-1- هذا المقال ليس بحثا في علم الاجتماع, ولا هو محاولة في علم النفس. إنه قول فيما قد يكون أو بقي من مفهوم مركزي في العلوم الاجتماعية معقد ومتحرك, ومكمن اختلاف بين العديد من أهل الاختصاص, فما بالك بمن يستخدمه للتعبير تجاوزا عن طبيعة هذه "الطبقة الاجتماعية", أو لملامسة أشكال احتكامها وتحكمها في مصادر السلطة والثروة والجاه. ومع أن المفهوم غير ثابت المضمون والمكونات, ومحكوم بسياق الزمن والمكان هنا أو هناك, فإن المؤكد أنه إنما يعبر عن توزيع المصادر المادية والامتيازات اللامادية, وفق مقاربتين أساسيتين اثنتين: °- الأولى وتحدد مفهوم النخبة قياسا إلى اعتبارات الانتماء بالولادة أو بالسلالة, ثم بالوراثة التلقائية المترتبة عن ذلك لثلاثية الثروة والسلطة والجاه, أو على الأقل لفرع من فروعها. °- أما الثانية فتتأسس, على النقيض مما سبق, على الفرد وعلى الاجتهاد الفردي, من كفاءة ومثابرة وإلحاح, عوض الارتكان إلى الميراث المتأتي من النسب, أو الثروة الآتية من السلالة أو الجاه المبني على الانتماء أو ما سوى ذلك. وعليه, فإن للمفهوم مضمون سلبي واضح, يقيس النخبة بالبناء على اعتبارات اجتماعية تنتج أو تعيد إنتاج الثلاثية المذكورة أعلاه. وله بالآن ذاته مضمون إيجابي جلي, بحكم انبنائه على عنصر القدرة والكفاءة والجهد والإلحاح لضمان النجاح, ثم تبوء الصدارة, ثم ولوج "عالم النخبة" كمحطة نهائية لهذه الصيرورة. نحن هنا إذن بإزاء تصورين لمفهوم النخبة: تصور يجعل من النخبة "معطى طبيعيا", تتنقل بمقتضاه المغانم المادية والرمزية بين السلالة الواحدة, وتصور يعتبرها نتاج بناء اجتماعي, للفرد بصلبه إمكانيات ولوج عالم "الصفوة" بجهده وكفاءته ومثابرته. ومع ذلك, فإن الشائع في الأدبيات أنه بصرف النظر عن التمييز السابق, فإن الذي يجمع مكونات النخبة إنما عنصرين اثنين: عنصر القوة النابع من التحكم في روافد الثلاثية المذكورة, و عنصر الهيمنة أو التطلع للهيمنة الذي يترتب عن ذلك بديهيا ومن باب تحصيل الحاصل. هذه الأبعاد تبدو مستقلة في مساراتها وتموجاتها, لكنها غالبا ما تأخذ من السلطة محورا لها, فتتمظهر (الأبعاد أقصد) في المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية, لتطال الأبعاد الأخرى للهيمنة, أعني البعد الثقافي والتربوي والإعلامي وما سواها. وعليه, فالنخبة لا تبقى هنا لحمة واحدة موحدة, بل تتحول إلى مكونات نخبوية, وفق جهة الانتماء التي ينشدها هذا الفصيل من النخبة أو ذاك (نخبة رجال الأعمال, نخبة الموظفين, نخبة المحامين, نخبة المثقفين وهكذا). بالتالي, لا يبقى مفهوم النخبة حكرا على رجال السياسة, كما الحال بالقائم من اعتقادات, بل يتعداه إلى مجالات يحتكم أصحابها أو الفاعلون بها, على مصادر في السلطة أو في الثروة أو في الجاه, أو فيها معا بهذا الشكل أو ذاك. إنها نخب "مستقلة" في مظهرها وإلى حد بعيد, لكل منها مواردها ومصادر قوتها ورمزيتها, لكنها تنتظم في علاقات ارتباط وترابط وتبعية أيضا, وفق طبيعة العلاقات المنسوجة, ومواقع كل واحد منها, وأيضا وفق ما ينسجونه من روابط وحميمية فيما بينهم, بالنوادي أو بالحفلات أو باللقاءات العائلية, أو بالمصالح التي يتبادلونها كل وفق موقعه الخاص. للمسألة إذن بعدان أساسيان: بعد عام, يستوجب من أي فصيل في النخبة أن يكون له موقع تراتبي ضمن الهرم العام, وبعد خاص يفترض في أي فرد أن يبلغ مستوى محددا, حتى يضمن الاعتراف به من لدن النخبة الفئوية التي ينتمي إليها, ثم من لدن النخبة الناظمة لكل ذلك. -2- إن الغرض مما سبق من حديث ليس التساؤل في مفهوم النخبة بالمغرب, أو النظر في مدى ملاءمة هذا المفهوم "لعلياء القوم" من بين ظهرانينا. ليس هذا هو الغرض. الغرض إنما إبداء بعض الملاحظات العامة, حول ماهية وسلوك هذه "الطبقة", ومدى تجاوبها مع مفهوم يسري عليها حتى وإن كان منشؤه بعيدا عنها: °- الملاحظة الأولى: لا تتوفر لدينا معطيات تاريخية مدققة, من شأنها إثبات وتطويع مفهوم النخبة لقراءة حركية وتموجات ثلاثية الثروة والسلطة والجاه بالمغرب. صحيح أنه كان ثمة دائما أفرادا وجماعات يحتكمون ويتحكمون في عناصر ذات الثلاثية بهذا الشكل أو ذاك, لكنهم كانوا محددين وعلاقاتهم محدودة, وأدوارهم غير ذا قيمة تذكر. وصحيح أيضا أن الإرث والنسب كانا عنصران جوهريان في تحديد جهة انتماء هذا المكون من النخبة أو ذاك (ملاك أراضي أو تجار كبار أو موظفي بلاط...الخ), لكنهم لم يكونوا يتوفرون على اللحمة التي تجمعهم, أو تشد من عضد أعضائهم, أو تمنحهم ميزة ما, بوجه ما يملكه المستوى السياسي من ميراث وجلد وقوة. هذه حقيقة ثابتة بتاريخ المغرب القديم, وثابتة أيضا بالتاريخ الحديث والمعاصر, إذ ليس ثمة ما يؤشر على ترابط رجال السياسة أو المال أو الأعمال أو الثقافة أو الفن, اللهم إلا بعض من علاقات الدم والمصاهرة والقربى, وروابط المصالح التي لا تعمر طويلا, أو هي متقلبة تقلب السياسة والتحالفات الانتهازية التي لا تؤسس للقاعدة. °- الملاحظة الثانية: إذا كان الأصل في اعتماد مفهوم النخبة بالمغرب هو الإرث والنسب, المفضيان حتما لتراكم الثروة وبلوغ مستويات النفوذ, فإن مكون الكفاءة والمثابرة والاجتهاد غالبا ما لم يقس عليه, أو يعتد به للخلوص إلى نتائج. إن نظام الزبونية والمحسوبية وسيادة ثقافة الإرضاء, على أساس من الانتماء السياسي أو القبلي أو اللغوي أو ما سواها, هي التي فسحت ولا تزال تفسح في المجال لهذا الشخص أو ذاك, لإدراك مراتب الاغتناء السريع, ذي الطابع الريعي الصرف في العديد من الحالات, بدهاليز المؤسسات العمومية, كما بامتيازات الرخص, كما بالعطايا العينية, كما بالتفويضات وغض الطرف عمن تؤول إليه كبريات الصفقات العمومية والخاصة. إن الذين ولجوا "مجال النخبة" من هذا الفصيل, لم يستمروا من بين ظهراني المجال إياه كثيرا, بحكم تعذر التأقلم وقوة المنافسة. أما الذين استمروا به, فلكونهم انصاعوا وانبطحوا, واكتفوا بالدرجات الدنيا داخل هذا المجال, أعني اكتفوا بمرتبة النخبة من الدرجة الثانية. إنها عناصر دخيلة على "النخبة/الأصل" (النخبة بالنسب والإرث تحديدا). قد يخترقون المجال الذي تشتغل به هذه النخبة, لكنهم لا يستطيعوا أن يعيشوا طقوسها, أو يماشوا ثقافتها, أو يتماهوا في سلوكهم مع سلوكها. °- الملاحظة الثالثة: إذا كان صحيحا أن ثمة بالمغرب, ولو بالتجاوز, نخبا وليس نخبة واحدة, موحدة ومتجانسة, فإنها لا تتمايز كثيرا عندما يتعلق الأمر بنزوعها الطبيعي للفساد والإفساد. إنها تقتات منه, تعيش على مائه وهوائه, بل قل إنها لا تستطيع الاستمرار في مراكمة الثروة والسلطة والجاه إن هي لم تتكئ عليه وترتكز على مقوماته. إن إقبالها وقابليتها على الفساد والإفساد لا يضاهيان, لا تعرف إلا مصالحها الذاتية الضيقة, وليس لها أدنى معرفة بما هي المصلحة العامة أو ماهية الوطن. وهذا أمر طبيعي, إذ لا قيمة للوطن من بين ظهراني من له أكثر من جنسية وأكثر من جهة ولاء. وهل ثمة معنى للمصلحة العامة أو لمفهوم حب الوطن في ذهن رجل لقيط, أجذب, لا حدود لجشعه, يعمل على إقامة سدين بضواحي مدينة تيفلت, على حساب ماء وكلئ دواوير فقيرة ومعدمة... ومن أبناء قبيلته فضلا عن ذلك؟