لو كان التوتر رجلا لقتلته، فضحاياه اليوم يزيد عددهم عن قتلى هيروشيما أو بركان فيزوف. إن أصابع الاتهام لا تكف عن الإشارة إليه كسبب رئيسي في وفاة ثمانية ملايين شخص كل عام. لا فرق في ذلك بين مالك أسهم في البورصات الدولية، وبين من لايملك قوت يومه. كان الإنسان حتى وقت قريب يؤَمّن احتياجاته من الطعام، ثم يعود إلى بيته مساء لينسج حكايات عن الأمير وابنة الحطاب، والأميرة والراعي، والصياد الذي عثر في بطن سمكة على عقد من اللؤلؤ. كانوا يجدون في الحكايات لذة تحقيق الأمنيات البعيدة، فلم يعانوا من ضغوط نفسية رهيبة، كالتي يئن تحت وطأتها إنسان الوفرة والاستهلاك، ومخترع الطائرة والثلاجة والحواسيب. هذا المخلوق الذي تخلص من الجاذبية ليصعد إلى القمر، لكنه لم يتخلص من الوحش الذي بداخله لينعم بالسعادة. يُولّد الإيقاع اللاهث للحياة المعاصرة جملة من التحديات والظروف الصعبة التي تُلزم الإنسان بالتكيف معها. ونتيجة لذلك يتراكم بداخله ما يسميه علماء النفس " التوتر الكامن"، أو ما نعبر عنه في حياتنا اليومية بالمزاج السيء، وفقدان حس الدعابة، والعجز عن مواجهة الأخطاء والمشكلات. لعل إحدى أكثر مسببات التوتر شيوعا اليوم هي الرغبة الجارفة في التفوق، وتأكيد الذات، وتحقيق الإنجاز العالي. فالنماذج المجتمعية التي يروج لها الإعلام بشكل مفرط، يتم تقديمها على أساس أنها مرتفعة الأداء؛ مما يستحث دوافع الأفراد ويُحفزهم لإيجاد موقع في دائرة الضوء. وهو بالتأكيد شيء طيب، لولا أنه يتجاهل المعايير المرتبطة بالثقافة الأسرية، والبيئة الاجتماعية. ويرجع السبب الثاني إلى السعي المتواصل لتحقيق السعادة خارج الذات، بينما تؤكد التجارب والوقائع اليومية أنها شعور داخلي، يتحقق من خلال مجموعة من الفضائل التي تتجاوز الزمان والمكان، والتي صار بالإمكان قياسها من منظور تحليلي علمي لإثراء القوى الإنسانية. وماذا يملك إنسان الميديا الذي تداهمه آلاف الرسائل الإعلامية و الإعلانية لإقناعه بأن السعادة لا تتحقق سوى خارجه، وأن حياته هي رحلة بحث مضن عن الشيء أو الشخص الذي يملك المفتاح؟ تجيب لويس ليفي مؤلفة كتاب (اِخلع رداء التوتر):" إذا قررت أنا أن الأمر يتطلب شخصا آخر ليجعلني سعيدة، فإنني إذن وضعت سعادتي في يد هذا الشخص الآخر. فهل حقا أتوقع أن يفعل شخص آخر ما أود أن يفعله بالضبط حتى أصبح سعيدة؟". سبب آخر يستدعي التوتر، وهو المتعلق بهوس التملك وتكديس الأشياء، وما يستلزمه ذلك من حاجة مستمرة للمال، حتى أن أحدهم عبّر ساخرا بأن السعادة اليوم ليست في المال بل في الأموال. وما يضاعف النشوة المفرطة للاقتناء أنها أصبحت رمزا للمكانة، ومدخلا لتأكيد الذات والقوة والسلطة؛ بل وهيمنت مشاعر الملكية حتى على العلاقة مع الآخر، من خلال عبارات متكررة في التداول اليومي من قبيل " طبيبي، محامي، جمهوري..". إن للتملك جذوره المتأصلة في الطبيعة البشرية، إذ لابد للإنسان أن يملك بعض الأشياء للبقاء على قيد الحياة؛ أما ما يسميه آيريش فروم ب"التملك التطبعي" فهو سلوك مصطنع، يغذي إحساسا زائفا بالهوية والمكانة والصحة العقلية. يقول فروم في كتابه ( الإنسان بين الجوهر والمظهر):" في نمط التملك لا توجد علاقة حية بيني وبين ما أملك. فأنا وما أملك أصبحنا جميعا أشياء..إن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي علاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء، والعلاقة بينهما علاقة موات وليست علاقة حياة". وتضيف لويس ليفي سببا رابعا للتوتر المتزايد، وللضغوط التي باتت تهدد حياتنا النفسية والجسدية، وهو المتعلق بالحضور المتسلط للآلات، ومحاولاتنا المتكررة للتلاؤم مع سرعتها. فنحن ابتكرنا التكنولوجيا، لكن أجسادنا ليست مهيأة لمواكبتها. لقد اعتدنا قديما أن نستجيب للتوتر في المواقف المثيرة من خلال ضخ الأدرينالين اللازم للهروب أو القتال؟ أما اليوم فلا يمكننا فعل نفس الشيء ونحن نتعامل مع عطل في السيارة، أو أمام الصراف الآلي. وهذا الضغط الذي تمارسه الآلات بشكل يومي لا يمكن لأجسادنا أن تتحمله. ما الحل إذن؟ وكيف نتخلص من هذا الثقب الهائل الذي يمتص راحتنا وسعادتنا، وآمالنا في عيش أفضل؟ تلقي دور النشر في الآونة الأخيرة بعدد كبير من الإصدارات التي تندرج تحت ما يسمى بالتطوير الذاتي. ومن خلال العناوين يظهر شبه إجماع على أن التوتر هو سمة العصر، والعابث الأول بأعصابنا. تلك الموصلات التي ترزح اليوم تحت ظلمات الهم والقلق والأرق. تدور أغلب العناوين حول ضرورة تبسيط حياتنا. وتتنوع المسميات بين فن العيش، وفن الغفران، وفن الحياة البسيطة، بل حتى فن اللامبالاة. أما الحلول والبدائل فأغلبها مستقاة من النصوص الدينية القديمة، ومن معطيات علم النفس والبيولوجيا وفسيولوجيا الأعصاب. وهي في مجملها دعوة للضحك الذي يجلب الأوكسجين، ويخفف الشد الموجود في عضلاتنا، ولإجراء تمارين الاسترخاء والتنفس، والعودة إلى الطبيعة التي تُذكرّنا برحم الأم، حيث بدأنا الحياة في سائل محاط بموجات دافئة ومغذية. يحرمنا التوتر بهجة الحياة فيفقد الإنسان الاهتمام بصحته وجماله، وتعتريه شيخوخة مبكرة. ولو تأمل في الأسباب كما يقول ماركوس أوريليوس، لوجد أن الألم والضغوط ليست نتيجة لتلك العوامل نفسها، بل لتقييمه لها؛ وهو الأمر الذي يمكنه إيقافه في أية لحظة. وبعبارة تولستوي الرشيقة: " إذا أردت أن تكون سعيدا، فكن سعيدا ! "