لقد علم من التجارب والواقع الذي لا يكذبه أحد؛ أن الكثير من الناس غالبا ما يتراخون عن أداء واجباتهم في وقتها المنتظر تحقيقها فيه بدعوى التأجيل إلى وقت لاحق؛ فيستمر بهم الحال على نمط التماطل هذا حتى تتراكم عليهم المطلوبات -التي منها الضروريات والحاجيات والتحسينيات - إلى وقت لا يستطيعون معه أداءها بشكل منتظم؛ لحلول العجز بسبب المرض، أو الكبر في السن، أو انعدام القدرة على الأداء والقضاء، ... وهذا التنبيه المعلن عنه تصريحا؛ إنما يستصحب بالضرورة اغتنام الوقت وعدم تضييعه في أمور تافهة، واستغلال الصحة فيما يرضي المولى سبحانه وقت الشباب وحالة القدرة على الفعل؛ عن ابن عباس رَضي اللَّه عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ )1. إذ ينبه الحديث النبوي الشريف هذا على ضرورة اغتنام أمرين أساسين لما لهما من أهمية في حياة الناس، ولما لهما كذلك من الآثار في الندامة حين التفلت. الأمر الأول : نعمة الصحة لقد رزق المولى سبحانه الإنسان بهذه النعمة الجليلة القدر العظيمة الفائدة؛ تلك الحالة النفسية والجسدية التي يكون معها الإنسان سليم البدن مرتاح النفس، خاليا من العيوب والأعراض والأمراض، مستوي السوق والأفكار، صاحب قدرة على العمل وعدم الانتظار، يستطيع أن يجول في كل المدن والأمصار، ... غير أنه إذا ما ذَهَبَتْ هذه الحالة الجميلة حل غيرها محلها؛ كالمرض البدني أو النفسي، أو وجود كبر في السن،... فيصبح الإنسان حينها عاجزا عن الفعل، محدودب الظهر، ذا نظر ضعيف، وصاحب أفكار مشتتة، لا يستطيع الكتابة ولا التدوين، غير معافى في بدنه، ليس سليما في نفسيته؛ ينسى كثيرا، لا يتذكر إلا قليلا، يخلط بين الكلام الجيد والرديء، لا يقدر أن يأتي بالعبادة كما وجب، فيتمنى الصحة ولا يجدها، ويتمنى العودة إلى الوراء ولا ينفعه ذلك، .... وهكذا وهلم جرا. فالإنسان لا ينبغي أن يضيع فرصة استغلال صحته فيما ينفعه دينا ودنيا، وأن لا يسخرها فقط في اللهو واللعب والبحث عن الأمور التافهة، فهو بهذا الصنيع يكون كمن يبني بيتا من صوف، فيوم بريد سكناه سيجد الريح بين يديه، أو غثاء كغثاء السيل، أو سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا داءه لم يجده شيئا، لكن إن هو استغلها فيما يصلح به نفسه وحاله ومآله؛ فاز بالفضيلة في دينه ودنياه. وكم من أناس حل بهم المرض وقضوا معه سنوات في المستشفيات مترددين بين هذا الطبيب وذاك يتمنون من الله ليل نهار أن يرزقهم هذه النعمة المباركة؛ ليستطيعوا على الأقل أن يقوموا بما طلب منهم، وليحسوا بتلك الراحة النفسية والبدنية التي يحس بها الباقون. فهؤلاء القوم الذين يعانون هم عبرة لذوي الصحة الكاملة؛ إذ يجب أن يكونوا على حذر تام من أن يحل بهم يوم ويكون مصيرهم مصير أولئك المرضى الذين يعانون مما ابتلوا به في الحياة . ونحن بهذا الطرح لا نعيب المرض ولا المبتلي به، - حاشا لله أن يكون ذلك كذلك-، ولكننا ننبه بهذا المعنى الصحيح المعافى في جسمه ونفسه ليستغل وقته فيما يرضي خالقه حتى لا تحل به الأمراض وهو لم يقدم لنفسه شيئا. والحديث النبوي الشريف يلخص خمسة أمور تقابلها خمسة أخرى تغدر بالإنسان في الحياة؛ فإذا هو لم يستغل الخمس الأولى حالة القدرة على الفعل، أدركته الخمس الثانية وصار عاجزا معها ؛ عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه:" اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ2. فاغتنام الصحة قبل مجيء الآفة ... فضل لا يتفطن إليه إلا عاقل عرف غدر الوقت وسرعته الخارقة، فالإنسان عندما يكون شابا يافعا قويا في نفسه وبدنه يستطيع أن يقوم بأمور لا يستطيع الذي بلغ من الكبر عِتِيا أن يأتي بها؛ لذا كان داعي استغلال الفرص والقيام بها في وقتها المناسب لها أمرا حبذته الشريعة الإسلامية ورغبت فيه وأكدت عليه. ولعلك تجد في واقعنا المعيش الكثيرين ممن ندموا على تضييع فرص فرطوا في ملئها بما يصلح الحال والأحوال والمآل؛ وصاروا بعد فواتها نادمين متحسرين ولم تنفعهم ذلك الحسرة في شيء؛ لذا ندعوا شبابنا المقبلين على العطلة الربيعية أن يستغلوا هذه المساحة الهامشية فيما ينفعهم في الحياة وذلك بقراءة القرآن مثلا، أو حفظ بعض الأحاديث، أو قراءة بعض الكتب التي تعزز مقررهم، أو الاشتغال بكتابة بعض القصص والطرائف على شكل إنشاءات، أو كتابة مسيرتهم الدراسية،.... أو القيام ببعض الأعمال التطبيقة؛ كمن يدرس الفزياء أو الكمياء مثلا... وهكذا كل في مجال تخصصه واشتغاله. فالإنسان لابد وأن تكون له همة ينظر بها إلى العلا كما يقول الشاعر المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ** وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها ** وتصغر في عين العظيم العظائم3 هذا وأن يحاول الإنسان الابتعاد قدر المستطاع عن مواقع التواصل الاجتماعي التي يذوب معها الوقت ذوبانا ويذهب هدرا، الأمر الذي يذهب ضحيته الكثير من الشباب الطموح ذوي العزائم القوية؛ لأن النظر الدائم والتتبع المستمر لها إنما ينتج عنه نوع من الإدمان الخطير الذي يشكل فيما بعد نوعا من الملل واليأس اللذان يدبان إلى قلوب الشباب اليافع، فهو على خلاف المتجهين صوب وجهة صحيحة لاستغلال الوقت فيما يفيد. والصحة والأمن لا يعلم فضلهما إلا الله سبحانه وقليل من خلقه؛ عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الأنصاري، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»4. فتلك هي السعادة الحقيقة لمعنى الحياة المتربصة عوائقها بالإنسان. الأمر الثاني: نعمة الفراغ وأما الفراغ فهي حالة نفسية وجسدية يكون الإنسان معها متفرغا لا شغل له، متسع الوقت لا مضيق له، قليل الانشغال لا كثرة له، غير مهموم البال لا حسرة له، غير محاط بالمهام الكثيرة لا مستغل له، حر في تصرفات وقته لا معاند له، حر في إبداعه لا مانع له، ففي هذه الحال يحبذ أن يضع هذا الإنسان لنفسه أهدافا وخططا يملأ بها أوقاته فيما يرضي الله في الدنيا والدار الاخرة. أما إذا أصبح الواحد منا قليل الفراغ، كثير الأشغال، منشغل البال، غير مرتاح في مهامه، كثرت شواغله، ضاقت عليه أوقاته، ... فاعلم بأن الأمور ستأخذ منحى تراجعيا نحو الأسفل في تصارعها بين بعضها البعض؛ لتعلقا بفرد واحد يظهر ضعيفا أمامها لعجزه في أدائها بشكل منتظم صحيح، ولله المثل الأعلى الذي لا يعيى... والإنسان يعيش داخل الوقت فهو غير معزول عنه إطلاقا، بل يسير وفقه وكما يقال في المثل الشهير: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. ونحن نرى أن الكثير من متعلمينا اليوم في مجتمعنا لا يستغلون الفرصة المواتية للعطلية الاستجمامية كما يجب، ولعلهم يعتبرون أن العطلة المدرسية راحة تامة من جميع الأشغال الموجهة لسلوكاتهم اليومية. لكن هذا التصور ليس هو الزاوية الصحيحة او التفكير الملائم لبناء الحياة واستغلال تفاصيلها في العمل، إذ المعتمد المراد السير عليه واستصحابه دائما هو أن يكون للإنسان برنامج مسطر بأهداف تسعى إلى ملء أوقات الفراغ ولو خارج مجال تخصصه بما يتناسب وطبيعة التكوين المنتظر تحقيقه. ذلك أن الإنسان لم يخلق في هذه الحياة من أجل الراحة والنوم، إنما خلق من أجل أن يعمل ويكافح ويناضل، وهذا التعب والكد في العمل هو بحد ذاته ابتلاء من الله، يقول سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك، 2]. وقد تجدنا أحيانا يمر علينا زمن طويل من الدهر ولم نحقق فيه أي هدف يخدم مصالحنا الفردية أو الجماعية، وإنه لمن المحزن جدا أن نعيش لحظات الفتور التام في غيابنا عن مجال التعلم والتعليم. والإنسان مسؤول أمام خالقة عن الوقت الذي يضيع منه ولا يستغله، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَا تَزُولُ قَدْمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أُنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»5. فلا يعرف قيمة الصحة إلا المريض، ... ولا يعرف قيمة الشباب إلا الشيخ الكبير، ... ولا يعرف قيمة العمر كله إلا الذي غدر به، ... ولا يعرف قيمة المال إلا الفقير،... ولا يعرف قيمة العلم إلا الجاهل الذي عرف أنه لا يعرف، ... وهكذا هي الحياة مقابلات في وجه أخرى فاستغلها قبل أن تنال منك... فاللهم ارزقنا ممن يستغل خمسا قبل خمس المذكورة في الحديث السالف الذكر. هوامش: 1- صحيح البخاري كتاب: الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة، حدبث رقم : 6412، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط: الأولى، 1422ه، ج:8، ص:88. 2 -المستدرك على الصحيحين لابن البيع كتاب الرقاق، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط: الأولى، 1411 ه/- 1990م.ج:4، ص:341, 3 -أنظر شرح ديوان المتنبي للواحدي، ج:1، ص:274. 4- سنن ابن ماجه كتاب الزهد، باب القناعة، حديث رقم 4141، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، ج:2، 1387. 5- مسند البزار المشهور بالبحر الزخار من حديث عمر عن عبد الله بن مسعود، حديث رقم: 1435، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله،وعادل بن سعد، وصبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم - المدينةالمنورة، ط: الأولى، (بدأت 1988م، وانتهت 2009م)