شكل وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولاياتالمتحدة الأميركية بهزيمته لمنافسته هيلاري كلينتون صدمة لكثير من الناس حول العالم، وقد اجتهد كثير من المداخلات الأكاديمية والصحفية في تفسير هذا الحدث بسياقاته المركبة، ولهذا فما يهمنا هنا ليس تفسير ما حدث بل رصد وتوصيف دلالاته بالمقارنة مع دلالات صدمات سياسية واجتماعية مشابهة منذ نهايات العام الماضي لاستشراف المستقبل. أسباب "الصدمة" يمكننا تلخيص أهم أسباب حالات الذهول التي سببها انتصار ترامب في ثلاثة عوامل: الأول هو التصوير غير التاريخي للديمقراطية باعتبارها عملية تصحح نفسها مع القبول بكل شروط الواقع؛ أي بدون كفاح جذري بوسائل ديمقراطية ينشد تغيير بعض أو كل أجزاء خريطة القوة والنفوذ في المجتمع والدولة، وهذا تصوير شاع تحت تأثير نشوة انتهاء الحرب الباردة بين نخب الإعلام والمال الأميركيين، وكان مغلفا ببعض المبالغات مثل "الديمقراطية الأعرق في العالم" وغيرها من العبارات الدعائية والتضليلية. مشكلة هذا التصوير أنه يناقض جزءا كبيرا من النقد التاريخي للديمقراطية ومن قبل اتجاهات فكرية مختلفة، ويناقض كذلك تاريخ الديمقراطيات. وإلى جانب هذا شاع تصور بأنه "لن يسمح" لترامب بالوصول لمبتغاه وتم اختزال الأمر في أمور غير قابلة للقياس ونسبية للغاية مثل "وعي المجتمع" بدون وضع اعتبار للسياق التاريخي المعقد وتحولات المجتمع وانتعاش الدولة القومية، وسنعود لهذا الجانب لاحقا. "إن الاستطلاعات في كثير من شؤون السياسة والانتخابات عموما تأخذ عينات صغيرة تتراوح بين بضع مئات وألفي شخص، وهذه العينات بالقياس إلى بلد قاري وسكانه بمئات الملايين مثل أميركا يفترض أن تؤخذ الاستطلاعات المعتمدة عليها في حدودها كمجرد "مؤشر"" الثاني يخص استطلاعات الرأي، ولكن على عكس ما ذهب إليه كثيرون في نقدهم لفكرة "الاستطلاعات" ذاتها ولإشاراتها المغايرة للواقع، ورغم أنه في أساسه النظري نقد جيد ويصح على حالات أخرى كثيرة، فإننا نرى أنه في حالة صراع ترامب وكلينتون تحديدا نقد غير سديد؛ فالإشكال لم يكن في استطلاعات الرأي بل في التصور الشائع والعلمي بشأنها واستخدام الإعلام لها، أما تلك الاستطلاعات فهي في حال متابعتها بتأن تعطي عكس ما كرسه الإعلام على أساسها. ابتداء، فإن الاستطلاعات في كثير من شؤون السياسة والانتخابات عموما تأخذ عينات صغيرة تتراوح بين بضع مئات وألفي شخص، وهذه العينات بالقياس إلى بلد قاري وسكانه بمئات الملايين مثل أميركا يفترض أن تؤخذ الاستطلاعات المعتمدة عليها في حدودها كمجرد "مؤشر" عادي، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، في عمليات القياس المختلفة -بما فيها القياسات في تجارب المعامل في العلوم الطبيعية- تحليل وتقدير "الحيود" في عمليات القياس، ولكن وسائل الإعلام أحيانا -إن لم يكن غالبا- لا تذكر هامش الخطأ عند عرضها لنتائج استطلاعات الرأي. في حالة ترامب وكلينتون، سنجد أولا أن استطلاعات الرأي كانت مختلفة ومضطربة خلال شهر واحد فقط وهذا يعكس مدى التشوش في المناخ السياسي الذي يتحرك فيه الناخبون. كما أننا سنجد ثانيا أن الفوارق بين المرشحين كانت محصورة في نقاط معدودة، وإذا ما أخذنا بالاعتبار هامش خطأ معين، فإن الفارق بين المرشحين كان من الممكن أن يتقلص إلى نقطة واحدة!، وهناك مقال مهم في صحيفة الغارديان البريطانية الشهر الماضي احتوى إشارة مهمة لهذا الجانب. بناء على ما سبق، ما كانت تشير إليه الاستطلاعات مختلف تماما عن التوقعات التي قامت بصياغتها وسائل الاعلام المرئية الأميركية المعادية لترامب بتوظيفها تلك الاستطلاعات ذاتها. ونذكر هنا بأن الاستطلاعات تعطي إشارات قريبة من الحسم يمكن أخذها في الاعتبار عندما تتوفر فيها ثلاث سمات أساسية: ضخامة العينات، وتكرار القياس، وظهور أغلبية ساحقة لا يؤثر فيها كثيرا هامش الخطأ، وأغلب هذه السمات كان غائبا في حالة الاستطلاعات قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية. ورغم كل ذلك، جدير بالذكر أن كلينتون حازت أصواتا شعبية أكثر من دونالد ترامب بفارق ضئيل ولكن خسارتها كانت في أصوات المجمع الانتخابي. العامل الثالث كان افتراض أن شبكات التواصل الاجتماعي نسخة مطابقة للواقع المعاش، وهذا خطأ جسيم لأنه لا يضع التفاعل في شبكات العالم الافتراضي في سياق سيسيولوجي. أظهرت إحدى الاحصائيات بأن نسبة مستخدمي شبكة التواصل الاجتماعي في الولاياتالمتحدة في عام 2016 بلغت 78% وهذه بالتأكيد نسبة ضخمة تحتاج التوقف عندها. على الرغم من احتواء هذه النسبة على شرائح عمرية وقطاعات مهنية مختلفة، يخضع تفاعلها في شبكات التواصل لشروط مختلفة؛ فالوقت المتوفر ونمط الحياة وتأثير النشاط العملي يجعلان مدى النشاط في العالم الافتراضي عند عمال المصانع على سبيل المثال مختلف عنه عند طلاب الجامعات والأكاديميين. ولأن أغلبية الشباب وحملة الشهادات العليا الذين ذهبوا للاقتراع كانوا مؤيدين لكلينتون، كان الانطباع الذي كرسته مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي هو الفوز الحتمي للمرشحة الديمقراطية، وهذه إحدى الحالات التي تعيد التأكيد على أهمية إخضاع بنية التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي ونوعية التفاعل فيه إلى سياقات اجتماعية واقتصادية أكثر تركيبا. صراع الأجيال مجتمعات الدول الصناعية التاريخية في آسيا وأوروبا الغربية وأميركا الشمالية تتميز ببعض السمات المشتركة رغم تباين سياقاتها التاريخية والثقافية، ومن هذه السمات ارتفاع معدل الشيوخ والكهول وتضاؤل شريحة الشباب. هذه السمة تعد عاملا أكثر خطورة مما يعتقد البعض، وقد أظهرت بعض الصدمات السياسية اليمينية في عام 2016 مدى حيوية هذا العامل. في كل من الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، والتصويت في بريطانيا حول خروجها من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران الماضي، وانتخابات مجالس بعض الولايات الألمانية في مارس/آذار الفائت، كان أغلبية المواطنين الكهول والشيوخ أهم دافعي اليمين لحصد الانتصارات، في حين كانت أغلبية الشباب مع خيارات مختلفة أكثر انفتاحا، وتعميم هذا التضاد القيمي على أساس العمر على كل الحالات؛ أي باعتبار الشباب أكثر تقدمية في مقابل كهول أكثر رجعية، أمر غير دقيق؛ ففي فرنسا على سبيل المثال استطاعت الجبهة الوطنية اختراق الفئات العمرية الشابة وبناء قواعد فيها ساعدتها في تحقيق الخطوة "المفاجئة" في انتخابات نهاية العام الفائت، وكذلك فعل حزب النمسا الحرياتي في انتخابات مايو/أيار الماضي. بالإمكان أيضا أخذ عامل الفوارق العمرية في المجتمع عند النظر إلى حالات يمينية أكثر توحشا وغير ديمقراطية في العالم الثالث، ومنها مثلا اليمين الدولتي فاشيستي الطابع المتمثل في نظام عبد الفتاح السيسي في مصر؛ ففي استطلاع قام به موقع (صوتك. كوم) عام 2014 قبيل الانتخابات الرئاسية كانت القاعدة المحافظة التي يرتكز عليها السيسي تتمثل في فئة الكهول والشيوخ، في حين كانت أغلبية الشباب موزعة بين تأييد المرشح حمدين صباحي أو مع خيارات أخرى مثل المقاطعة. في حالة الدول الصناعية الديمقراطية في الوقت الراهن يكون لعامل الفئات العمرية أثر على عدة مستويات وهو أثر أكبر مما كان عليه الحال في نفس الدول قبل نصف قرن؛ فتطور الطبابة والرعاية الصحية وتغير شكل الصراعات الدولية بالتوازي مع تدني معدل الخصوبة بفعل ضغوط المعيشة وقلق الحياة وتطور تصور المسؤولية الأخلاقية إزاء تربية الأطفال تدفع المجتمع للشيخوخة وزيادة تفوق الكهول والشيوخ – نظريا بالطبع- في تقرير اتجاهات المجتمع من جهة، كما تدفع هذه المجتمعات إلى التعويض عبر فتح الباب للمهاجرين من جهة أخرى، وهذا نمط عام في العالم الصناعي فيه تدرجات مختلفة ولكن تشكل اليابان استثناء منه. تمايز التوجهات على أسس عمرية أو طبقية في حالة صعود اليمين الشعبوي له آثار عدة كما ذكر آنفا، أكثرها عمقا هو إعادة فتح النقاش حول واحدة من المشكلات المزمنة المرافقة للديمقراطية في تاريخ الفكر السياسي وهي حدود الصراع حول تعريف الصالح العام. في حالات الاستقرار النسبي للمجتمع والقبول بالمبادئ والقيم التي تؤطر الواقع السياسي -بغض النظر عن رأينا في "عدالته"- لا يؤدي الصراع حول تعريف الصالح العام إلى انشقاقات رأسية ويظل الصراع في حيز مأمون، ولكن في الحالة الأميركية الأخيرة على سبيل المثال، يصبح تعريف البعض للصالح العام عبارة عن تمييز واضح ضد قطاعات اجتماعية يتم فرزها على أساس اللون أو الجنس أو الدين، وهكذا فإن دعم الكهول وكبار السن ليميني شعبوي وإيصاله إلى الرئاسة يعني من ناحية مبدئية العبث بمستقبل فئات عمرية شابة كان من "العدالة" أن يكون لها نصيب وازن في تقرير واقعها وتعريف صالحها عبر العملية الديمقراطية. العمل لأجل المستقبل من الأمور التي تحتاج إمعان النظر فيها في سياق تحليل انتصارات اليمين الشعبوي في أميركا وأوروبا واستشراف المستقبل هو دور العمال في دعم اليمين. في ميتشغان ذات القواعد العمالية، والتي كانت تصوت طوال عقود للديمقراطيين، انتصر ترامب، وفي الانتخابات الرئاسية النمساوية في مايو/أيار الماضي، كانت نسب دعم العمال للمرشح اليميني المتطرف نوربرت هوفر واضحة وحاسمة؛ حيث بلغت نسبة العمال المؤيدين له 86%، ويمكن كذلك مع بعض التمييزات النظر إلى قواعد حزب البديل في ألمانيا في هذا السياق أيضا. كما لاحظ الصحفي روبرت باوش في تحليله لتصاعد قوة اليمين في النمساوألمانيا ودور العمال ومتوسطي التعليم في هذا الدعم، فإن من المفارقات التاريخية القاتمة أن كلا الدولتين كانتا من المشاتل التاريخية للقوى الاشتراكية الديمقراطية والتي كان العمال يشكلون جزءا من قواعدها. في حالة دعم قطاعات عمالية ليمينيين شعبويين عامة ولترامب تحديدا يتجلى بؤس العالم السياسي في هذه اللحظة من التاريخ وانعدام الخيارات أمام المجتمعات، بغض النظر الآن عن الأسباب الكثيرة والمتشابكة لهذا الدعم. فأن يثق قطاع من العمال في ملياردير أميركي ورث الغنى والثروة عن أبيه، ويمثل منتجا نموذجيا للنظام الرأسمالي في أحدث وأكثر صوره الساحقة للفقراء والمكرسة للتفاوت الطبقي، وأن يرى قطاع من المحتجين والمسحوقين بأن الانتقام من النخبة السياسية التقليدية سيكون عبر ثري من خارج النخبة السياسية ولكنه في مواقفه ومسيرة حياته ليس من خارج النظام العام المنتج لهذه النخبة، فهذا يعني أن الواقع السياسي أضحى عقيما ويحتاج تحولات كبيرة في النصف الأول من هذا القرن. على كل حال، نجاح ترامب المدوي أعطى زخما إضافيا كبيرا لحركة اليمين المتطرف في أوروبا وسيظهر هذا في العمليات الانتخابات الأوروبية المقبلة، وهذا يعني بأن العالم كله سيكون إما تحت حكم اليمين أو تحت ضغطه على الأقل، وما سيتجه إليه ترامب واليمين في أوروبا في مقبل السنوات -بعد وضوح نتائج اتجاهات اليمين في روسيا والشرق الأوسط وشرق أوروبا- سيكون محددا لطبيعة ردات الفعل الاجتماعية؛ فإذا ما أوفى ترامب بتعهداته الشعبوية المتطرفة أثناء حملته الانتخابية وحاول تطبيق جزء منها -وهذا ليس سهلا في نظام ديمقراطي يشهد انقساما اجتماعيا- فهذا قد يدفع القطاعات الاجتماعية المتضررة لإنتاج خياراتها وقواها، وإذا ما اتضح بأن تلك الوعود كانت فقط للاستهلاك العام فإن هذا سيعني أن القطاعات التي دعمته قد تم خداعها، ولكن القطاعات التي عارضته ستبقى مهددة بشعبوي أكثر تطرفا سيظهر لاحقا ما دامت هناك قواعد اجتماعية لليمين الشعبوي. في خلاصة الأمر، تبدو العشرية القادمة شاقة كما يرى كثير من الكتاب والمثقفين، وهي في العالم العربي أكثر مراراة بفعل حكم اليمين وكوارثه ممثلا في الأنظمة العربية الرجعية والتي اشتدت ضراوتها بفعل الثورة المضادة وتحالف اليمين في العالم معها ابتداء من روسيا ومرورا بإيران وانتهاء بإسرائيل، هذا بالإضافة إلى الحركات الأصولية العنفية مثل داعش (تنظيم الدولة) وشبيهاتها. ولكن رغم كل هذه المرارات المرجحة، فإنها على الأقل ستدق مسمارا جديدا في نعش خرافة انهيار اليسار والانتصار السياسي والأخلاقي الحتمي للرأسمالية والنيوليبرالية، ويظهر لنا الآن وسيظهر هذا بصورة أشد وضوحا في مقبل السنوات بأن القبول بشروط الواقع كلها -سواء في الدول الديمقراطية أم القمعية- كأفضل طريق للاستمرار في العيش لم يعد مقنعا- وأن الحاجة إلى إعادة بعث ثقافة التنظيم السياسي في مقابل ثقافة المنظمات المدنية وتكوين تشكيلات سياسية ديمقراطية جديدة برؤى أكثر جذرية في مطالبتها بالعدالة تقود كفاحا سياسيا واجتماعيا شاقا وتشكل تحالفات اجتماعية قوية أصبح حاجة حيوية لمجتمعات العالم كله تقريبا. (المصدر: الجزيرة).