كشفت أحداث تونس عن ثلاث حقائق: الأولى هي أن النظام الأمني لزين العابدين بن علي تعرض لهزة كبيرة. والثانية أن بن علي بات ضد الجميع، فباستثناء العائلة الحاكمة، تقف فئات الشعب التونسي في الاتجاه المعاكس. والثالثة أن النظام لم يعد قادراً على تطويع التونسيين. حقائق انتفاضة تونس: ضعف قبضة النظام يروي موريس إيغلبرغر، وكيل وزارة الخارجية الأميركية في ولاية رونالد ريغان الثانية، أن واشنطن كانت مشغولة بتطورات الوضع في تونس خلال عام 1987، حين بدأت تظهر على حكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة علامات الوهن والتخبط وصراع الأجنحة. ويقول في مذكراته إن فريقاً أميركياً متخصصاً كان يبحث مجموعة من الأسماء التي يمكن أن تخلف الرجل العجوز. وحين ساد جو من الحيرة، نطق أحدهم بالحكمة الذهبية: «الوضع لا يبعث على الخوف، حتى زين العابدين بن علي يمكنه أن يكون البديل». يعرف الأميركيون بن علي جيّداً؛ فهو سبق أن التحق بدورة عسكرية في المدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في بلتيمور بالولاياتالمتحدة، وتسلم بعد انتهائها الأمن العسكري التونسي. لكن الرجل، الذي يكنّ وداً خاصاً للأميركيين، لم يطلعهم على نياته بشأن انقلاب السابع من تشرين الثاني 1987، وكانت الأجهزة الإيطالية هي الوحيدة التي علمت بالاستعدادات للانقلاب وساعدت عليه. وتقول أوساط تونسية معارضة إن رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق بتينو كراكسي أوفد فريقاً للتنسيق، بقيادة عريف في الاستخبارات الإيطالية. وهذا ما يفسر اختيار كراكسي اللجوء إلى تونس، حين لوحق بتهم الفساد في إيطاليا، وقد بقي هناك حتى توفي سنة 2000 في مدينة حمامات. بنى بن علي نظامه على الشرطة السياسية، واستعان بخبرات إيطالية ومصرية وأميركية لاتينية مختصة بتصفية الحركات المعارضة. وقدّرت أوساط أوروبية تعداد جهاز الأمن السري بمليون شخص. وبرز هذا الجهاز في جميع مفاصل حياة التونسيين السياسية والاجتماعية والثقافية. والسمة البارزة له هي الفظاظة والعنف. وكان يتصرف من دون ضوابط وعلناً، ويقوم بعمليات خطف واعتداء على معارضي النظام ومنتقديه. وهناك حوادث مشهودة ضجت لها الأوساط الدولية، مثل حال الصحافي توفيق بن بريك والمحامية راضية النصراوي والأمين العام لحزب الاتحاد الديموقراطي الوحدوي عبد الرحمن التليلي، الذي استطاع جمع المعارضة القومية بشتى تشكيلاتها في حزب واحد، والمعارض الإسلامي علي العريض، الذي اعتُدي عليه جنسياً في السجن، وصُوِّر ووُزِّع شريط مصوّر للعملية لتشويه صورة حركة النهضة الإسلامية، التي كانت تحظى بتعاطف ورصيد جماهيريَّين. الملاحظ اليوم أن الهرم الأمني، الذي بناه بن علي، تعرض لهزة كبيرة، ولم يتمكن من احتواء الانتفاضة الشعبية التي اتسع نطاقها، وتمددت رقعتها على كامل التراب التونسي. وهذا هو العنصر الأساس والجديد. ما يجعلها مختلفة عن كل التحركات الاحتجاجية التي واجهها نظام بن علي طوال 23 سنة. وتمتاز الأحداث الحاليّة عن انتفاضة مدينة قفصة مطلع سنة 2008 بأنها حركت الشارع التونسي بكافة فئاته من حول المطالب الاجتماعية الاقتصادية. والدليل على خطورة الموقف أن بن علي اضطر إلى توجيه خطاب متلفز يصبّ فيه غضبه على الحركة الاحتجاجية. جذر الانتفاضة الحالية، وتلك التي سبقتها في قفصة، واحد، يتمثل في التحرك ضد الفقر والبطالة والتمييز المناطقي. لكن الأحداث الحالية أخذت بعداً سياسيّاً في الأيام الأخيرة، وبرز ذلك من خلال مشاركة الأوساط النقابية وجمعيات المحامين والنساء والمثقفين، وحتى الأوساط الاقتصادية من رجال أعمال ومهن حرة. وليس من الواضح حتى الآن، ما إذا كان هذا الزخم الإضافي للهبّة الشعبية سيدفع المواجهة نحو أفق جديد، لكنه كشف عن مسألتين: الأولى هي أن الكل بات ضد بن علي. من جهة يقف النظام واجهزته، ومن جهة أخرى الشارع والقوى النقابية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إذ بدا واضحاً أن الدائرة التي رسمها بن علي حول نظامه بدأت تضيق عليه. والمسألة الثانية أن النظام مرتبك وعاجز عن احتواء الموقف، ولا يملك حلولاً سوى العصا الغليظة التي سقطت هيبتها بعد أسبوع، وصار واضحاً أن التونسيين كسروا جدار الخوف الذي بناه النظام البوليسي من حولهم. السؤال المطروح اليوم قائم على البديل في حال انهيار نظام بن علي، وبالتالي ماذا سيكون موقف الأصدقاء، هل يهرعون لنجدته إذا ضاق من حوله الخناق الشعبي، أم يتركونه وشأنه؟ البديل الوحيد الجاهز للنظام هو من داخله. وليس سراً أن زوجة الرئيس، ليلى الطرابلسي، تعدّ نفسها لخلافته، فالأوساط الغربية تتكلم في هذا الأمر صراحة منذ سنوات، وهناك ترتيبات اتُخذت في هذا الصدد، لتكون «الحلّاقة» السابقة، كما يلقبها الشعب التونسي، وريثة لزوجها، الذي يعاني جملة أمراض، منها مرض القلب، الذي سبق له أن عالجه للمرة الثالثة في تشرين الأول سنة 2009. بالنظر إلى تداعيات الانتفاضة الشعبية، والنتائج التي ستترتب عليها، لن يكون لهذا البديل جدوى أو فاعلية، ولن يؤدي ظهور ليلى على خشبة المسرح إلا إلى تأجيج النار وتعقيد الموقف، فجزء من الشعارات التي رفعت في التظاهرات الاحتجاجية كان من نصيبها: «يا ليلى يا حجامة (حلاقة) ردي فلوس اليتامى». هناك من يُغلّب في تونس نظرية بديل الظل. وهذا البديل لن يأتي، على ما يبدو، إلا من داخل المؤسسة العسكرية. وهو في جميع الأحوال لن يكون من صنع الداخل، بل من توليد الأطراف صاحبة المصلحة وراعية مشروع بن علي، أي الولاياتالمتحدة وإسرائيل. مشروع بن علي لخصه حاخام تونس، حاييم بيتان في أيلول الماضي، عندما ناشد الرئيس الترشح لولاية رئاسية سادسة بقوله: «في عهد بن علي تطورت البلاد والعقليات وتجاوزت تونس محناً عصفت بالعالم جراء نزاعات حضارية وثقافية، وكانت بلادنا بمنأى عنها بفضل الرؤية المستنيرة لحامي حمى تونس». والرؤية المستنيرة، التي بنى عليها بن علي مجده، هي تصفية الحركة الإسلامية، في ظل حرب الولاياتالمتحدة على الإرهاب. «الحلّاقة» صاحبة الطموح الرئاسي تصرّ ليلى الطرابلسي أن يلقّبها الإعلام ب«السيدة الفاضلة» وسيدة تونس الأولى، بينما يطلق عليها التونسيون «الحلّاقة»، ليس للإشارة إلى مهنتها القديمة، بل للتعبير عن استخفافهم بها جاءت في غفلة من تاريخ تونس، مثلما ظهر زوجها خلال لحظة شكسبيرية في مأساة احتضار البورقيبيّة. بمجرد أن احتل زين العابدين بن علي قصر قرطاج في ليلة السابع من تشرين الثاني سنة 1987، فتح لها الأبواب الرئيسية، وصارت زوجته الشرعية، بعدما كانا يعيشان علاقة سرية بعيداً عن الأنظار، دامت سنوات عدة. كان التونسيون لا يكادون يمرون على ذكرها قبل أن تصبح سيدة قرطاج، وتبدأ بالظهور العلني المصحوب بهالة كأنما هي «سلامبو»، سليلة المجد الفينيقي. تجاهلها المجتمع التونسي حين كانت خليلة الجنرال السرية، وأنيسة لياليه وحافظة أسراره، لكنها بدأت تثير حفيظة الأوساط، عندما انتزعت لقب السيدة الأولى. رفضها الوسط المحافظ لأنها حلت محل الزوجة السابقة لبن علي، ابنة الجنرال الكافي، التي ولدت له ثلاث بنات، وطلّقها عملاً بالقانون التونسي الذي يحرّم تعدد الزوجات، رغم أنه يدين لها بكل شيء، فوالدها هو الذي فتح أمامه طريق المؤسسة العسكرية. وثمة تشابه بين مسيرة ليلى الطرابلسي، ووسيلة بن عمار، زوجة الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، المعروفة بلقب «الماجدة»، التي كان لها نفوذ واسع قبل أن يطلّقها بورقيبة في سنواته الأخيرة. فهاتان السيدتان في نظر شريحة تونسية ليستا جديرتين بالجلوس في قصر قرطاج، فهما من بيئة شعبية. وإن كان المجتمع التونسي قد غفر لوسيلة بفضل بورقيبة، رجل التحديث الآتي من السوربون، فإنه لم يستطع أن يحتمل ليلى الطرابلسي، التي كان جزء من هفواتها ينسب إلى بن علي، والقسم الأكبر من سلوكيات بن علي النافرة يُرمى على ظهرها. لا يحتاج المراقب إلى معرفة دقائق الأمور لكي يحكم بأنّ السيدة بن علي، تتدخل بطريقة واضحة في الشأن السياسي، على الأقل بالنسبة إلى الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة في سنة 2009، فقد أشارت تقديرات أوساط إعلامية تونسية إلى أنها حظيت بحضور إعلامي، وبتغطية لنشاطاتها، في التلفزيون والإذاعة، يفوق كل ما حصلت عليه المعارضة مجتمعة. تقول سيرتها غير المكتوبة إنها ولدت سنة 1957، أي إنها تصغر الرئيس بواحد وعشرين عاماً، وهي ابنة بائع خضروات من مدينة تونس. وبعد حصولها على الشهادة الابتدائية، تدربت على الحلاقة، وهي المهنة التي بدأت بها مسيرتها نحو قصر قرطاج. وبعد زواجها الأول، الذي لم يدم طويلاً، تعرفت إلى زين العابدين بن علي عندما كان مديراً للأمن الوطني، الذي سبق له الزواج بابنة الجنرال الكافي. مجتمع المخمل، وعلى الأخص عالم الموضة، يعرف ليلى بن علي، ويعرف نزواتها وقوتها التدميرية. السيدة، التي تعشق الملابس الباذخة والقفاطين (معطف ب30 ألف يورو، قفطان ب6 آلاف يورو)، لا تحبّ كلمة «تسديد ثمن». وتستعين، كما يفعل كثير من الحكّام في مثل هذه الحالة، بقسم الضرائب، القوة الضاربة، سيف الله المُسلَّط على العباد متى شاء خليفته على الأرض. لا ينحصر حضور السيدة الأولى في الحفلات الخاصة، وفي ارتداء الملابس الفاخرة وفي تصفيف الشعر، بل يتعداها إلى التدخل في كل الاستثمارات في البلد وفي قول رأيها في التعيينات الحكومية، وحتى في نشر الثقافة، على غرار زميلتها سوزان مبارك. ولعل إغلاق الجامعة الحرة (1500 طالب، معظمهم من الدول الفرنكوفونية) التي يديرها التونسي الفرنسي محمد بوصيري، بدعوى: «مخالفات إدارية وبيداغوجية اكتُشفت في هذه المؤسسة»، التي فنّدها مدير الجامعة بالقول إن إغلاقها كان لأسباب سياسية بحتة، وجاء ردّاً من زين العابدين بن علي على كِتاب أصدره مدير الجامعة عدّه النظام قاسياً، يأتي ضمن هذه الاستراتيجية التي تعوّل عليها زوجة الرئيس لتثبيت سلطتها في مختلف القطاعات. ألَيْست مُدهِشةً هذه الرغبة المفاجئة التي انتابت زوجة الرئيس في تشييد مدرسة حرة لتكوين المهندسين بالتعاون مع مدرسة فرنسية؟ أليست هذه المدرسة العليا بديلاً عن الجامعة الحرة التي يجري ذبحها؟ وهناك قناعة سائدة في أوساط تونسية وغربية بأن وسيلة لو ولدت من بورقيبة لتغيّر تاريخ البلاد، وأنّ بن علي ما كان له أن يصبح رئيساً للوزراء لو ظلت وسيلة إلى جانب بورقيبة في قصر قرطاج قبل أن يطلّقها. يشير كتاب «حاكمة قرطاج... يد مبسوطة على تونس»، إلى تشابه آخر بين ليلى ووسيلة، كأنّ التاريخ يعيد نفسه، فليلى وعائلتها تستعدان للسيطرة على البلاد، كلما تراخت يد بن علي بسبب المرض والشيخوخة، وهو بالضبط ما حدث للرئيس السابق الحبيب بورقيبة في آخر سنواته. تتحدث الأوساط التونسية منذ عدة سنوات عن تعاظم نفوذ ليلى بن علي، وعن صعود الكثير من الأسماء، مثل سليم شيبوب، وهو صهر للرئيس، والهادي الجيلاني، الذي تعزّز حضوره أكثر من خلال المصاهرة التي عقدها مع عائلة الطرابلسي، وصخر الماطري الذي صعد بسرعة كبيرة. ويؤكد المطّلعون على أنّ أفراد عائلة الطربلسي هم الأقوى من ناحية الثروة، والهيمنة على الكثير من القطاعات الاقتصادية والتجارية، وكذلك المجال الإعلامي، ومن يسيطر على المال والإعلام يسيطر على السياسة. وهناك إجماع على أنّ من يدير هذه الحلقة هو ليلى بن علي صاحبة الطموح الرئاسي، التي لم تجد صعوبة كبيرة في صعود طريق العمل السياسي. ليلى بن علي تحكم اليوم من وراء الكواليس مثلما كانت تفعل الوسيلة، التي فوجئت بانقلاب بن علي سنة 1987. قد تتكرر هذه المفاجأة مرة أخرى مع ليلى طرابلسي، والتاريخ عادةً يكرر نفسه، إما على شكل ملهاة أو مأساة. صحيفة الوسط التونسية