إبراهيم الطالب- هوية بريس الخلافة الإسلامية نظام المسلمين طيلة 15 قرنا؛ كانت تتعاقب الدول على حكم المسلمين فيستلم نظامَ الخلافة بعضها عن بعض حتى تم إسقاطه على يد الإنجليز والفرنسيين والروس سنة 1923. الخلافة الإسلامية دائما كانت حاضرة في الصراع الدولي بين المسلمين ودول الغرب. في يومنا هذا ينشغل العالم بالدولة الإسلامية "داعش" ومشروعها للخلافة الإسلامية؛ ويضع الغربيون ساستهم ومفكروهم في صلب انشغالاتهم مشروعَ الإخوان المسلمين العالمي لإرجاع نظام الخلافة؛ وقبلهما كان الاهتمام بمشروع تنظيم القاعدة. وكذلك قبل إسقاط نظام الخلافة الإسلامية العثمانية؛ كان موضوع الخلافة حاضرا في المشهد الدولي السياسي والفكري والاستراتيجي؛ واستطاعت دول الغرب أن تلعب بمفهوم الخلافة وشروطها في السياسة والفكر والدين؛ فجعلت له دراسات متنوعة؛ وكان موضوعَ بحوث كثيرة؛ وعُقدت بشأنه الندوات العديدة بل نظمت له المؤتمرات؛ وشَغل اهتمام أغلب المفكرين الغربيين آنذاك، تماما كما اليوم. يروي لنا الحجوي الثعالبي في رحلته الباريزية أنه خلال زيارته لفرنسا مع الوفد الرسمي للمملكة المغربية أصعدوهم إلى قمة جبل عالية بها دير كبير، فلما دخلوه استقبلهم كبير الرهبان، وأثناء قيامهم بجولة مشيا على الأقدام؛ سأل هذا الأخير الوزير الثعالبي حول رأيه عن أحقية العثمانيين في الخلافة دون العرب الأشراف في مكة؛ وما إذا كان يعتقد أن على العرب استرداد حقهم فيها من أيدي الأتراك. عندما قرأت هذه الفقرة قبل سنوات خلت تساءلت كيف يشتغل كبير الرهبان بموضوع الخلافة وهو في دير فوق قمة جبل وعر، المفروض فيه أنه منقطع للعبادة في بلد علماني يفصل بين الدين والسياسة فصلا تاما. ثم تذكرت كتاب المؤلف البحاثة النحرير عبد الرحمن حبنكة الميداني الموسوم ب"أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير الاستشراق الاستعمار"؛ فاستيقنت أن لا فرق بين مسوح الرهبان وبذلة العساكر في الحضارة الغربية؛ خصوصا عندما يتعلق الأمر بحرب الإسلام والمسلمين. فالراهب لم يسأل الوزير للترف، بل هو يستنطق مكنون العقل والفكر عند وزير مثقف عالم فاعل في توجيه أمته وصناعة الرأي والسياسة فيها؛ ليَعلم رأيه في قضية ستغير وجه العالم وهي قضية إسقاط الخلافة الإسلامية والتي تعني آنذاك الدخول إلى نظام دولي جديد. كان سايس وبيكو الوزيران البريطاني والفرنسي وقتها لا زالا يتفاوضان حول ملامح جغرافية بلدان المسلمين، والتي قطّعاها حسب مصالح بلدان الغرب الإمبريالية؛ فولدت لنا خارطة فسيفسائية للعالم الإسلامي كانت من أحجارها قطر والبحرين والإمارات والسعودية والكويت وسلطنة عمان. قبل هذه المرحلة بسبع سنين من تاريخ الدولة الإسلامية العثمانية استطاع يهود الدونمة من خلال جمعية الاتحاد والترقي الماسونية والتي تَشكل منها حزب تركيا الفتاة أن يعزلوا السلطان القائد المخلص عبد الحميد الثاني، الذي وقف طيلة 33 سنة في وجه اليهود الصهاينة؛ وعمل خلالها على توحيد الأمة من خلال مشاريع تنموية كبرى، تجلت إحداها في مشروع خط السكة الحديد التي كانت ستحدث ثورة اقتصادية بين أقاليم دولة الخلافة؛ لكن عُزل السلطان المجاهد مباشرة بعد تمام المشروع على يد علمانيي تركيا الفتاة، الذين كان أغلب رؤسائهم من يهود الدونمة، فأرسلوا إليه صك العزل مع وفدٍ مكون من أربع شخصيات كان أبرزهم اليهودي "قراه صو"؛ الذي سبق أن دخل القصر مع هرتزل ليفاوض السلطان حول منح أرض في فلسطين لليهود مقابل تسديد ديون الخلافة؛ فطردهما السلطان؛ وقال حينها قراه صو للسلطان إنه سيرجع ولكن في مهمة أخرى. وبالفعل عزل السلطان في الظاهر بيد الأتراك؛ لكنه عُزل في الحقيقة بيد الصهاينة الذين سيسقطون لاحقا نظام الخلافة بالتشارك مع الصليبيين. في هذه الآونة وَعَد "مكماهون" الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر شريف مكة حسين بن علي بالخلافة من خلال مراسلاته له بين عامي 1915 و1916؛ وكان موضوع الرسائل يدور حول المستقبل السياسي للأراضي العربية التي كانت تسعى إنجلترا فيها لقيام ثورة مسلحة ضد الحكم العثماني؛ وحتى تجعل لثورتهم هدفا يستحق المجازفة وعد مكماهون الحسين بن علي باعتراف بريطانيا بسيادته على الأقاليم العربية إذا شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية. في نفس الآونة وعَدَ وزير الخارجية "آرثر جيمس بلفور" في رسالة وجهها للورد الصهيوني "روتشيلد" جاء فيها: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح"اه. وبالفعل تم الوفاء بوعد بلفور في حين لم يعطوا لشريف مكة سوى إقليما هو الأضعف في البلدان الإسلامية مكافأة له على دوره الكبير في حرب العرب للخلافة العثمانية؛ فجعلوه ملكا على الأردن وألحقوا تدبير شؤون القدس بمملكته؛ وذلك ليكون حارسا للكيان الصهيوني بعد إنشائه. ففي الوقت الذي كان المسلمون العرب بإيعاز من بريطانيا حليفتهم يقاتلون إخوانهم الأتراك الذين تكالبت عليهم أمم الغرب جمعاء؛ كان اليهود يتغلغلون في جسم الأمة بدعم من بريطانيا أيضا؛ والنتيجة كانت هي الإعلان عن إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية التي كانت توحد المسلمين؛ وتدافع عن دينهم ودنياهم، وذلك في سنة 1923 بمؤتمر لوزان. وبعدها ب24 سنة تم الإعلان عن تأسيس دولة "إسرائيل" في قلب الدول العربية والعالم الإسلامي، وكان من أولى القرارات التي اتخذتها الأممالمتحدة هو الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني. ثم مرت السنون وتوالت جرائم الصهاينة من مذبحة دير ياسين إلى حرب غزة الأخيرة؛ وكانت قضية فلسطين والأقصى هي محور السياسات الخارجية للدول الإسلامية؛ واليوم وللأسف الشديد نسي المسلمون إرهاب الغرب والصهاينة؛ واجتهدوا في التطبيع مع العدو؛ كما اجتهدوا في إلصاق التهم بأبنائهم ووزعوهم على السجون والمقابر؛ ولم يكتفوا بشعوبهم بل تنافسوا في إلصاق تهمة الإرهاب ببعضهم البعض؛ حيث أصبحت دولة الصهاينة آمنة مطمئنة؛ وبالمقابل أصبحت دولة مثل السعودية تتهم دولة مثل قطر بالإرهاب؛ في حين لا يجرؤ حكام المسلمين اليوم على اتهام أمريكا أو دولة الصهاينة بالتهمة نفسها. صراعات المسلمين هذه طيلة الستين سنة الماضية جعلت من قضية الأمة ومسجدها الأقصى تنتقل تدريجيا من قضية أمة إسلامية ضد الصهاينة المعتدين؛ إلى قضية صراع عربي إسرائيلي؛ إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي؛ إلى قضية غزة ضد إسرائيل. وتطورت القضية أكثر حتى أصبح المجاهدون في غزة إرهابيين. وللأسف، ليسوا إرهابيين عند الصهاينة أو الغرب بل إرهابيون عند المصريين والإماراتيين والسعوديين. احتجت إلى هذا السرد التاريخي المطول وليعذرني القارئ الكريم على الإطالة وذلك حتى أربط قضية حصار قطر بتاريخ المنطقة؛ لأنني أعتبر الحصار المذكور مجرد شجرة تخفي غابة تسكنها ثعالب الصهاينة وضباع الأمريكان؛ الذين يديرون كل الحروب التي عاشتها الأمة طيلة قرنين ماضيين؛ لفائدة مشاريعهم الإمبريالية. إن حصار قطر جاء مباشرة بعد زيارة رئيس أمريكا للسعودية ليترأس قمة بين العالم الإسلامي وأمريكا؛ والتي وصفها ترامب بأنها حدث تاريخي فريد لم يسبق في التاريخ وربما لن يتكرر في المستقبل -حسب رأيه-. أمريكا حتى نبقى على وعي بالتاريخ هي خليفة بريطانيا في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية؛ أمريكا لا ترى وجودا للولايات المتحدة بدون أمن إسرائيل؛ وتعمل لتكون إسرائيل قائدة حاكمة للشرق الأوسط الكبير؛ الذي يتشكل رويدا رويدا في ظل الفوضى الخلاقة التي نشرها بوش في دولنا الإسلامية؛ والتي مكنت أمريكا من جعل العرب وكلاء يديرون كل الانقلابات المضادة بالنيابة عنها؛ وذلك من الإمارات التي تستحوذ على القرار اليوم في الخليج العربي؛ الإمارات التي لا يبلغ سكانها المليون نسمة استقوت بالوكالة عن أمريكا فرأيناها تضرب بطائراتها في اليمن وليبيا وسوريا وتتدخل بمالها القذر في شؤون الشعوب المسلمة. فلصالح من يا ترى؟ وهل كانت لتقوم بهذا الدور الخطير لولا الاتفاق التام مع شرطي العالم: أمريكا؟؟ إن قضية حصار قطر يجب أن تفهم في سياق المنطق التاريخي، الذي أسلفناه؛ مع استحضار حقيقة على أرض الواقع وهي: التداخل التام بين أموال وثروات الأمراء في الإمارات مع أموال وثروات الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات والتي تتحكم في الاقتصاد الإماراتي وتدير النصيب الأوفر من التجارة العالمية من دبي؛ علما أن تلك الشركات العملاقة هي مملوكة للأمريكيين والصهاينة؛ فكيف يمكن عزل ما تقترفه الإمارات من جرائم في حق الشعوب الإسلامية وضلوعها السافر في انقلاب مصر؛ والانقلاب الفاشل في تركيا عن مخططات أمريكا ودولة الصهاينة ومصالحهم الاستراتيجية في بلداننا. فحصار قطر لا علاقة له بتهديد هذه الأخيرة لأمن من يحاصرها؛ بل يمكننا أن نعتبر وبدون مجازفة أن قضية حصار قطر هي مقدمة لتدمير غزة في أفق بناء شرق أوسط ستندثر فيه الدول الموجودة اليوم بعد أن ذهب نصفها المتمثل في العراق وسوريا واليمن وليبيا؛ وبعد خضوع مصر التام للكيان الصهيوني. فالإرهاب.. وغزة.. والإخوان المسلمون.. كلها عناوين كبرى تطل برأسها من وراء حصار قطر. والتهمة التي يروجها المحاصِرون في حربهم الدنيئة هي: دعم الإرهاب. فعن أي إرهاب يتحدثون؟؟ فهل دعم الفلسطينيين في غزة ومدهم بالعون والتأييد في مقاومتهم للاحتلال الصهيوني يعد إرهابا؟؟ ألا يؤدي الفلسطينيون واجب الدفاع عن القدسوفلسطين نيابة عن الأمة الإسلامية؟؟ فإذا كان دعم الفلسطينيين إرهابا فليصبح كل المسلمين إرهابيين وإنه لشرف عظيم. 17 سنة فقط كانت كافية بالنسبة لأمريكا والغرب لإقناع حكام المسلمين أن أبناءهم إرهابيون، وأن شريعتهم تطرف، وأن تاريخهم وتراثهم يؤسس للغلو؛ لنستيقظ اليوم فنجد تهمة الإرهاب تأخذ بتلابيب المسلمين؛ بل أصبح الإرهاب يعادل الجهاد؛ والتطرف يعادل إقامة أحكام الشريعة. وصرنا نسمع أن تهمة الإخوان المسلمون هي الإرهاب؛ وتهمة قطر هي دعمها لحماس الإرهابية؛ وتهمة الرئيس مرسي هي التخابر مع غزة وحماس؛ فهل بعد هذا يمكن الحديث عن القدس وعن فلسطين؟؟ فلسطين التي يقف بأراضيها المحتلة الصهيوني نتانياهو هذا الأسبوع ليعلن للعالم أن القدس أصبحت عاصمة لإسرائيل وأنه هو ورفاقه خلال الخمسين سنة الماضية لم يكونوا محتلين بل كانوا محررين؛ فبينما هو يصرخ للعالم بصوت كله ثقة وشجاعة؛ نسمع نحن قاداتنا يتهمون بعضهم بعضا بالإرهاب ودعمه. إن الحرب العالمية على الإرهاب تشمل في خطاب الغرب والصهاينة وسياساتهم كل المقاومين للغزو الصليبي-الصهيوني؛ فإن كان الأمر كذلك فيجب على قادة المسلمين حكاما وعلماء التمييز بين الحق والباطل في انخراطهم في الحرب على الإرهاب والصدع بالحقيقة، وإلا صارت كل الحروب القادمة بين المسلمين فقط، حتى يفني بعضهم بعضا، ليستيقظوا بعدها -لا قدر الله- على حكم الصهاينة لبلدانهم. وما حصار قطر اليوم إلا مقدمة لإبادة المقاومة في غزة والتي تُعتبر الشرط الأول لحكم الصهاينة للشرق الأوسط. فمتى يستيقظ المسلمون؟؟ وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.