يسعى الكاتب في هذ المقال -بهذا الطرح المراد تحقيقه في هذا السياق- إلى النظر في قضية العطلة الربيعية من وجهتي نظر مختلفتين، يترددان بين: هل العطلة راحة تامة للخمول والكسل ومشاهدة الأمور التي لا تنفع في الحياة، … والتخلص والابتعاد عن كل ما ينمي ويزكي الجانب العلمي المعرفي لدى الإنسان؟ … أم أنها فرصة سانحة للإبداع والتألق والانتقال من تخصص إلى تخصص، … واستبدال كتاب بكتاب،… ومجال بمجال، … وتأكيد أو مواكبة ما تم تعلمه خلال فصول الدراسة السابقة…؟ إن اعتبار العطلة راحة تامة للخمول والكسل هو من قبيل التصور الخطأ الذي لا ينبجس عن التفكير الهادف والجاد، وفق أهداف محكمة، كما أن اعتبارها أيضا فرصة للعمل الشاق والمتعب دون الترويح على النفس هو بدوره أيضا تصور غير منطقي ولا ينتمي إلى العقلانية في شيء. فالحل الأنسب والمنسجم والموفق بين كلا الرأيين هو التوسط؛ حيث لا تفريط في الزمن فيضيع كله، ولا إفراط فيه فلا يستفيد الإنسان من الراحة في شيء؛ غير أن البشر يحاسب على عمره كله من بدايته إلى نهايته؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»[1]. إذ من بين ما يذكر في نص الحديث النبوي الشريف هذا؛ أن الإنسان سيسأل عن وقته؛ كل وقته؛… عن شبابه خاصة، وعن عمره بشكل عام؛ فالمرحلة الأولى يكون الإنسان فيها قادرا على أداء المهام بشكل جيد، وتكون له قدرة نفسية وجسدية على القيام بكل ما طلب منه؛ إلا لآفة لحقت به، وتلك حالة مستثناة من القاعدة العامة، أما المرحلة الثانية والتي تشمل العمر كله، ففيها القوة والضعف، فقد لا يحاسب الإنسان في مرحلة ضعفه كمرحلة قوته، وهذا طبيعي جدا، إذ البون بينها شاسع، والفرق بينهما واضح؛ ذلك أن الإنسان لا يكلف إلا بما يطيقه. أجل؛ لقد وجد هذا الإنسان في ظل وقت وهو محاصر به، ويعيش في كنفه، وغير معزول عنه ولا معذور بالتفريط فيه، ففي هذه الحال؛ هل يتقاعس الإنسان ويترك فرصة للوقت ليغدر به، ويؤجل ما سيقوم به من الأشغال إلى المآل؟ أم أن يكون هو الفاعل في الوقت ويستغله بالطريقة المناسبة بدل حديث النفس بالقيل والقال، وتأخير إنجاز الأعمال؟ نعم؛ لقد أقبلت عطلة الربيع وأشرقت معها وجوه المتعلمين ضياء ونورا بالفرحة والبهجة اللتين نزلتا بصدورهم وتخللتا أفئدتهم، تشوقا لتبديل جو الدراسة اليومي المتكرر، وانتقالا من ذلك التكرار اليومي إلى الحصول على الاستجمام والترويح اللذين ترتاح نفسهم به من تعب الدراسة ومشاق الاختبارات المتتالية، وتتزود ذاكرتهم بالحيوية والرشاقة. إذ بعد المسار الدراسي الذي يقضيه متعلمونا في المدرسة -مع ما يصابون به من إرهاق الامتحانات والعمل المدرسي الشاق وإنجاز المطلوبات…- تأتي فرصة العطلة باعتبارها مدة زمنية فاصلة بين مرحلتين دراسيتين؛ تختم الأولى بإنجاز التكاليف وتحرير الاختبارات، وتحتاج بداية الثانية إلى التزود بالطموح والانتظارات؛ كل ذلك؛ لإعادة النفس من جديد وإحياء روح المبادرة مرة أخرى إلى التعلم واكتساب خبرات جديدة في الواقع المعيش. وللعمل على تجميل ذلك والتخلص من الإحباط النفسي المتكرر؛… يستحسن بهم أن ينتقلوا من مكان إلى مكان؛ لرؤية جمال الطبيعة الخلابة من هواء الجبال، ونسيم البحار، وسماع زقزقة الطيور فوق الأشجار، والنظر إلى السماء الصافية من الغبار، وعظمة تساقط الأمطار، والثلوج فوق الجبال والسهول والأودية والأنهار، وأحيانا حبات الثلج المتهاطلة مع الأمطار، إنه جمال الطبيعة المبهر من صنع الواحد القهار، الذي تنبهر بالنظر إليه الأبصار، وتحيى بمثله العقول والألباب وأفئدة البشر في جميع الأعصار والأمصار والأقطار. كل هذا الجمال الطبيعي الساحر من المحبذ جدا أن يتخلله نظر في الكتاب المقروء المسطور، وتأمل في الكون المشاهد المنظور،… وتهيأ وتكييف واستثمار للوقت؛ يجمع بين المنقول والمعقول؛… لأن قيمة الوقت لا تقدر بثمن … ولا يعاد على الإنسان زمن في المكان؛ أي مكان. أجل؛ إذ لا تقدر قيمة عمر الإنسان بالمعنى الحقيقي إلا إذا ارتبطت بالمنجزات التي أهداها الإنسان لذاته؛ لنفسه؛ سواء مع خالقه، أو نبيه، أو كونه، أو مع خلق الله كلهم،… وذلك في أمور تنفعه دينا ودنيا؛ وترتقي به إلى مرتبة عليا؛ عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[2] فاستغلال الفرصة مدعىً للحصول على الصدقة الجارية، وذلك طبيعي في كل من يتكبد عناء العمل والسهر في طلب العلم وابتغاء علا الرحمان فيه. إذ الابتعاد عن التعلم بشكل نهائي وترك كل ما ينمي هذا الجانب أو ذاك ويزكيه شيء مؤسف، بل هذا تفكير يجب إعادة النظر فيه وتصويبه وتصحيحه؛ حتى تستقيم الأفكار ويتزود عقل الإنسان بالأخبار التي وردت عن النبي المختار. يقول الغزالي: «أما بعد فقد تناطق قاضي العقل وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع وهو الشاهد المزكى المعدل، بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور، ومطية عمل لا مطية كسل، ومنزل عبور لا متنزه حبور، ومحل تجارة لا مسكن عمارة، ومتجر بضاعتها الطاعة وربحها الفوز يوم تقوم الساعة».[3] إن الإنسان محاصر بالزمان الذي يمر عليه بسرعة لمح البصر أو هو أقرب، وبما أنه مضغوط به في هذه الحياة؛ كان من المفترض في حقه أن يستغل مروره قدر المستطاع فيما يبني به شخصيته ويمهر قدراته ويزكي أعماله ويبني ما ينفعه. والعطلة الربيعية إن هي إلا لحظة عابرة في الحياة، لا تعود أبدا بنفس الشكل والهيأة والوقت، بل تعود؛ لكن في زمن غير الزمان، وبحالة غير الحالة، فيستحسن بنا في حقها أن نستغلها حسن استغلال. ولعلك تجد بعضا من تلامذتنا الأعزاء وأساتذتنا الفضلاء يعتبرون أن هذه الفترة هي فترة خروج من مأزق الشغل إلى الراحة التامة الخالية من المواصلة والتعلم، وهم بهذا الفكر لا جرم أنهم مخطئون في تصورهم؛ في حكمهم؛ في تقديرهم للوقت؛ إذ هذه المرحلة إنما انتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وليست جمودا أو ركودا، بمعنى أنها انتقال من مرحلة التعلم في جهة، إلى تغيير جهة أخرى، ومن مجال تعلمي سابق، إلى مجال تعلمي لاحق يكون دسما ومدعما لما تم استيعابه في الفصل الدراسي. ولا بأس أن يمارس المتعلمون التمارين الرياضية التي تنعش الجسم وتقوي حيويته ونشاطه، حتى يتسلل النشاط إلى العقل والروح، ويدب التفاؤل إلى القلب المشروح. وهذا الطرح إنما يقتضي بالأصالة أن يكون للإنسان أهادف في الحياة يسعى إلى تحقيقها، داخل الوقت المحصور حيث أقسم ربنا الكريم بأهمية الوقت في الكتاب المبين؛ لبيان أهميته في عيش الإنسان داخل كنفه يقول سبحانه: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر]. فلا يمكن أن يستحضر الإنسان بمعزل عن السياق المتمثل في الزمان والمكان اللذين عاش في خضمهما وحضنهما، فإذا ما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فإننا من البدهي جدا أن نستحضر معه الوقت والمكان اللذين عاش فيهما في فترته، وهكذا كل شخص في الكون من قبله ومن بعده. عن ابن عباس رَضي اللَّه عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ)[4]. ولقد كتبت سابقا مقالا سابقا خصصته للنظر في نعمتي الصحة والوقت من منظور شرعي وذلك بما يخدم الواقع المعيش ومتطلباته وتنبيه الإنسان إلى سرعة الزمان وغدرته، وكل ما مضى من الوقت فلا يمكن أن يعود أبدا مهما حاول الإنسان استرجاعه أو طلب عودته، ولكن كل ما هنالك أن لا يضيع القادم في التفاهات الخارجة عن المسار العقلاني الراشد. وفي النهاية نختم هذا المقال بقصة اشتهرت على ألسنة الناس وهي لمعلم مع تلامذته تجسد تجربة واقعية في استغلال الوقت الفارغ ومستلزماته، وهذا نصها: قام أستاذ جامعي بإلقاء محاضرة عن أهمية تنظيم وإدارة الوقت حيث عرض مثالا حيا أمام الطلبة لتصل الفكرة لهم. كان المثال عبارة عن اختبار قصير، فقد وضع الأستاذ دلوا على طاولة ثم أحضر عددا من الصخور الكبيرة وقام بوضعها في الدلو بعناية، واحدة تلو الأخرى، وعندما امتلأ الدلو سأل الطلاب: هل هذا الدلو ممتلئا؟ قال بعض الطلاب: نعم. فقال لهم: أنتم متأكدون؟ ثم سحب كيسا مليئا بالحصيات الصغيرة من تحت الطاولة وقام بوضع هذه الحصيات في الدلو حتى امتلأت الفراغات الموجودة بين الصخور الكبيرة. ثم سأل مرة أخرى: هل هذا الدلو ممتلئ؟ فأجاب أحدهم: ربما لا. استحسن الأستاذ إجابة الطالب وقام بإخراج كيس من الرمل ثم سكبه في الدلو حتى امتلأت جميع الفراغات الموجودة بين الصخور… وسأل مرة أخرى: هل امتلأ الدلو الآن؟ فكانت إجابة جميع الطلاب بالنفي. بعد ذلك أحضر الأستاذ إناء مليئا بالماء وسكبه في الدلو حتى امتلأ. وسألهم: ما هي الفكرة من هذه التجربة في اعتقادكم؟ أجاب أحد الطلبة بحماس: أنه مهما كان جدول المرء مليئا بالأعمال، فإنه يستطيع عمل المزيد والمزيد بالجد والاجتهاد. أجابه الأستاذ: صدقت.. ولكن ليس ذلك هو السبب الرئيسي.. فهذا المثال يعلمنا أنه لو لم نضع الصخور الكبيرة أولا، ما كان بإمكاننا وضعها أبدا. ثم قال: قد يتساءل البعض وما هي الصخور الكبيرة؟ إنها هدفك في هذه الحياة أو مشروع تريد تحقيقه كتعليمك وطموحك وإسعاد من تحب أو أي شيء يمثل أهمية في حياتك. تذكروا دائما أن تضعوا الصخور الكبيرة أولا.. وإلا فلن يمكنكم وضعها أبدا .. انتهت القصة. فالأحجار الكبيرة هنا هي أيام الدراسة، والفراغات هي أيام العطلة فيستحسن ملؤها بما ينفع، وعدم ترك الفراغات تمر في حياتنا دون فائدة. وفي الختام هناك أربعة أمور يستحب التركيز عليها في التخطيط الاستراتيجي للتعامل مع الوقت: أولا: ضبط وقت لأداء العبادات والمعاملات… ثانيا: وضع وقت لمطالعة الكتب والقراءات… ثالثا: تخصيص وقت للجري وممارسة الرياضات… رابعا: تحديد وقت للنوم وتخفيف المتعبات… إذن النتيجة؛ أن العطلة جزء من وقت حياة الإنسان يجب استغلاله فيما ينفع. [email protected] [1] مسند البزار المشهور بالبحر الزخار من حديث عمر عن عبد الله بن مسعود، حديث رقم: 1435، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله،وعادل بن سعد، وصبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم – المدينةالمنورة، ط: الأولى، (بدأت 1988م، وانتهت 2009م) [2] صحيح الإمام مسلم كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان بعد وفاته من الثواب، حديث رقم:1631، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج:3، ص:1255. [3] المستصفى للغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط: الأولى، 1413ه – 1993م، ج:1، ص3 [4] صحيح البخاري كتاب: الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة، حدبث رقم: 6412، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط: الأولى، 1422ه، ج:8، ص:88.