الحكايات عن أطفال رضع يرمون في حاويات القمامة ومطارح الأزبال، أو في أحسن الحالات يوضعون أحياء أمام أبواب المساجد أو البيوت ملفوفين، كانت أسرارا منبوذة إن تم كشفها أسقطت الحجاب عن صورة المجتمع المغربي في مرآة حقيقته المتشظية. هي حكايات لطالما اجترتها العائلات المغربية وما زالت في سوق الأحاديث المثيرة التي تحيل على أحد أكبر التابوهات في مجتمع محافظ ذو ثقافة متأتية من الدين الإسلامي. إنه تابو العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج. هذه الحكايات التي تنسج من وحي الواقع عن أرواح تزهق، ونساء ينتحرن، يدخلن السجن أو يصرن منبوذات وتلاحقهن الألسن في عرضهن مدى الحياة، يتم تداولها داخل الأسر للإيحاء للأجيال الصاعدة، خاصة الفتيات، باللعنات التي تصيب من تتجرأ على إقامة علاقات جنسية بعيدا عن رضى الوالدين والقانون والدين. فما الذي جعل هذا الموضوع في الآونة الأخيرة، يطفو بقوة على صدر الصحافة المغربية ويحمل عنوان الصدمة الكبيرة على صفحات الصحف وفي منابر إعلامية مختلفة ويسيل الكثير من مداد المحللين السوسيولوجيين والمهتمين بقضايا المرأة والطفولة وحتى رجال الدين والقانون؟ خمسون ألف مولود يطرقون باب الحياة في المغرب، رقم كبير ومهول؟ بل رقم صادم. هكذا تم التطرق للموضوع في الإعلام المغربي. ليس بسبب الرقم في ذاته بل لأن هؤلاء الوافدين كسروا طوق العادة والشرع والقانون. مولودون خارج إطار الزواج. مهاجرون سريون نحو الحياة لم يحصلوا على إذن ليصرخوا صرختهم الأولى. إذن يمنحه المجتمع من خلال توثيق عقد الزواج، البوابة التي عبرها يجب أن يأتي الأطفال إلى العالم في منظور الشرع والقانون ومن ثم المجتمع. خمسون ألف طفل زيادة كل سنة لو أن الأمر يتعلق بالعبء الاقتصادي والتربوي لم يكن ليشكل خبرا كبيرا على صفحات الصحف، لكنه عبء «أخلاقي» وقانوني ونفسي، كل يراه من الزاوية التي يقارب منها ما أصبح يشكل ظاهرة في نظر بعض المحللين. حقيقة الرقم تهويل أم تبخيس؟ صحيفة «لوموند» الفرنسية، التي أثارت الموضوع في تقرير لها صادر في السادس عشر من اذار/مارس الماضي، أوردت الرقم على لسان «جمعيات» من دون تسمية مصدر محدد يمكن التحقق منه، وأوردت كذلك أن معدل 24 رضيعا يتم التخلي عنهم يوميا و300 يتم العثور عليهم سنويا في أكوام القمامة في الدارالبيضاء، وهي أكبر مدينة مغربية تضم زهاء ستة ملايين نسمة حسب آخر إحصاء رسمي سنة 2014. وأوضح التقرير الذي أدرج شهادات عدد من الأمهات العازبات، أن الخوف من السجن وانتقام الأسر هو ما يدفع العديد من الأمهات للتخلص من أطفالهن، أما اللواتي يمتلكن القوة للاحتفاظ بأبنائهن فيجب أن يكن مستعدات لمواجهة قسوة المجتمع. في غياب أرقام رسمية تبقى أرقام جمعيات المجتمع المدني المصدر الوحيد لمقاربة الحجم الذي بلغته الظاهرة، مع كل ما يثيره ذلك من محاذير الوقوع في التهويل أو التبخيس إن لم تكن الأرقام مستقاة بطرق تحترم معايير الدقة والموضوعية. عائشة الشنا، رئيسة «جمعية التضامن النسوي» في المغرب وهي جمعية غير حكومية تعنى بالأمهات العازبات، قدرت في حديث لها مع «القدس العربي» استنادا لدراسة نشرتها العصبة المغربية لحماية الطفولة بشراكة مع «يونيسيف» (منظمة الأممالمتحدة للطفولة) في فترة تعود لما يقارب عشر سنوات خلت، أن عدد المولودين يتراوح حوالي 153 مولودا يوميا أي ما يفوق 55000 ألف مولود سنويا. وآخر ما تم الإدلاء به من أرقام تتعلق بالموضوع كانت قد أدلت بها جمعية «إنصاف» المدافعة عن حقوق المرأة والطفل (غير حكومية) في دراسة تخص فقط مدينة الدارالبيضاء حيث قالت أن حوالي 44000 طفل مولود خارج إطار الزواج تم تسجيلها في هذه المدينة، أي بمعدل 3366 طفلا سنويا تقريبا. لا جديد من ناحية الأرقام، ورقم 50000 الذي طغى على عناوين الصحافة المغربية في صيغة الصدمة بعد تقرير الجريدة الفرنسية سبق وتم الإدلاء برقم أكبر منه من جمعيات مغربية في سنوات مضت. وبغض النظر عن دقة الرقم، فأصوات كثيرة تقول بتفشي الظاهرة في المغرب ومن ثم تقفز للذهن الإشكالية المثيرة، كيف يحدث هذا في بلد يحرم العلاقات الجنسية خارج الزواج بل يعاقب عليها بالسجن، وهو ما جاء في نص تقرير «لوموند» الذي قال «في المغرب حيث العلاقات الجنسية خارج الزواج والإجهاض ممنوعين، خمسون ألف ولادة خارج إطار الزواج يتم تسجيلها سنويا». خمسون ألف ولادة خارج مؤسسة الزواج «رقم صادم يستوجب تحركات مستعجلة» هكذا يعلق عبد العالي الرامي، رئيس «منتدى الطفولة» معتبرا أن الرقم هو بمثابة ناقوس إنذار عن أمور عميقة تعتمل داخل المجتمع المغربي، وهو لا يخفي أن هذه الأرقام قد تكون عشوائية، لأن الواقع في نظره يشي ربما بأرقام أكبر من خلال المعاينة اليومية لمختصين وخبراء يحتكون بالظاهرة، مؤكدا أنه حان الوقت للوقوف بحزم على الأسباب الكامنة وراءها. «أرواح تزهق يوميا» يقول في إشارة منه إلى أن غالبية هذا النوع من الولادات تتم خارج المؤسسات الاستشفائية تفاديا للحرج الاجتماعي، خاصة في حالات الاغتصاب والولادات غير المرغوبة، ما يعرض حياة الطفل والأم للخطر. «الأمهات العازبات» مصطلح «الأمهات العازبات» حديث والأم هي الأم الشرعية التي تلد في إطار الشرعية والزواج المعترف به اجتماعيا ودينيا. «إنها ظاهرة مقلقة خاصة في مجتمع محافظ ولم يتعود على مثل هذه الظواهر من الناحية الأخلاقية والدينية والاجتماعية». هكذا يرى علي الشعباني، أستاذ علم الاجتماع، معتبرا أن هاته التحفظات تجعل المغربي ينظر للطفل المولود خارج الزواج ولأمه (دون أن يشير للأب) نظرة الرفض وعدم القبول. وهو موقف طبيعي في نظره لكون المجتمع المغربي لا يتقبل العلاقة الجنسية خارج الزواج. وبالتالي فالأطفال الناجمون عنها، هم أبناء «زنا» والزنا حرام، ومن هنا يطلق على هؤلاء الأطفال «لقطاء» أو «أبناء حرام» وأن هذه الأم ارتكبت الفاحشة فهي إذن «زانية» ومن هنا يكون ذلك الموقف القاسي أن تصبح الأم منبوذة وقد تتعرض للطرد من البيت ومن الحي بأكمله. «الأمهات العازبات» مصطلح حديث. لم يكن له أثر في الكتابات المغربية القديمة. يقول موضحا أن المفهوم ظهر مع بعض الجمعيات المغربية التي بدأت تدافع عن حقوق هؤلاء النساء. وهي تركز على حالات بعينها كالاغتصاب وزواج القاصرات، لأنه عادة ما تؤدي ظروف اجتماعية ملتبسة ومعقدة إلى ولادة أطفال خارج الزواج، يقول الشعباني، الذي يرى أن هذا المفهوم وإن كان قد صار مقبولا من الناحية المؤسساتية فإنه يظل مرفوضا اجتماعيا، لأنه في قاموس المجتمع المغربي ليست هناك أم عازبة، الأم هي الأم الشرعية التي تلد في إطار الشرعية والزواج المعترف به اجتماعيا ودينيا. ومهما تحدثنا عن الحداثة واقتبسنا من الثقافات والحضارات الأخرى، يبقى المجتمع المغربي محافظا وتقليديا، يردف، مشيرا إلى أنه حتى في حالات العلاقات الجنسية الرضائية، فهذا المفهوم تتداوله فئة محدودة فلا القانون ولا الدين يشمل بالرضى تلك العلاقات. عائشة الشنا، البالغة من العمر 77 سنة والتي أمضت أكثر من ثلاثة عقود في الدفاع عن حقوق الأمهات العازبات وأطفالهن، وواجهت حملات تشهير ضدها، بين من يعتبرها تشجع على الفاحشة وتمس تقاليد المجتمع المغربي وبين من ذهب بعيدا في اتهامها، ما زالت تجوب المغرب طولا وعرضا لحث النساء والشباب على ضرورة امتلاك ثقافة جنسية لحماية المجتمع، حسب منظورها، من عواقب الولادات خارج إطار الزواج ولدرء معاناة قانونية ونفسية واجتماعية عن هؤلاء الأطفال وأمهاتهم خاصة. تقول ل«القدس العربي»: «أنا لا أدعو إلى الحرية الجنسية بالمفهوم الغربي، أقول أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار الأصول المغربية وهذا لا يتنافى مع أن نوفر لأبنائنا تربية جنسية» وتشدد على أنها لا تراهن على السياسيين وتتجه للمجتمع مباشرة حيث يكمن المشكل، تقول «لا أنتظر شيئا من السياسيين هم لا يعيرون اهتماما لهؤلاء الأطفال، الحل عند الشباب ويجب تغيير العقليات». وتحكي أن المقابلات الكثيرة التي أجرتها مؤخرا، في عدد من المدن المغربية في مدارس وجامعات، لقيت ترحيبا وإصغاء من الشباب، خاصة حينما يكتشفون، على حد قولها، أن إثارة موضوع العلاقات الجنسية تتم بطريقة تربوية قصد التوعية وفتح أعينهم على عواقب الانجرار وراء الشهوة والرغبة في سن يتميز بتغيرات جسمانية وهورمونية كبيرة. وهي تلوم فئة من المجتمع التي تعاقب أطفالا لا ذنب لهم بنظرة انتقاصية واحتقارية حينما يسمون أطفالا جيء بهم دون مشورتهم «أبناء زنا» أو «أولاد حرام» ولا يدخرون أوصافا قدحية لنعت الأم كذلك. «هذه المرأة لم تأت بهذا الطفل وحدها، بل مع رجل، وتتحمل في الأخير مسؤولية صعبة لوحدها، قد تضحي بدراستها وعملها وتصبح منبوذة في المجتمع» تقول الشنا وهي تعود إلى عقود من الزمن، حيث تقول أن المجتمع المغربي لم يكن يجرم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، فالعديد من الزيجات تمت فقط بقراءة الفاتحة دون عقد، لكنها تؤكد على أن القبيلة كانت تصير شاهدا على تلك العلاقة ما يمنحها شرعية اجتماعية، بل وتقول كذلك أن الأطفال الناجمين عن تلك العلاقة لم يكونوا في نظر الناس «أولاد حرام» بل «أبناء الرضى» مستعيرة التوصيف من جدها الذي توفي سنة 1932 وهو رجل دين تخرج من جامعة القروييين، مردفة أن أطفال هذه العلاقة كانت حقوقهم محفوظة: «أجدادنا لم يكونوا يرمون أطفالهم، وكان الطفل المولود خارج الزواج يرث من أبيه» متسائلة ما الذي غير العقليات اليوم حتى صار مصير هؤلاء الأطفال حاويات القمامة؟ التحولات التي عرفتها الذهنيات المغربية حسب ما توضح من خلال وقائع تاريخية تقول انها هي التي أملت تسمية الأم التي لا تتوفر على عقد زواج «أما عازبة» وأنه من باب حمايتها صار واجبا إن لم يرغب الأب في الزواج منها، القيام بتحليل الجينات كي يستفيد الطفل من نسب أبيه وتتم حماية حقوقه الاجتماعية. من الموت أو الوأد الاجتماعي «نحن ندعو لتفعيل أكثر لاختبار الحمض النووي لإعطاء النسب للأطفال المولودين خارج إطار الزواج ولتفادي عشوائية الأنساب»، يقول عبد العال الرامي، رئيس منتدى الطفولة ل«القدس العربي» مؤكدا أنه وإن نجا الطفل والأم من الموت أثناء الولادة في شروط غير صحية، لأن عددا كبيرا من هذه الولادات تتم خارج المستشفيات وفي ظروف غير آمنة، فإنهما لا ينجوان من العواقب الاجتماعية التي تبدأ مع مرحلة التسجيل في الحالة المدنية، بسبب تنكر الأب لابنه. فرغم وجود إجراءات تمكن الأم من تسجيل طفلها عن طريق المحكمة بدون اسم عائلي للأب، فإن الأمهات في الغالب يرفضن ذلك ويتشبثن بأحقية الطفل في أن يحظى باسم والده البيولوجي وبضرورة أن يعترف بابنه، يضيف الرامي مؤكدا على أن التسجيل في الحالة المدنية هو بداية المشاكل التي تتناسل عنها أخرى فيما بعد. الطفل المولود خارج إطار الزواج قد يتمكن من دخول المدرسة بناء على ورقة الولادة في المستشفى أو بطاقة التلقيح، لكن هذا فقط في المستوى الابتدائي، وإن أراد إكمال مرحلة الإعدادي يجب أن يعد نفسه ومعه الأم لعراقيل كبيرة في التسجيل، حيث يكون الأطفال ملزمون بالتوفر على شهادات للميلاد لا يمكن الحصول عليها إن لم يكونوا مسجلين بدءا في الحالة المدنية ومن هنا تبدأ حكاية المعاناة مع احتمال ضياع الحق في التعليم الذي قد يكون فاتحة لأبواب التشرد والعيش على هامش المجتمع. غياب التربية الجنسية داخل المؤسسات التعليمية لتعليم الطفل قيمة الجسد وضرورة الحفاظ عليه وأن لحظة متعة قد تنجم عنها أضرار تحطم مستقبل الأم وطفلها خاصة، أمر يرى الرامي أنه يلعب دورا في تفاقم الظاهرة، إلى جانب ما يعتبره ثقافة «دخيلة» على المجتمع المغربي جراء «المسلسلات المدبلجة التي تخلق تأثيرا على العقليات في بلد بثقافة مختلفة» كما يضيف لمتتالية الأسباب، تعنت بعض العائلات المغربية في قبول زواج أبنائها وبناتها بناء على اختيارات شخصية. ويبقى عزوف الشباب عن الزواج، في نظره من أهم أسباب الظاهرة بسبب تفشي البطالة وتدهور الأوضاع الاجتماعية التي لا تساعد على بناء أسر تحت الشمس، ومن ثم علاقات جنسية داخل الإطار المشروع قانونيا واجتماعيا. على إن مقاربة هذه الظاهرة سواء من زاوية الدين أو القانون أو الزاوية الحقوقية، مهما اختلفت الآراء بشأنها بين تحريم العلاقات التي تنتج هذه الولادات وما يترتب عنها من تداعيات اجتماعية وتجريمها قانونيا وبين من يبيحونها ويطالبون بإسقاطها من القانون المغربي، فإن الواقع يتحدث بلغة أخرى تنفلت من يد الرقابة القانونية والدينية والأخلاقية، لتفرض نفسها بقوة وبشكل متزايد، فهل يعكس هذا انفصاما بين الصورة التي يقدمها المجتمع المغربي عن نفسه علنا وما يعيشه بشكل مواز في الخفاء؟