هوية بريس-ذ.طارق الحمودي زعم صاحب مقال «الصباح» أن واضعي مقرر «منار» التربية الإسلامية قصدوا مهاجمة الفلسفة بنص ابن تيمية وابن الصلاح، واستشهدوا بمن وصفوه بخريج دار الحديث الحسنية وزعمه أن المقرر تضمن أسئلة توحي التعارض بين الفلسفة والدين بطريقة تدفع التلميذ المغربي المسلم إلى تفضيل دينه على الفلسفة وإقصائها. ولي مع هذا كله وقفتان. الوقفة الأولى: ما هي الفلسفة؟ اشتهر عند الناس تفسير الفلسفة بمحبة الحكمة، وجعلها آخرون مساوية لمعنى العقل، وهو مصطلح يوناني المنشأ، وروحه متشبعة بالثقافة اليونانية، ولذلك ينبغي الاحتياط في التعامل معه، فقد كانت محبة الحكمة في اليونان قائمة على الإلحاد، بعيدة عن الوحي والنبوة، ولهذه النشأة أثر في تحقيق معنى المصطلح، فهي في الأصل إذن محبة الحكمة بغير توجيه من الوحي. بعد تسرب الفكر الفلسفي اليوناني إلى المسلمين، ظهر ميل بعض المفكرين إليها، كأمثال الكندي والفارابي وابن سينا، ثم ابن باجة وابن طفيل وابن رشد في آخرين، وسمي الجميع مشائين لنصرتهم طريقة أرسطو اليوناني في الجملة، وأحيانا على جهة التفصيل كما كان حال ابن رشد الذي كان يغلو في أرسطو، ويكاد يجعله نبيا، وقد أظهر هؤلاء الفلاسفة كثيرا من المعارضة للوحي والعقيدة الإسلامية، فمنهم من جعل الفلسفة في مرتبة النبوة من حيث منتهاهما كأبي نصر الفارابي الشيعي، ومنهم من أنكر بعث الأجساد بعد الموت وعلى رأسهم ابن سينا الشيعي الرافضي، والذي كان يعتقد أن المتصرف في الكائنات هي نفوس الكواكب!! وينتشر فيهم اعتقاد أن الكائنات لم تكن عن خلق بإرادة ربانية، بل صدرت وفاضت عنه دون إرادته، فقط لأنه كان يتعقل في نفسه… لأنه عقل!!! في أمور أخرى مستنكرة. كان كل هذا وغيره ما دفع الإمام أبا حامد الغزالي إلى تكفيرهم والرد عليهم في كتابه «تهافت الفلاسفة»، والذي حاول ابن رشد نقده بكتابه «تهافت التهافت»، ولكن ضربة الغزالي كانت موجعة.. جدا، قال الغزالي في التهافت: «انتدبت لتحرير هذا الكتاب ردا على الفلاسفة القدماء، مبينا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفا عن غوائل مذهبهم وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء..». وقال: «طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات واستحقروا شعائر الدين، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عن توقيفاته وقيوده». ليس عند المسلمين حرج في استعمال مصطلح الفلسفة، ولا في اعتقاد معناها مُخلَّصا ومجردا عن التبعية لأصله وعقائده، فالحكمة ضالة المؤمن، ولعل هذا ما قصده ابن حزم في قوله: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس شيئا غير إصلاح النفس، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن السياسة للرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة… فيقال لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة، وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها..». لسنا ننكر الفلسفة بهذا المعنى كما يروج له بعض الكذابين، إنما ننكر الفلسفة على ما كانت عليه من مزاحمة للشرع والوحي، وما استقرت عليه اليوم عند أغلب المتفلسفة، من إلحاد وإنكار للشريعة، فصارت الفلسفة اليوم غالبا علما على ذلك، وهي مخالفة للوحي والنبوة، وهذه الفلسفة هي ما قصده -في الغالب- واضعو مقرر منار التربية الإسلامية. الوقفة الثانية: ما كان موقف علمائنا من الأشاعرة والمالكية من الفلسفة المنحرفة؟ حينما تراجع مقررات الفلسفة في التعليم المغربي، تجد شحنا غريبا لنصوص كبار الملاحدة في تاريخ الفلسفة، من شيوعيين ووجوديين وإباحيين وبنيويين، بل تجدهم قد حشروا فيها نصوصا لفلاسفة اليونان قبل الميلاد… لأفلاطون الشيوعي وأرسطو وأبيقور شيخ البراغماتية، وغيرهم من فلاسفة اليونان الملاحدة مما قبل الميلاد، وهذا معلم بأن الفسلفة اليوم للأسف في سجن هؤلاء الملاحدة والزنادقة والإباحيين الذين لا يؤمنون بالخالق جل وعلا، ولا يعترفون بنبوة ولا رسالة على وجه التحقيق، وهو أمر يستوجب تخليصها منهم، وردها إلى معناها الأعم، فلماذا لا تستعمل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال أئمة المسلمين -إلا تحلة القسم وذرا للرماد في العيون وبانتقائية- في المباحث الإنسانية في مقرر الفلسفة؟ أبدأ بأحد كبار الأئمة المالكية الأشاعرة، وهو أبو الوليد الباجي رحمه الله، فقد روى العلامة الألمعي أبو بكر ابن العربي المالكي الأشعري في «العواصم من القواصم» عن العلامة الكبير أبي بكر الطرطوشي المالكي أن أحد المتفلسفين قال لعلامة الأندلس أبي الوليد الباجي المالكي (وكان شيخا للطرطوشي): «هل قرأت أدب النفس لأفلاطون؟ فرد عليه الباجي قائلا: إنما قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم». واضح جدا مقصود الباجي من جوابه، وهو أننا مستغنون بالوحي والنبوة عن خزعبلات أفلاطون ومن اقتفى أثره، وهو رد يكفي عن مقالات. وأما العلامة الكبير، والمؤرخ النحرير، إمام «علم الاجتماع» الإسلامي، عبد الرحمن ابن خلدون المالكي الأشعري، الذي مدحه الجابري وأعلى من قدره، فإنه عقد في مقدمته فصلا عن الفسلفة، وكان قصده من ذلك كما قال: «إبطال الفلسفة وفساد منتحلها… ضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها.. فليكن الناظر فيها متحررا جهده عن معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة». بل ألف المتكلم الأشعري الكبير أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي المغربي المتوفى سنة 626ه كتابا خاصا في الرد عليهم سماه «لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول» قال فيه: قصدنا فيه الرد على أرسطوطاليس ومن تبعه من المشائين، ولم نلتفت إلى الرواقيين لبيان فساد مذاهبهم ووضوح سقوط أدلتهم، فشننا على رؤساء الفلاسفة الغارة… وكشفنا بعون الله عن تلك المعايب…». كان واضعو المقرر يقصدون أصالة خوض الفلسفة في الأمور الغيبة والأخروية على جهة التحقيق، فإنهم زعموا القدرة على الوقوف على حقائقها بالعقل فضلوا، وهو ما نبه عليه العلامة الكبير، وأحد أئمة المقاصد والتجديد، أبو إسحاق الشاطبي المالكي الأشعري في كتابه «الاعتصام» فإنه قال: «ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه، لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل، والأنبياء أيضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر، وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية. غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله، وهو التعبد لله، فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها بعض الأصول المعلومة، فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها أو تلقفوا منها فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم، وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا، وليس الأمر كما زعموا، فالعقل غير مستقل البتة ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق، ولا يمكن في أحوال الآخره قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي». ومثل أحوال الآخرة مسائل القيم والأخلاق ومباحث الإرادة والحرية والعدل والحق والجمال، فلا بد من ردها إلى الوحي أولا، ليسدد الفهم، ويعين على بلوغ الحق، وإلا فالزيغ عن سواء السبيل مصير من يتعاطاها بلا توجيه من الشريعة الإسلامية، وتجد بيان هذا عند الأستاذ الدكتور طه عبد الرحمن المغربي في كتبه المتعلقة بالأخلاقيات. فهل هؤلاء الأعلام… ظلاميون ورجعيون…؟