لقد تحققت لخصوم الإسلام بعض أحلامهم في تقسيم الأُمة الإسلامية إلى دويلات متناثرة، تفصل بينها حدود جغرافية، وترفرف في سمائها شعارات القومية، وتحكمها قوانين وضعية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نجحوا أيضاً في إشعال فتيل الفرقة بين أبناء المسلمين، فسرت الفتنة في كيان الأُّمة، ودبَّت في أركانها، فوهنت الأَّمة بعد الشدة، وضعفت بعد القوة، وهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّه وَرَسُوله وَلَا تَنَازَعُوا فتَفْشَلُوا وَتَذْهَب رِيحكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ" الأنفال46، فالفرقة تؤدي إلى التنازع والفشل والضعف ثم ذهاب القوة، وهذا على المستوى العام والخاص. ويدلك على هذا أيضاً: ما قام به فرعون، حيث خالف بين الناس وفَّرقهم؛ وذلك لإضعافهم وإذهاب قوتهم، قال تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" القصص4. فالفرقة سياسة خبيثة ماكرة، أوُل من سنها فرعون، وها هم أعداء الإسلام على سنة فرعون متبعون، وعلى نهجه سائرون، فهم يعلمون يقيناً أن وحدة المسلمين هي سر قوتهم، فلهذا يسعون حثيثاً لزرع بذور الفتنة والاختلاف والفرقة بين المسلمين، وهذا يؤدي بدوره إلى إضعاف المسلمين، بل ربما يصل الأمر، إلى الاقتتال، وهذا ما يريده أعداء الإسلام، وقد روى ابن إسحاق وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: "مرَّ شاس بن قيس -وكان يهودياً- على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون، فغاظه ما أرى من تآلفهم بعد العداوة، فأمر شاباً معه من يهود أن يجلس بينهم فُيذِكرهم بيوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان: أوس بين قيظى (من الأوس)، وجَّبار ابن صخر (من الخزرج) فتقاتلا، وغضب الفريقان وتواثبا إلى القتال، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حتى وعظهم، وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة، ونزل قوله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" آل عمران 103. فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح". ونلحظ في هذا الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الفُرقة والاختلاف بين المسلمين "دعوى جاهلية" فقال صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم"؛ لأن الجاهلية فرقت بين العباد، ومزقت وحدتهم، فصنم ربيعة غير صنم مضر، ومعبود ثقيف يختلف عن معبود قريش، وإله أهل اليمين غير إله أهل الشام. ولذلك كان هناك تناحر وحروب بين القبائل أدت إلى هلاك الحرث والنسل، ثم جاء الإسلام ووحد الأّمة تحت راية واحدة راية الإسلام، وجمع شتاتهم وتفرقهم؛ فكانوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً أو "كَأَنهم بنيان مرصوص" الصف 4، وأصبحوا أُمة واحدة، وإخوانا متحابين بعد أن كانوا شراذم متفرقين، وهذه نعمة من رب العالمين، كما ذكر في كتابه الكريم فقال: "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا". فالإسلام يدعو إلى التآخي وجمع الكلمة ووحدة الصف، وينشد الألفة والمحبة بين المسلمين، وهذا أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، وبهذه الأخوة ذابت عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وسقطت فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحٌد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأ خوة عقدا نافذاً لا لفظا تثرثر به الألسنة ولا يقوم لها أثر، فعندما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من المهاجرين، وسعد بن الربيع رضي الله عنه من الأنصار. "قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لَك في أهلك ومالِك، أين سوقكم؟". وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج؛ سياسة صائبة حكيمة، وحلا لكثير من المشاكل الداخلية، وضمانا لعدم الفرقة والانشقاق والاختلاف بين صفوف المسلمين وجمع شملهم، فالإخاء بين المسلمين هو أساس النجاح والنصر والتمكين، وأصل لكل تَقدم، لأنه لا يمكن أن يتصور لدولة أن تسود وتقود وأفرادها في تشتت وتنافر وتناُزع، إذ كيف يتم التعاون بين ضدين والتآزر بين نقيضين؟ وما حدث للمسلمين الآن من فرقة وضياع؛ ما كان إلا بسبب التفرق والتشتت وعدم جمع القلوب على كلمة سواء، فأعداء الإسلام يمِزقون الأمة، ويفرقون بين أبنائها، والإسلام جاء ليجمع الكلمة، ويوحد الصف، وهذا ما تجده في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويؤخذ من الأثر السابق أيضاً: أن ما فعله شاس بن قيس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يفعله الآن أعداء الإسلام في كل العصور وفي كل الأمصار، لكن هناك فارق بين شاس اليوم وشاس الأمس، فقد كان شاس الأول فردا ضعيفاً ضئيلا، لا يملك من الجاه والمال والسلطان، أما شاس اليوم فيتمثل في دول كبيرة، ذات قوة وعتاد وجاه وسلطان، لكن شاس اليوم وشاس الأمس يتفقان في الغاية، وهي هدم الإسلام، وتمزيق أهله، وإحياء العداوات التي أطفأ الله نيرانها من قبل، وإذكاء نار الخصومة والبغضاء بين المسلمين، وتفريقهم أُمما وشيعاً وجماعات، كل حزب بما لديهم فرحون. وختاما: إذا ما أردنا أن يتحقق لأمتنا ما قرأنا من مبشرات في نصوص الوحيين فما علينا إلا الثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده، وأنه سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب الزمن ليس عند الله شيئا، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى، وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض. لابد أن نكون واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل، فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر. وكم من المحتسبين والمصلحين والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر.