هوية بريس – ربيع السملالي يقول الشيخ علي الطنطاوي في كتابه (فصول في الثّقافة والأدب ص:215): ليس السَّجينُ المُكبَّل بالقُيود الذي يقطع الحجارة من جَلْمَد الصَّخر، ولا الذي يغوصُ في أعماق اللجج يبحثُ عن اللُّؤلؤ في بطن البحر؛ ولكنَّه المسكينُ الذي قُدِّر عليه أن يَستخرج رزقَه من أضيق أبواب الرِّزق من شقِّ القلم، هو من اتَّخذ الكتابةَ حِرفةً له، فهو يكتبُ دائمًا أبدًا، يكتبُ وهو خامل كسول، ويَكتب وهو مريض موجع، ويكتبُ وهو حزين مهموم. اه قال ربيع: لذلك كان النَّاسُ قديمًا إذا رأَوا مَن يَنشغل بنظم القريض ونَثر الكلام، يقولون: (فلانٌ أدركَته حِرفة الأدب).. والتَّرجمة العمليَّة لهذه الكناية كما يقولُ حيدر: إنَّ مِهنة الفقر أدركَت الرَّجلَ الذي امتهنَ الأدب.. أو كما يقول علي شلش: إنَّ فُلانًا هذا مسَّته تلك الهواية العَجيبة التي لا مهرب منها إذا نزلَت على أحد، ومع ذلك لم تتقبَّل مجتمعاتنا أن تدرِك هذه الحِرفة أحدًا من أبنائها، ولا أن تَصير حرفةً مثل غيرها من الحِرَف يَمتهنها طالبها ويتعيَّش منها، وكان أقصى ما تقبَّلَته هو أن يكون الأدب هِواية، وأن يتعيَّش هاويه من شيء آخر؛ بحيث يكون الأدب عملًا إضافيًّا، ويكون العمل الأساسي – طَوال الوقت – شيئًا آخر؛ فالطَّبيب يكون طبيبًا طوال الوقت، فإذا هوِيَ الأدبَ جعله نشاطًا لساعات الفَراغ، والمحامي يُمكنه أن يكون أديبًا، ولكنَّه لا يستطيع أن يعيش من الأدب، وهكذا. ويرى هوراس إنغدال -أكاديمي من السويد، من لجنة جائزة نوبل- أنَّ احتراف الكتابة (كمهنة)، سواء عبر برامج المنح أو الدَّعم المالي، له تَأثير سَلبي على الأدب. وعلى الرَّغم من جاذبيَّة هذا الدَّعم؛ فإنَّه يسهم في عزل الكُتَّاب عن مجتمعهم، والفصل بينهم وبين مَنهل إبداعهم، كان الكُتَّاب فيما مضى يعملون بشتَّى المهَن؛ من سائق (تاكسي)، إلى موظَّف إداري، أو نادل في مطعم؛ ليوفِّروا رِزقَهم، الكثير منهم عاش بهذه الطَّريقة؛ مثل الكاتب المسرحي الأيرلندي صموئيل بيكيت… وغيره، وكانت معاناتهم كبيرة، لكنَّهم استطاعوا من وجهة نظَر الأدب تأمين قُوتِهم. وذكر ابنُ الجوزيِّ في كتابه الماتع (صيد الخاطر) أنَّ أحد العلماء كان يَعمل يوم السَّبت فقط، وباقي الأيام يجعلها للقراءة والكتابة. فقلتُ محدِّثًا نفسي: ربَّما لم يكن متزوِّجًا ولا كان له أولاد! لكن في هذا العصر كثُرَت متطلبات العيش؛ فإنَّ الواحد فينا إذا أراد التفرُّغ للأدب، سيَفشل فشلًا ذريعًا، ما لم يكن له عمل يومي يتقاضى مِن خلاله ما يَكفيه لضروريات الحياة. وحين كنتُ أطالِع قبلَ سنتين موسوعةَ الأعلام للزِّركلي، تجمَّع لديَّ ملف خاصٌّ فيه أخبار كثيرة للعلماء والشعراء والأدباء، مِن الذين كانوا يَمتهنون حِرَفًا متواضعة، ويتعيَّشون بأعمال عادية جدًّا.. أذكر منهم على سبيل المثال ثلاثة نماذج: *أحمدُ بن محمد بن خلف الحوفي: قاضٍ مالكي، عالم بالفرائض، أندلسي إشبيلي، أصله من الحوف بمصر.. وَلِي القضاءَ بإشبيلية مرَّتين، ويقال: إنَّه كان لا يَأخذ أجرًا على القضاء، ويعيش من صيد السَّمك! *أحمدُ بن موسى بن خفاجا: فقيه شَافعيٌّ، من أهل صفد (بفلسطين)، نزل بإحدى قراها، فكان يُفتي ويصنِّفُ، ويأكلُ من عمل يده في الزِّراعة، وأعرض عن المناصب إلى أن توفِّي سنة 750ه، له كتب، منها: (شرح التَّنبيه) في فقه الشَّافعي، عشرُ مجلَّداتٍ، و(شرح الأربعين النووية) في مجلَّد ضخم *ابنُ مُعلى، إسماعيل بن علي بن حسن بن هلال: فقيهٌ شافعيٌّ مصري، صعيدي الأصل، قاهري المولد، من أصدقاء السَّخاوي المؤرِّخ، كان يتكسَّبُ في دكَّانٍ له (تحت الربع)، ويختلسُ فُرصًا للتَّدريس، ويظهر أنَّه توفِّي بعد السَّخاوي، فلم يكمل ترجمتَه، له كتبٌ منها: (اللَّيثُ العابس في صدمات المجالس)؛ مخطوط، ضوابط تتعلَّق بأصول الفقه، توفي سنة 880ه. وفي موضعٍ آخر من صيد الخاطر يقولُ ابن الجوزي: رأيتُ جمهورَ العلماء يشغلهم طلبُهم للعِلم في زمان الصِّبا عن المعاش، فيَحتاجون إلى ما لا بدَّ منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صِلات الإخوان ما يَكفي، فيحتاجون إلى التعرُّض للإذلال. يقول عبدالرزَّاق الربيعي: قال لي صديق يعيشُ في فرنسا إنَّه توقَّف عن الكتابة باللُّغة العربية؛ لأنَّه عندما يَكتبُ بالفرنسية، فإنَّ الناشِر يأتيه ساعيًا ليوقِّع معه العقدَ المجزي معزَّزًا مُكرَّمًا ليعيش من رَيع ذلك الكتاب سنوات، بَينما يموتُ الكاتب عندنا فقيرًا معدمًا -إذا لم يجد مهنةً أخرى يرتزق منها- تاركًا مخطوطاته تُعششُ عليها العناكب والدِّيدان الجائعة؛ لأنَّها سكنَت بيتًا أدركَت صاحِبَه حرفةُ الأدب. قلتُ: وقد أخبرني قبل أيَّام الشَّيخُ أبو عبدالرَّحمن الظَّاهري (عماد بن حسن البكري المصري) قائلًا: عملتُ بائعًا على "بسطة خضار" لمدَّة خمس سنوات، كان أَجري فيها خمسة دولارات، لا تكاد تَكفي مجتمعةً لشراء حليب وبعض "الحفَّاظات" لعبدالرحمن، فما بالك بالتموين والكهرباء، فالدواء؟ ثمَّ عملتُ على عربَةٍ متجولة بسبعة دولارات يوميًّا من الخامسة حتى السابعة ليلًا، ولكنَّها لم تستمرَّ؛ لأنَّها أَلهَتني عن طلب العلم، ثمَّ عملتُ في استراحة مطعم على الحدود، فنادِلًا في مطعم؛ في النَّهار أعمل نادلًا، وفي الليل أسابقه للتَّحصيل، وربَّما ورمَت عيناي من السَّهَر حتى بدا عليها السواد… ثمَّ عملتُ في مكاتب التحقيق (تحقيق المخطوطات) لعشر سنين متنقلًا بين هذا وذاك، والجهاز الأمني كان لي بالمرصاد كلَّما جلستُ في وظيفة لمدَّة معيَّنة، يَطلب منِّي صاحبها المغادرة؛ خوفًا على إغلاق مكتبه أو محلِّه، والآن قاطِف زيتون بسبعة دولارات لا تكاد تكفي البيت لقيمات. وكلمات صديقي الظَّاهري هذه أحزنَتني وذكَّرَتني بأبي هلال العسكري الأديب اللُّغوي المشهور صاحب (كتاب الصِّناعتين) وكتاب (جمهرة الأمثال) وغيرهما من الكتب النَّافعة، كان فقيرًا مُعدمًا، رغم علوِّ كعبه في كثير من الفنون والعلوم، وكان يتبزَّز (يُتاجرُ في الثِّياب) احترازًا من الطَّمَع والدَّناءة والتَّبذُّل، وكان يجوب الأسواقَ من أجل لقمة العيش…، وغيرُه من الجهلَة والسفلَة والأوغاد يتنعَّمون ويأكلون كما تَأكل الأنعامُ، فعَجِبَ من هذه التناقضات السَّافرة، كيف يُذلُّ العلماء والأدباء، ويكرَّم الوضعاء والسُّفهاء، فقال أبياتًا تدلُّ على أنَّ السيل عنده قد بلغ الزُّبى، والسِّكين العظم، والحزام الطُّبْيَيْنِ: جُلوسيَ في سوقٍ أبيعُ وأشتري دليلٌ على أنَّ الأنام قرودُ ولا خير في قومٍ تذلُّ كرامُهم ويعظُم فيهم نذلُهم ويسُودُ وتهجوهم عنِّي رثاثةُ كسوتي هجاءً قبيحًا ما عليه مزيدُ ومن مستطرف الأسجاع ما كتبه عنه الباخرزي في (دُمية القصر) قال: (بلغني أنَّ هذا الفاضل كان يحضر السُّوق، ويحمل إليها الوسوق، ويحلب درَّ الرِّزق ويَمتري، بأن يبيع الأمتعة ويَشتري، فانظر كيف يَحدو الكلام ويسوق، وتأمَّل هل غضَّ من فضله السُّوق، وكان له في سوقة الفضلاء أسوة، أو كأنَّه استعار منهم لأشعاره كسوة، وهم: نصر بن أحمد الخبزرزي، وأبو الفرَج الوأواء الشامي، والسري الرفاء الموصلي؛ أمَّا نصر فكان يدحو لرفاقه الأرزيَّة، ويشكو في أشعاره تلك الرزية، وأما أبو الفرج فكان يسعى بالفواكه رائحًا وغاديًا، ويتغنَّى عليها مناديًا، وأمَّا السريُّ فكان يطري الخلق، ويَرفُو الخرق، ويصف تلك العبرة، ويزعم أنَّه يسترزق بالإبرة، وكيف كان فهذه حِرفةٌ لا تنجو من حُرقة، وصَنعة لا تنجو من ضرعة، وبضاعة لا تَسلم من إضاعة، ومتاع ليس لأهله استمتاع.]. وصدق توفيق الحكيم حين قال في كتابه البرج العاجي ص116: (ولكنَّنا أدباءُ كالعناكب؛ ننسج في الظلام، ونعيش في الجدب والحرمان). وهناك بعض الأدباء والشُّعراء استولى عليهم اليأسُ، وضاقَت بهم السُّبُل، فلم يجدوا بدًّا من التخلُّص من هذه النَّفس المتعبة التي يحملونها وسط ركام من البشريَّة التَّائهة التي لا تقدِّر إبداعًا ولا فنًّا، ولا تُفرِّقُ بين الشِّعر والشَّعير، ومنهم على سبيل التَّمثيل لا الحصر شاعرٌ مغربي نَبغ في مجتمع لم يُقدِّر موهبته، فكتب رسالةً تقطر حسرةً والتياعًا، يقول فيها: أخفقتُ في الشِّعر والكتابة والرسم، ولم أوفَّق حتى في حماقاتي الجميلة في حضن الحياة، وأمام كلِّ الإخفاقات التي واجهتني في الحياة سأقفُ اليوم قويًّا في وجه الموت… وداعًا.. قال ربيع: رحم الله زمانًا كانت القبيلَة من العرب إذا نبغ فيها شاعرٌ أتَت القبائل فهنَّأَتها، وصنعَت الأطعمةَ، واجتمع النساء يَلعبن بالمزاهر، كما يَصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنَّه حمايةٌ لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يُهنئون إلَّا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج. كما يقول صاحب العُمدة. بعض الأدباء والفلاسفة الغربيين انتبَه النَّاس إليهم بعدما شاخوا؛ كالكاتب الأيرلندي الكبير برناردشو، فقد منحَته لجنة نوبل جائزتها عن الأدب سنة 1925 م فرفضها، وكتبَ إلى أمين السرِّ في اللَّجنة: إنَّ هذا المال كالعوَّامة التي ألقيَت إلى السَّابح بعد وصوله إلى برِّ النَّجاة. والفيلسوف الألماني شوبنهور عاش مجهولًا أو شبه مجهول معظم حياته في غرفتين بأحد الفنادق المتوسطة، وحيدًا بلا زَوجة ولا أسرة ولا صَديق، وقد عُرف بفلسفته التشاؤميَّة، وكان يَرى الحياة شرًّا والوجود عبثًا لا معنى له، وعندما أَصدر الجزء الأول من مؤلَّفه الضخم (العالم إرادة وفكرة) أبلغه الناشرُ بعد سنوات من صدوره أنَّه اضطر لبيع نصف الكمية ورقًا للفِّ البضائع! فكَّر في كلِّ شيء واعتزل الحياةَ الفكريَّة وهو في الخامسة والأربعين، وظلَّ لسنوات عدة لا ينشر كتابًا ولا مقالًا. وعندما نشر الجزء الثَّاني من مؤلَّفه (العالم إرادة وفكرة)، إذا بأوروبا كلها تلتفتُ إليه، وتفاجئه الشُّهرة والتقدير اللَّذان انتظرهما طويلًا وهو يَقترب من السبعين، فقال ساخرًا: بعد أن عشتُ حياتي وحيدًا منسيًّا جاؤوا فجأةً يزفُّونني إلى قبري بالطبول؟.. وفي أخبار الأدب الفرنسي أنّ أديبًا كان يكتبُ كلّ يوم قصة ويرسلها إلى إحدى الجرائد، وكان يتمنى في كل صباح أن تنشر له قصة فيأخذ عليها أجرًا ينتفع به في معاشه، ولكن الجريدة التي كان يرسل إليها أقاصيصه لم تنشر له شيئًا، وكذلك كان يستقبل كل صباح بأمل خائب وإحساس مطعون. واتفق له يومًا أن يتأمل أحوال البيت الذي يعيش فيه فوقف على أخبار طفل يتيم دمعت له عيناه؛ فكتب فيه أقصوصة سماها (اليتيم) وأرسلها إلى تلك الجريدة التي أهملت كل ما كتب، وكان يخشى أن تنال تلك الأقصوصة ما نالت أخواتها السوالف من الإهمال، ثم فوجئ بظهور تلك الأقصوصة في صباح اليوم التالي، وما كاد ينتهي من مراجعة الجريدة حتى جاءه خطاب في صك بمبلغ من المال مكافأة على قصته، وفي الخطاب فوق هذا كلمات من طيب الثناء. وأراد ذلك الأديب كما يقول زكي مبارك: أن يحاسب نفسه وأن يقارن بين ما كتب بالأمس وما كتب اليوم، فرأى أن أقاصيص الأمس كانت من وحي الخيال، أما قصة اليوم فكانت من وحي الحياة، وهذا هو السر فيما ظفرت به من كريم القَبول.