادر بنعلي الكاتب الهولندي من أصل مغربي الذي ينحدر من نفس قرية محمد شكري صاحب رواية (الخبز الحافي) إحدى أشهر الروايات المغربية على الإطلاق. هذا دون أن ننسى نور الدين بلهواري صاحب رواية (الغريبة) بالألمانية أو الروائي بالإنجليزية المقيم في لندن عبد الإله كرين صاحب (الحصاد المرّ) وليلى العلمي صاحبة رواية (ابن سرّي). ليلى العلمي التي اختارت الكتابة بلغة شكسبير رفضا منها للغة الفرنسية التي فُرضت عليها كما فُرضت على زميلها فؤاد العروي الذي تابع دراسته في مدارس البعثة الفرنسية. لكن فؤاد انصاع للفرنسية ولم يجرب الكتابة بالهولندية إلا شعراً خلال إقامته في هولندا. إن شجرة الأدب المغربي المتعدّدة الجذور والمتفرعة الأغصان تزدان بحوض من فسيفساء أندلسية من اللغات والأشكال التعبيرية. بل إن جمالها يكمن في حركيتها وانفتاحها على الثقافات الأخرى وتماسِّها مع آداب هذه الثقافات. وإذا كنا قد توقفنا سريعاً عند الرواية في هذا التقديم، فالمؤكد أن نفس التعدُّد نجده في الشعر. فالشعراء المغاربة اليوم يسجّلون حضورهم في المحافل الدولية بمختلف اللغات والألسن: من محمد بنيس ومحمد بنطلحة وعبد الله زريقة وياسين عدنان وحسن نجمي الشعراء باللغة العربية، إلى عبد اللطيف اللعبي ورجاء بنشمسي ومحمد حودان وسهام بوهلال باللغة الفرنسية، ومصطفى ستيتو بالهولندية. بالإضافة إلى الشعر الأمازيغي الذي يكتبه اليوم شعراء متميزون بالتنويعات الأمازيغية الثلاث (محمد مستاوي، أحمد عصيد، الخ) حيث صار لهؤلاء الشعراء اليوم دواوين منشورة نجحوا من خلالها في نقل الشعر الأمازيغي الذي ظل مرتبطاً في الوجدان المغربي بالإنشاد والغناء إلى مجال الكتابة وسوق النشر. دون أن ننسى قصيدة الزجل التي تطوّرت وصار لها رموز نجد على رأسهم الشاعر أحمد لمسيح صاحب أول ديوان زجلي منشور سنة 1976. فيما يتواصل حضور الشعر الشعبي، الملحون في الحواضر المغربية العريقة والشعر الحساني في الصحراء، ليصل الماضي بالحاضر. فخصوصية الثقافة المغربية تكمن بالضبط في إنجابها شعراء يتغنّون بالناقة في الصحراء وآخرين يكتبون قصيدة النثر في أحدث نماذجها العربية في الرباط والبيضاء ومراكش وآخرين يثرون الشعرية المغربية بلسان هولندي لا يجد المغاربة أيَّ حرج في اعتماده لغةً أخرى من لغات الكتابة لدى هذا الشعب المجبول على التعدّد. والحقيقة أن انفتاح المغاربة على الثقافات ولغات الكتابة يوازيه أيضا نوع من الانفتاح على العالم وعلى الجغرافيات البعيدة. ولعل هجرة المغاربة إلى مختلف ربوع العالم: جنوبا وشمالا، غربا وشرقا يندرج في هذا الإطار. وإذا أخذنا بلجيكا فقط كنموذج سنلاحظ أن أدباء مغاربة من مختلف الأجيال والأجناس الأدبية وكذا مختلف لغات الكتابة استوطنوا هذا البلد واتخذوه مقاما ومستقرا لهم ومنه يرفدون الأدب المغربي بجديدهم، من محمد برادة صاحب (لعبة النسيان) ورائد التجريب في الرواية المغربية الحديثة الذي جاء إلى بروكسل صحبة زوجته ليلى شهيد سفيرة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي إلى علال بورقية الذي أثمرت إقامته ببروكسل منذ 1983 رواية (أبدية خالصة) مروراً بعيسى آيت بلعيز الروائي بالفرنسية والمقيم في لييج منذ السبعينات، هذا إضافة إلى أسماء أخرى تكتب الشعر والقصة القصيرة بالعربية مثل محمد الزلماطي وسعيد أونوس وعبد المنعم الشنتوف وغباري الهواري. هؤلاء يعيشون تحت نفس السماء البلجيكية الخفيضة مع زملائهم الكتاب من أبناء الهجرة المغربية من أمثال صابر عسال وليلى الهواري ومينة ولد الحاج بالفرنسية ونادية دالا ونعيمة البديوني بالهولندية. إن الأدب المغربي الحديث أدب متجدّد وباستمرار. وانفتاحه على اللغات والجغرافيات جعله يغتني بسرعة فائقة ويحقق إشعاعا لافتا في السنوات الأخيرة. لذا كان من المنطقي أن يحصل على جوائز عربية وعالمية (من الغونكور الفرنسية حتى الليبريس الهولندية). جوائز ترصّع أغصان شجرة الأدب المغربي المتحرّكة لتبدو مثل شجرة عيد الميلاد في اتجاهها بإصرار نحو الضوء والمستقبل. * نص تقديم العدد الخاص بالأدب المغربي للمجلة الأدبية البلجيكية باللغة الهولندية “ديوس إكس ماكينا”. العدد عرف مشاركة الأدباء المغاربة : عبد الفتاح كيليطو، محمد برادة، عبد الله زريقة، ياسين عدنان، لطيفة باقا، رشيدة لمرابط، محمد نضالي وآسية بلحبيب تلمساني.